الشعب السوداني متمسك بثورته

img

الانقلاب العسكري الذي قاده عبدالفتاح البرهان القائد العام للقوات المسلحة، أدخل السودان في مرحلة جديدة تعيد للأذهان عهود الديكتاتوريات التي قطعت الطريق على أية تحولات ديمقراطية في السودان المثقل بالمشاكل والتي أدت إلى انفصال الجنوب وقيام دولة مستقلة، وبالصراعات المناطقية والقبلية التي أرهقت السودان وحولته إلى دولة مدينة بمليارات الدولارات وإفقار للشعب السوداني وإضعاف الدولة وتراجع دورها في القارة الإفريقية. الإنقلاب الذي أعلن حالة الطوارئ وحلّ مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين، وإعفاء الولاة واعتقال قيادات حزبية، واعتقال رئيس مجلس الوزراء وأربعة من وزرائه، ومن ثم وضعهم في الإقامة الجبرية تحت ضغوط دولية وإقليمية، هذا الانقلاب الذي قطع مسار الإنتقال بالسودان إلى الحكم المدني وعبّر عن خوف العسكر من الحراك الذي شهده الشارع السوداني بعد حوالي العامين من الإطاحة بحكم البشير حيث تفاقمت الأزمات وضعفت الثقة بتحالف المدنيين مع العسكر وضعف في الكفاءات والإبقاء على عناصر في الجيش من عهد البشير ومن بينهم محمد حمدان دقلو، الملقب ب “حميدتي”، وهو قائد قوات الدعم السريع، والذي يذكرنا بميليشيات “الدفاع الوطني” الصيغة المعدلة للشبيحة التي رعتها أجهزة المخابرات وأعوانها في سوريا مع بدايات الثورة السورية.
الانقلاب قطع الطريق على حراك الشارع السوداني وعلى القوى الحية في السودان التي قاومت جميع الديكتاتوريات التي حكمته، مستغلاً نقمة جماهير السودان على الحكم الانتقالي في ظل تردي أوضاعها المعاشية وبروز مجموعات عسكرية ومدنية وقبلية تنتمي إلى عهد عمر البشير البائد، في محاولة تذكرنا بعودة أكثر من نظام عربي أسقطته ثورات الشعوب للعودة بواجهة جديدة عنوانها تصحيح مسار الثورة، والتي بحقيقتها ليست أكثر من قوى الثورة المضادة التي احتلت مكاناً في مسيرة الثورة من أجل اجهاضها وقطع الطريق عليها بوصولها إلى غاياتها في حرية وكرامة شعوب المنطقة.
قال شعب السودان كلمته في المدن والأرياف وفي الميادين والشوارع والساحات من خلال انتفاضته التي قد تصل إلى العصيان المدني السلمي لإسقاط الحكم العسكري الانقلابي، ولن يرضى بحكم الشراكة بين عسكري مستبد يضيق بالحريات العامة والسياسية، وبين مدني يبحث عن مكاسب ليست لها علاقة بهموم الشعب ويرضى أن يصبح غطاءً لهذا الحاكم العسكري الذي يقدمه عندما يشاء كبش فداء وتحميله سوء الأحوال، لكن شعب السودان وقواه الحية والمجربة لم تعد تقبل بأنصاف الحلول ولم يعد مطلبها عودة جناحي الحكم الانتقالي، العسكري والمدني، بل تدعو لكتابة وثيقة دستورية تنبع فيه السلطة المدنية الديمقراطية من إرادة الشعب تكون قادرة على تنفيذ مهام الفترة الانتقالية وأهمها تحسين الأوضاع المعاشية للناس واستعادة المال المنهوب وقيام جيش وطني موحد ينهي الميليشيات والجيوش المسلحة ويعيد ترتيب أجهزة الشرطة في مختلف ميادينها لخدمة الصالح العام، وتعمل السلطة المدنية الجديدة على انتهاج سياسة خارجية مع دوائر السودان المتعددة، العربية والإفريقية والإسلامية والعالمية، تضمن من خلالها توازن المصالح مع هذه الدوائر. لنا ثقة في قدرة شعب السودان وقواه الحية بتجاوز الأزمة واحداث تطور عميق في هيكل الحكم ومكوناته، الأزمة التي تسبب بها فريقي الحكم الانتقالي: المدني بتردده وعدم جذريته، والعسكري عبر هيمنته وامتلاكه للقوة العسكرية التي وظفها في إجراء العملية الانقلابية وفرض حالة الطوارئ وإلغاء الوثيقة الدستورية، وسيكون ذلك، كما أعلنت عنه قوى حزبية وتجمعات مدنية واسعة، عبر وحدة القوى الشعبية وتشكيل تحالف واسع وثوري يقود الانتفاضة الشعبية والإضراب السياسي وصولاً للعصيان المدني حتى إسقاط الانقلاب وقيام حكم مدني ديمقراطي.
ما يجري في السودان اليوم يؤكد مدى العمق والفعل الذي أحدثته أنظمة العسكر والديكتاتورية على مدار سنوات حكمها الطويلة في المجتمعات، من تخلف وتفتيت في بنيتها والعودة بها إلى ما قبل الدولة الوطنية، الأمر الذي يجعل من عملية التغيير الثوري أمراً ليس سهلاً، ويحتاج إلى أطوار جديدة وتضخيات جسام، لكنه يؤكد أيضاً أن إرادة الشعوب بالتمسك بالثورة ونيل حريتها وكرامتها، عملية مستمرة وصاعدة ومع كل نهوض ثوري تكتسب قوى الثورة تجربة جديدة تعيد فيها ترتيب أوضاعها وانتقالها إلى طور جديد تقترب فيه من إستعادة حريتها وبناء الدولة المدنية الديمقراطية.


الكاتب هيئة التحرير

هيئة التحرير

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة