إشكالية الهوية والمواطنة في سورية (1-2)
تلاقي إشكالية الهوية جدلاً واسعاً في مراحل الأزمات، كما هو حالنا في سورية منذ خمسة عقود، وقد كانت ثورة الحرية والكرامة كاشفة لهذه الإشكالية بكل وضوح، مما يفرض علينا اجتراح حلول فكرية وسياسية ناجعة لهذه الإشكالية. خاصة في ظل ما حمله فيض الأفكار والمعلومات والصور والقيم، القادمة مع ثورة الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي، من إمكانية تفجّر أزمة “الهويات القاتلة”، حيث تنبعث العصبيات القبلية والطائفية والمذهبية والقومية، وتزداد الرغبة في البحث عن الجذور وحماية الخصوصية.
مما يطرح علينا مجموعة من الأسئلة: هل تتشكل الهوية عبر معطى تاريخي ثابت وكامل وغير قابل للتغيير، أم انها تتطور وتتراكم وتتفاعل مع غيرها؟ وكيف يمكننا الحديث عن هوية موحِّدة في بلد متعدد الثقافات؟ أي كيف يمكن أن تكون العلاقة بين الهويات الفرعية المختلفة في إطار الهوية الوطنية الجامعة؟ أهي علاقة ” مغالبة ” تحت مبررات “الأكثرية والأقلية”، أم ينبغي أن تكون على أساس المساواة والشراكة الوطنية ومبادئ الحق والعدل واحترام حقوق الإنسان؟.
1- الهوية وإشكالية الاختلاف
مفهوم الهوية من أكثر المفاهيم “انفلاتاً وزئبقية”، إذ يتعدد حسب تعدد المجالات التي تتداخل معانيه مع نسق اشتغالها، وعليه فإنّ كل المحاولات التي سعت إلى تعريفها “لم تستطع أن تغطي كل أبعاد دلالتها بشكل شمولي، نظراً لتعدد وتنوّع هذه الأبعاد”[1]. إذ إنّ الهوية تكون فردية واجتماعية، وداخل كل هوية توجد هويات أخرى (مثلاً داخل الهوية الإسلامية الجمعية توجد هوية سنيّة وأخرى شيعيّة)، فضلاً عن تمايز هوية الفرد بتمايز فترات حياته. حيث أنّ الاستقلال الذاتي للأفراد يتغيّر مع تغيّر العوامل الاجتماعية، فمع الارتقاء التعليمي “ترتقي إمكانية التفكير”، ومع الارتقاء في المرتبة المهنية “تتعاظم السلطة والمسؤولية في صنع القرارات”، ومع دمج الفرد في تقسيم شامل للعمل، من خلال علاقات التبادل وشبكات وسائل الاتصال “يقلل من اعتماده على المجموعة الأصلية، ويفتح مجالات جديدة من الحرية له”، مما يشكل مرتكزات لـ “الاستقلال الذاتي للفرد”[2].
هكذا، نلاحظ أنّ مسألة الهوية معقدة، حيث تُطرَح بشكل مختلف إذا كنا نعيش في عصر الحداثة أو في عقلية العصور الوسطى. ففي العقل الحداثي “لا تكون الهوية سجناً مغلقاً، وإنما تكون حقلاً مشتركاً للدلالة والمعنى وإطاراً للذاكرة الجماعية المشتركة، مما يخلق إمكانات غنية للتعارف والتواصل، وبالتالي للحوار والنقاش العمومي”. هي الوعي بأنّ وضعيتنا في الزمن “غير منغلقة في الحاضر، بل هي مرتبطة بماضٍ تشكّل فيه انتماؤنا، ومفتوحة على مستقبل يضعها في موقع التحدي والسؤال”[3]. حيث أننا إزاء وجهين للهوية[4]: أولهما، ثابت “فطري”، لا خيار فيه للإنسان كالمورثات الجينية، التي لا خيار له في اختيارها. وثانيهما، متغيّر، يتعلق بالفضاء الحضاري عموماً، والذي من خلاله تكتسب الهوية صفات وخصائص جديدة.
