الثورة السورية تدخل عامها الرابع عشر
بعد مرور ثلاثة عشر عاماً على قيام الثورة السورية، ومقارعتها لأعتى ديكتاتوريات العصر، تجد نفسها اليوم في مأزق كبير، بعد كل ما حصل وما قدّمه الشعب السوري من تضحيات في سبيل نيل حريته وكرامته، قلُ أن قدمها شعب آخر، ولم توجد ثورة في العالم نالت هذا النصيب من الاهتمام والتدخل في شؤونها كما حصل مع الثورة السورية، ولم تبق دولة في العالم، إقليمية كانت أو دولية، ذات تأثير في السياسات الدولية إلا وتدخلت في شأنها بقصد الاستثمار فيها انتصاراً لمصالحها وجعلها ورقة بيدها لتجسيد هذه المصالح نظراً للموقع الجيوسياسي الذي تمتعت به سوريا عبر التاريخ، ولا يسعنا إلا الاشارة إلى الدور الروسي في تقديم كافة أشكال الدعم السياسي والعسكري للنظام، المباشر وغير المباشر ومنع سقوطه خاصة بعد احتلاله المباشر لسوريا في أيلول 2015، ويتساوى في ذلك دور إيران التي جنّدت كافة إمكانياتها لعدم نجاح الثورة والدفع بحزب الله للمشاركة المباشرة في معارك النظام ميدانياً، والاشراف المباشر للحرس الثوري الإيراني على الميليشيات الطائفية التي استقدمها من عدد من الدول، والتي لعبت دوراً على الأرض تحميها القدرات العسكرية للروس ونظام الأسد، وتسببهما فيما آلت إليه أحوال ثورة السوريين، كما لعبت الولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج وتركيا دوراً سلبياً في حالة الاستنقاع التي تمر بها سوريا التي تتقاسمها اليوم سلطات الأمر الواقع، والتي تتنافس فيما بينها على الفساد وقمع المواطنين وافقارهم ودفعهم للهروب إلى خارج البلاد.
فلم يكن غريباً أن يشاهد مسار الثورة هذا التعقيد المختلف والمتميز عما حصل في ثورات الربيع العربي، وأن تكون أكثر إيلاماً على وحدة الدولة والمجتمع، حيث تجلى ذلك في هذا المقدار الكبير من القتلى الشهداء والجرحى والمعتقلين والمغيبين والنازحين من منازلهم واللاجئين في أصقاع الدنيا، والدمار الذي حلّ في مختلف مناحي الحياة وانعكاس ذلك على الصحة والتعليم وتردي خدمات الطاقة والمياه والطرقات، وتدمير هائل في البنيان العمراني والاقتصادي، وانعكاس ذلك على حياة المواطنين الذين يعيش 90% منهم تحت خط الفقر.
لسنا هنا في معرض الحديث عن أسباب انحراف مسار الثورة عن هدفها نحو الأسلمة والعسكرة، وتحويلها رهينة الدول المتدخلة فيها لتغليب قوى الثورة المضادة ومنعها من غلبة النظام الديكتاتوري الفاشي، والوصول بالثورة إلى غاياتها،
وتفريغ أجسامها السياسية التي تشكلت في سياقها من مضامينها: المجلس الوطني والائتلاف، وإدارة ظهرها إلى الشباب الثائر الذي توسم فيها صوتاً معبراً عن طموحاته ومؤثراً في المجتمع الدولي ومؤسساته بزوال هذه الطغمة المجرمة.
أمام ترهل مؤسسات المعارضة الرسمية وتراجع الدور المرجو منها واندراج سياساتها مع رغبات رعاتها وافراغها من محتواها، واتباع سياسات خرجت عن سياق مؤتمر جنيف 1، وقراري مجلس الأمن 2118 و 2254 والتي أُريد منها الذهاب إلى هيئة حكم انتقالي لا مكان فيها للفاسدين واولئك الذين تلطخت أيديهم بدماء الشعب، أمام ذلك تداعى الكثير من الشخصيات بدافع إيجاد مخرج للوضع المتأزم، وعلى مدى السنوات الأخيرة إلى تشكيل أجسام سياسية، تكاد أن تتشابه في أسمائها وتتشارك في بعض الشخصيات الرئيسية المكونة لها، وتتقاسم الكثير من الرؤى والمبادئ مما أصبح متعارفاً عليه: وحدة سوريا أرضاً وشعباً، دولة مواطنة مدنية ديمقراطية، دولة مؤسسات، فصل السلطات… إلخ، وكلها تطمح لتمثيل الثورة والتعبير عن مصالح الشعب السوري، ومعظمها تشكّل بسرعة معتمداً على قراءات قاصرة إلى حد كبير لمواقف الدول المؤثرة في الثورة والقضية السورية، سرعان ما تتضاءل وتنشأ الخلافات فيما بينها وتختفي لتظهر من جديد تحت أسماء جديدة، مخلّفة رغم صدق نوايا معظمها، مزيداً من الإحباط وفقدان الثقة لدى جمهور الثورة الذي لم يعد يهتم بها في ظل صعوبات الحياة التي يعيشها.
نحن اليوم أمام مشهد دولي معقّد، ليس في صالح ثورتنا ومعيق لنهوضها من جديد، حيث العالم مشغول في تحقيق مصالحه في أكثر من مكان حيوي في العالم، ويمكن الإشارة هنا إلى:
- الغزو الروسي لأوكرانيا وإعادة ترتيب أولويات الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة هذا الغزو وانعكاس ذلك على مصالحه وسبل مواجهة هذا الغزو.
