مكانة سورية في الاستراتيجية الروسية للشرق الأوسط (*)

img

تمثل سورية لحظة فاصلة في رؤية بوتين لمصالح روسيا في الشرق الأوسط ودورها وموقعها على المسرح العالمي، إذ إن صك الانتداب الروسي على سورية، الموقَّع في 26 آب/أغسطس 2015، لا يعطي روسيا تفويضاً مفتوحاً في سورية فحسب، وإنما يوفر لها صلاحيات واسعة في البر والبحر والجو دونما رقيب.

وتدل مجريات الاشتباك الإقليمي والدولي، الدائر على الأرض السورية منذ عشر سنوات، على تحوّل الصراع فيها وحولها إلى ما يشبه – حسب تعبير الدكتور خطار أبو دياب – “اللعبة الكبرى” في القرن التاسع عشر.

وفي الواقع ثمة أسباب متعددة تكمن وراء التدخل الروسي المباشر في سورية، بعضها يتعلق بمصالح روسيا الاستراتيجية، وأخرى بأوضاع سورية والإقليم. فسورية في الاستراتيجية الروسية ليست دولة نائية عن حدودها البرية فحسب، إنَّما بوابة شرق أوسطية آيلة إلى السقوط والتفكك، وبحاجة إلى من يدعمها مقابل الوقوع التام في سلة روسيا، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، أي هي “بؤرة نفوذ مستقبلية ” وسط منطقة نفوذ سياسية وعسكرية أميركية من الجهات الأربع، فهي محاطة بقواعد عسكرية أميركية في العراق وتركيا والأردن وإسرائيل، إضافة إلى تمركز الأسطول السادس الأميركي قبالة الساحل السوري. ومن ثَمّ ترغب روسيا في أن تتجاور في منطقة نفوذها بسورية مع مناطق نفوذ الولايات المتحدة الأميركية.

وفي الواقع تتميز الدول الباحثة عن وضع جديد في تراتبية المكانة والحضور العالميين، كما حال روسيا، بحساسيتها الشديدة تجاه الجغرافية السياسية، ويرجع ذلك الى سببين: أولهما، ينطوي على بعد سلبي، خوف تلك الدول من إمكانية وقوعها تحت الحصار من قبل الدول المنافسة، وبالتالي إضعاف قدراتها التنافسية. وثانيهما، يتضمن بعداً إيجابياً يتمثل ببحث تلك الدول عن مجالات حيوية لتصريف فائض قوتها من جهة، ولإمكانية استثمارها كنطاقات عازلة تصدُّ عنها هجوم القوى المعادية، وغالباً ما تكون تلك الأراضي في الجوار القريب، وتحديداً في المناطق التي تسمى بالمفهوم الإستراتيجي “الخواصر الرخوة”، ويحصل هذا الأمر في المناطق التي يكون فيها فراغ قوة.

أولاً: الخلفية التاريخية للاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط

لطالما شكل البحر المتوسط – تاريخياً – مجالاً لممارسة السلوك التنافسي مع القوى الأخرى، وهو ما يفسر اعتبار الوجود الروسي في المتوسط كضرورة تعاطت معها القيادات الروسية منذ القدم. وكان الحرص الروسي على الحضور الدائم في المتوسط من العوامل الرئيسية وراء إلحاق شبه جزيرة القرم بالاتحاد الروسي، في عام 2014، لضمان بقاء ميناء “سيواستبول”، مقر قيادة أسطول البحر الأسود، تحت الهيمنة الروسية. فمن خلال هذا الميناء “تستطيع روسيا إدامة وجود قواتها في البحر الأبيض المتوسط” (1).

إذ تقول نصيحة القيصر بطرس الأكبر (1627 – 1725)، إن على روسيا، إذا أرادت أن تبقى أمة قوية عظيمة، تحقيق ثلاثة شروط في سياستها الخارجية (2): أولها، أن تصل إلى المحيط الهادي، حتى لو اضطرت إلى الصراع مع الإمبراطورية الفارسية. وثانيهما، أن تبلغ المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، حتى لو اضطرت إلى تقويض الإمبراطورية العثمانية. وثالثها، أن تقيم أفضل العلاقات والتحالفات مع سورية (الهلال الخصيب في ذلك العصر) نظراً إلى موقعها “الجيو – استراتيجي” الذي يربط ثلاث قارات هي آسيا وأوروبا وأفريقيا.

ففي الفقرة التاسعة من وصيته لأبناء روسيا يقول (3): “نقترب من القسطنطينية/اسطنبول والهند بقدر الإمكان، فمن يملك القسطنطينية فقد ملك العالم، وبناء على ذلك ينبغي ملازمة الحرب مع العثمانيين”. ويتابع في الفقرة الحادية عشرة قوله: “نشارك النمسا فيما قصدناه من إخراج العثمانيين من أوروبا”. وفي الفقرة الثالثة عشرة يقول: “وبعد التسلط على الممالك العثمانية، نجمع جيوشنا وتدخل أساطيلنا بحر البلطيق والبحر الأسود ونشرع في التفاوض مع فرنسا ودولة النمسا في قسمة العالم بيننا”.