وهكذا، فإنّ السيرورة “تحرر بنية الهوية من الضمانات الوقائية الأصلية والقيود البدائية، وتحولها إلى بيئة للتواصل”، أي “تتولى الهوية الواقعية بكليتها عملية تطورها بوصفها حقيقة عيانية”[5]. وبقدر ما أنّ هذه السيرورة للهوية تعزز الفردانية فإنها، في المقابل، لا تلغي “الوعي الجمعي”، المتمثل في وجود قيم مشتركة بين أفراد المجتمع، مما “يدفع، بشكل وظيفي، باتجاه البناء والتكامل والاندماج الاجتماعي الوطني”[6].
لا شك أنّ لا وجود لشعب دون هوية جمعية، تتغذى عبر التاريخ، لتشكل استجابة مرنة لتحوّل الأوضاع الاجتماعية والانعطافات التي يتعرض لها هذا الشعب. أي أنّ هوية أية أمة أو مجتمع ليست أمراً سرمدياً، بل هي مرتبطة بكافة المؤثرات الداخلية والخارجية، خاصة عملية تداول الثقافات والأفكار.
ومن المؤثرات الداخلية يمكن أن نلاحظ محاولات الأنظمة التسلطية، كما هو حالنا في سورية طوال خمسة عقود، أن تسم المجتمع بسمة واحدة، حيث تحوّله إلى “جمهور” بهوية تطغى على كل خصائصه المكوّنة عبر التاريخ. وذلك من خلال “تطويع الذاكرة الجماعية”، وخلق وعي جديد يتماهى مع أيديولوجية النخبة الحاكمة واستراتيجيتها على المدى البعيد، بما يؤدي إلى “الاستلاب الاجتماعي”، حيث توصل أفراد المجتمع إلى حالة من الفعل يصل إلى حدِّ “غريزة القطيع”، مع تغييب الوعي والفكر النقديين، بل “منساقين بدلالات الشعارات والرموز والصور، التي تهيمن على فضاءاتهم، التي حوّلها النظام التسلطي، عبر آلته الدعائية والخطابية، إلى حالة من الأجندة التي تختزل الذاكرة الجماعية بشكل كامل”[7].
كما أنّ الطبيعة المرنة للهوية تخالف ادعاءات التعصب، السياسية والدينية والقومية، وعمليات التحنيط، التي تجري على الهوية، وتجعلها دوغمائيات بأطر مقدسة مغلقة، تخالف حقيقة حرية الإرادة، وتجعل من الآخر عدوّاً، بما يؤجج الصراعات الدينية والقومية. وفي حالة الدولة والمجتمع، يمكن للتعصب أن يكون سبباً في تفككهما، فعندما تكون “الهوية الدينية” عاملاً وحيداً للتماسك الاجتماعي، لاسيما في المجتمعات المتعددة المكوّنات الدينية، فإنها تصبح “مورد التعبئة والتحشيد العام الوحيد لأصحاب مشروعات الهوية المغلقة”. بحيث تصبح المرجعية الدينية عامل توترات في المجتمع، إذ عندما يقود التطلع إلى التفاعل مع الآخرين باسم العلاقة مع المقدس، أي بحكم قيمة سلبي مسبق ضد هذا الآخر، يفضي ذلك إلى “استبعاد أولئك الذين لا ينتمون إلى المجموعة واستثنائهم بل تهميشهم، لأنهم لا يحملون هوية مماثلة”[8].
إنّ الحديث عن هويات فرعية، أو خصوصيات قومية أو دينية، يستفز بعض الاتجاهات المتعصبة، فهي لا ترى في مجتمعاتنا سوى هوية واحدة، أما الحديث عن حقوق وواجبات ومواطنة كاملة ومساواة تامة، فهو “مؤامرة” ضد الأمة والدين. وكان من نتائج هذا التعصب استيقاظ “الهويات النائمة” في كل مكان كالقنابل الموقوتة، التي تنفجر في وجوهنا على هيئة “حروب أهلية طاحنة”. إذ يرى أمين معلوف أنّ “انغلاق الإنسان في هوية واحدة وتعصبه الشديد لها هو ما يؤدي إلى كره الآخر المختلف، وأحياناً يصل هذا الكره إلى حدِّ تشكيل الهويات القاتلة”[9].