- ما يحصل في قطاع غزة من عدوان صهيوني إسرائيلي بربري على القطاع والضفة، الذي يطال الشعب الفلسطيني في أرواحه ولقمة عيشه وأمنه واستقراره وتهديده بالإبادة الجماعية، وتبرير معظم الحكومات الغربية وخاصة حكومات دول الناتو وعلى رأسها أمريكا لهذا العدوان، وتقديمها مختلف أشكال الدعم لحكومة نتنياهو وآلته العسكرية، متذرعة بما أقدمت عليه حركة حماس في فجر السابع من أكتوبر الماضي بعمليتها المعروفة، والتي جاءت في ظل انقسام فلسطيني وتردي الوضع العربي بشقيه الشعبي والرسمي. لم تكن إرادة حكومة ملالي طهران بعيدة عن قرار توقيت وتنفيذ هذه العملية ضمن سياستها المعروفة في دفع أذرعها المنتشرة في أكثر من مكان، والاستثمار بها في لعبة صراعها مع القوى العالمية والاقليمية غير عابئة بعذابات الضحايا وتخريب العمران. وفي هذا السياق لا يمكننا إلّا أن نقدر عالياً الدور البطولي للمقاوم الفلسطيني في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية، والإشادة بالرأي العام الشعبي، وبمواقف الدول التي وقفت إلى جانب شعب فلسطين في محنته.
- استمرار الأعمال العسكرية في أكثر من دولة، وانعكاساتها السلبية على السلام العالمي والتحولات المناخية، ودخول أعداد كبيرة من البشر تحت خط الفقر وتزايد معها أعداد لاجئي الجنوب باتجاه الشمال مما فاقم في التوترات التي كانت حاصلة في أكثر من مكان.
يتحتم علينا اليوم جميعاً، في ظل غياب إرادة وطنية موحدة ومستقلة، وفي ظل حالة الإحباط التي يعيشها معظم السوريين في مناطق سيطرة عصابة الأسد وسلطات الأمر الواقع، وفي المخيمات ودول اللجوء، خاصة الجارة منها، تحّمل المسؤولية التاريخية بتشكيل حالة وطنية تستند إلى تجارب سنوات الثورة وإلى تجارب سنوات النضال ضد الديكتاتورية التي سبقتها، وتستند قبل ذلك على كل من: الحراك الثوري المستمر في محافظة السويداء والذي بدأ منذ شهر آب الماضي، الذي أعاد الاعتبار لألق الثورة، وأعاد إليها شعاراتها الأولى المتمثلة بوطنيتها وسلميتها ووحدة الشعب واسقاط النظام، وإلى أشكال الاحتجاجات التي يشهدها الشمال الخارج عن سيطرة النظام والرافضة لسلطة ما يسمى ب” الجيش الوطني” وسلطة الجولاني وعسكره، وإلى ما يعتمل من غليان داخل مناطق النظام ومن بين الموالين له في السابق: في درعا والمناطق الوسطى والساحل، وحراك أهالي محافظات دير الزور والرقة والحسكة وحلب داخل مناطق نفوذ “قسد” المدعومة من التحالف الدولي، والمرتبطة بالقيادة المتنفذة في قنديل، التي لعبت دوراً مسانداً للنظام منذ البدايات الأولى للثورة السورية في قمع الحراك الثوري الذي شهدته مناطق تواجد الكرد والذي قادته تنسيقيات شبابها.
وعليه فإننا في حزب الشعب الديمقراطي السوري نتطلع إلى تشكيل تحالف واسع، يتجاوز كل أشكال التحالفات والمؤتمرات والهيئات القائمة، بالاستفادة من جميع تجاربها والعمل على ذلك بجدية بعيداً عن تبعيتها إلى أية أجندة اقليمية أو دولية، إنما بتقاطع المصالح معها، يقدم هذا التحالف نفسه أولاً إلى الشعب السوري الواقع تحت سلطات الأمر الواقع، وتالياً إلى الدول العربية ومن ثم إلى المجتمع الدولي لوضعه تحت مسؤولياته في الالتزام بتعهداته الأممية المتمثلة بهيئات الامم المتحدة ومؤسساتها.
إننا ننظر بإيجابية إلى مبادرة المناطق الثلاث التي صدرت في يوم الثامن من آذار، وهو يوم الاستقلال عن السلطنة العثمانية، ذات الدلالة الوطنية في العام 1920، ويمكن أن تشكل هذه المبادرة بمساراتها الخمس قاعدة من أجل البناء عليها عبر تطويرها من خلال الحوار العام الواسع الذي يجب أن يكون شاملاً لجميع السوريين في مختلف مناطق تواجدهم داخل سوريا وخارجها، وأن تكون مستقلة عن مؤسسات المعارضة الرسمية، والبحث في الآليات التي تحّول هذه المبادرة إلى مكون سياسي رئيسي يمثل جميع السوريين الأحرار.
عاشت الثورة السورية
الحرية للمعتقلين والمغيبين، والشفاء للجرحى
وعودة آمنة للنازحين واللاجئين والمهجرين
15 آذار 2024
حزب الشعب الديمقراطي السوري
الهيئة القيادية