وهكذا، يبدو أنّ فكر الهوية هو في أزمة، لا يرتفع صوته إلا إذا دخل المجتمع في أزمة، احتار الناس في كيفية الخروج منها. وضمن سياق البحث عن أسباب تفجّر الهويات، نعتقد أنّ لثقافة العولمة تأثير مزدوج[10]: من جهة، تؤدي إلى تنشيط الهويات الساكنة واستثارتها لمواجهة ما تعتقده أنه تحدٍّ لوجودها. ومن جهة ثانية، تدفع تلك الهويات الساكنة إلى الخروج من حالة الركود والجمود التي طال أمدها، أي تدفعها إلى تجديد نفسها. وبناء على ذلك التأثير المزدوج فإنّ ردة الفعل أيضاً تكون مزدوجة: اتجاه يريد المحافظة على الهويات الساكنة والانغلاق عليها، الأمر الذي يخدم الفئات التقليدية المستفيدة من هذا الانغلاق الهوياتي. واتجاه يتعامل مع ثقافة العولمة وفق منظور تكيّفي تكاملي، يحافظ على الخصوصية ويعطي – في الآن نفسه – دوراً للمشتركات مع الاتجاهات الإنسانية التي تفرضها ثقافة العولمة، أي قيم العدالة والمساواة والحريات، على اعتبار أنها لا تخصُّ شعباً معيناً أو ثقافة بذاتها، وإنما تخصُّ الإنسانية كلها.
إنّ جدل الهويات لا يعني بالضرورة الصراع بينها، بقدر ما هو حالة “صراع واتحاد، احتدام واحتواء، وعلاقة تمثّل وتعلّم”، رغم المغايرة وعدم التجانس والاختلاف، ما يؤكد “التلازم بين الثقافة من جهة، والتعددية والتنوّع من جهة أخرى”. وبهذا المعنى الهوية “لا تتكوّن بمجرد النشأة والانتماء، وهما موروثان طبيعيان، بل تتكون من خلال عملية الخلق والعمل والصيرورة، وهي عملية إبداعية مستمرة ومفتوحة”[11].
إنّ الموقف من المجموعات الثقافية ودلالاتها لا يقوّم الإنسان بوصفه إنساناً، له حقوق وواجبات معروفة في الدولة الوطنية الحديثة، بحقوق المواطنة، وإنما بوصفه “انتماء”، إثني أو قومي أو ديني أو مذهبي. وهكذا “يتحول الإنساني إلى حقل من الحروب، تبعاً للمصالح السياسية والمادية، فتهيمن الأهواء والنزعات على العقول، وتظهر الوحشية عند الممارسة، ويغيب كل ما هو إنساني”[12].
2- الحداثة السياسية وإشكالية الهوية
فرضت الدولة الحديثة، في بدايات تأسيسها، نموذجاً للهوية وجعلته أحد الشروط الحقوقية للانتماء الوطني، حيث نجد أطراً متدرجة لصناعة الهوية، اعتباراً من المؤسسات المجتمعية والدينية والتعليمية والإعلامية وحتى السلطة السياسية القائمة، وبقي الفرد هو المتلقّي، وأصبح أفراد هذه الدولة مجرد أرقام في آلية الدولة. أما اليوم تتميز الحداثة السياسية بدمج الفردانية بالتكوين الجديد للمجتمعات والدول، بعد أن ترافق فتح الأسواق والاتصالات مع الاتساع في تأسيس منظمات مجتمعية متنوعة حرة. مما فرض ضمان الحقوق والحريات والهويات والفرص لكل الجماعات المكوّنة للمجتمع، بدون الحاجة للاستيعاب القسري، من خلال مشاركة الجميع في صنع القرار، أي صيغة إدارة تقوم على قاعدة عريضة، تحتوي داخلها كل المكوّنات المجتمعية، التي يحظى كل مكوّن منها بنصيب في المشاركة بالإدارة، بالطبع استناداً إلى الكفاءة والقدرات وليس إلى المحاصصات المعطِّلة للجدوى. وبمثل تلك الشراكة تتخفف مخاوف المكوّنات من خطر الاستلحاق والاستعباد، في حالة التطبيق الحرفي لحكم الأغلبية. وذلك انطلاقاً من أنّ الدولة الحديثة هي الإطار السياسي الذي يستطيع الإنسان، من خلاله، تنظيم حياته وشؤونه.
أي لا يمكن الحديث عن منع ” الهويات القاتلة ” في غياب الديمقراطية، باعتبارها أحد أهم مرتكزات الدولة الحديثة، نظراً لقابلية احتوائها الاختلاف وتنظيم العيش المشترك لكل مكوّنات المجتمع، المختلفة بالاعتقاد والرأي والعرق والدين. وهنا تبرز أهمية الديمقراطية التوافقية/الائتلافية، التي تؤكد على المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، ضمن إطار دولة لا مركزية إدارياً.
ويبدو أنّ الاحتواء اللامركزي، كأسلوب مخالف كلياً لأسلوب الهيمنة المركزية، يخلق إمكانية توازن جديد بين الدولة والمجتمع، ويقوم على مبدأ الحوار والجمع بين وحدة الهوية الوطنية واستقلالية إدارة موسّعة، تقدم مجالاً واسعاً لتقاسم الإدارة والثروات والفرص. بما يساعد على الحدِّ من النزعات الانفصالية، ويملأ فراغ المطالب الحقوقية، عبر حماية اللغة والثقافة والدين، في سياق عملية تكامل وطني.
إنّ الدولة اللامركزية، إدارياً وليس سياسياً، جغرافياً وليس قومياً، تنطوي على فوائد عديدة: تغليب المصلحة الوطنية العامة على مصالح الهويات الفرعية، وفسح في المجال لترسيخ وجود دولة مدنية تصون حقوق جميع مكوّناتها، وإنهاء الثقافة السياسية السائدة لصالح مفاهيم الحداثة السياسية، وترسيخ العلاقات التعاقدية المعبّر عنها بـ “العقد الاجتماعي”.
وفي كل الأحوال، من المهم أن تؤدي مبادئ وقيم الحداثة السياسية (الديمقراطية والعلمانية والعقلانية) إلى الهوية الوطنية الجامعة، بما تخلقه من إجراءات الثقة بين المكوّنات الاجتماعية المختلفة، إضافة إلى التخلّي عن “هوس الهوية الفرعية”.
[1]– د. حسن حنفي: الهوية، المجلس المصري الأعلى للثقافة – القاهرة 2012، ط 1، ص 63-75.
[2]– ريتشارد مينش: الأمة والمواطنة في عصر العولمة (من روابط وهويات قومية إلى أخرى متحولة)، ترجمة: عباس عباس، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب – دمشق 2010، ص 199و200.
[3]– عبد الباسط عبد المعطي: اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، سلسلة عالم المعرفة، العدد 314، الكويت 2010، ص 117.
[4]– د. جميل صليبا: المعجم الفلسفي – دار الكتاب اللبناني، بيروت 1982، الجزء الثاني ص 529- 530.
[5]– ريتشارد مينش: الأمة والمواطنة في عصر العولمة، المرجع السابق، ص 243.
[6]– د. السيد ولد أباه: محنة الهوية – صحيفة “الاتحاد” الإماراتية، 30 كانون الأول/ديسمبر 2013.
[7]– راجع ليزا وادين: السيطرة الغامضة، السياسة، الخطاب، والرموز في سورية المعاصرة، ترجمة د. نجيب الغضبان، دار الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى تموز/يوليو 2010.
[8]– مهدي جعفر: الهوية وإشكالية الاختلاف – الموقع الإلكتروني “الحوار المتمدن”، 8 أيار/مايو 2017.
[9]– هاشم صالح: على هامش كتاب أمين معلوف الهويات القاتلة – الموقع الإلكتروني “الأوان”، 6 شباط/فبراير 2014.
[10]– حوار محمد أحمد الصغير مع رشيد الحاج صالح: إشكاليَّات الهويَّة في الثقافة العربيَّة المعاصرة – مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 25 آذار/مارس 2017.
[11]– د. عبد الحسين شعبان: جدلية الهوية والمواطنة في مجتمع متعدد الثقافات – الموقع الإلكتروني “الحوار المتمدن”، 11 تموز/يوليو 2016.
[12]– د. عبد الحسين شعبان: جدلية الهوية والمواطنة في مجتمع متعدد الثقافات، المرجع السابق.