لقد اهتمت روسيا بتلك الوصية في عصر السلطان عبد الحميد الثاني، فكثرت الثورات بدعم من روسيا والدول الأوروبية في البلقان واليونان وغيرها من الأقاليم العثمانية، ولم تكتفِ بذلك بل عملت على قيام دول مستقلة مثل رومانيا، وبلغاريا والصرب واليونان. وبعد أن حقق العثمانيون انتصارات في البلقان استعدت روسيا للحرب، ثم أعلنتها حرب لا هوادة فيها ضد الدولة العثمانية وانضمت رومانيا إلى روسيا، ودخل العثمانيون في حرب طاحنة مع الروس.

لقد رأى الأباطرة الروس أنفسهم ورثة بيزنطة، وعاصمتهم وريثة للقسطنطينية/اسطنبول “أورشليم جديدة”، وتبنوا مباشرة لقب القيصر، الذي كان أصلاً لقب الإمبراطور البيزنطي. خلال القرون القليلة التالية، وبالرغم من أن العثمانيين استمروا في التوسع في شرق ووسط أوروبا، كان القياصرة الروس يعززون من قدراتهم العسكرية. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، في عهد الإمبراطورة كاترين “بدأت المواجهة الطويلة والمريرة بين العثمانيين والإمبراطورية الروسية، التي لم تصل نهايتها إلا بعد الانهيار العثماني في الحرب العالمية الأولى (4).

ولأن التحرك الروسي اكتسب منذ البداية صبغة دينية، افترض الروس لأنفسهم دور الحماية للأرثوذكس العثمانيين، في الشام والأناضول والبلقان، ووفرت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الغطاء الأيديولوجي لحروب القياصرة.

ما يستدعي هذه الذاكرة اليوم كان الخطوة التي اتخذتها موسكو للتدخل العسكري المباشر في سورية، في أيلول/سبتمبر 2015، والدعم الذي تلقّاه الرئيس بوتين من الكنيسة الروسية. ففي لحظة بحث موسكو عن المجد الإمبراطوري من جديد، توجه قيصر روسيا الاتحادية ببصره نحو الجنوب والبحار الدافئة، وباركت الكنيسة الروسية خطوة بوتين، ليس فقط بوصفها بأنها “حرب مقدسة”، ولكن أيضاً بالتأكيد على أن حرب روسيا في سورية ليست سوى تجلٍّ لـ “الدور الخاص الذي لعبته بلادنا دائماً في الشرق الأوسط”.

ثانياً: الدوافع الروسية للتدخل العسكري في سورية

تتعدد الدوافع الروسية للتدخل العسكري في سورية: الاندفاعة الاستراتيجية في مواجهة حصار الدول الغربية، والحضور العسكري في البحر الأبيض المتوسط، والسيطرة على طرق موارد الطاقة، وخطر الإرهابيين المسلمين في روسيا الاتحادية، وتسويق السلاح الروسي.

1- الاندفاعة الاستراتيجية في مواجهة حصار الدول الغربية

كانت استراتيجية الأمن القومي الروسي، التي صدرت في عام 2009، قد دعت إلى تحويل “روسيا المنبعثة” إلى دولة كبرى مجدداً. ومن أجل ذلك “أدرك صناع القرار في الكرملين أنه، ومن دون بناء مجال استراتيجي روسي خالص، فإن عودة روسيا دولة مقررة على الصعيد الدولي أمر لن يرى النور، وهذا لن يتحقق سوى بوجود مناطق نفوذ روسية خالصة، في المدارات القريبة من الجغرافية الروسية، وتحقيق انتشار روسي على المستويين القاري والعالمي، يسند هذه الوضعية ويدعمها. وبالتالي، فإن خطوط التحرك الروسي تسير على هدى ذلك الإدراك، وفي إطار مقتضياته” (5).

وبعد أن أطاحت الحرب، في جورجيا عام 2008 وفي القرم وأوكرانيا عام 2014، محاولات الغرب لجلب حلف “الناتو” إلى أعتاب روسيا، جاءت خطة إعادة بناء وجود عسكري روسي في سورية لتعلن أنها ليست مجرد قوة إقليمية في أوروبا الشرقية فحسب، لكنها أيضاً لاعب دولي مؤثر، وأنها على استعداد لاستعراض قوتها العسكرية في مناطق أخرى من العالم بعيدة عن الأراضي الروسية. لذلك جاء التواجد الميداني في سورية من أجل ممارسة النفوذ عبر تحويل ميناء طرطوس إلى قاعدة عسكرية روسية ومطار “حميميم” المدني في اللاذقية إلى مطار عسكري في خدمة روسيا. خاصة بعدما استبعدت الولايات المتحدة الأميركية روسيا عن العراق في حربها على الإرهاب هناك، وبعدما “خدعت” دول حلف “الناتو” روسيا في ليبيا.

لقد حرص الرئيس فلاديمير بوتين على المحافظة على الاندفاعة الاستراتيجية التي بدأها بالرد على الاتحاد الأوروبي، لمنعه من مدّ نفوذه إلى أوكرانيا وضمها إلى الاتحاد وإلى حلف شمالي الأطلسي. تُضاف إلى ذلك رغبة بوتين في الرد على القرار الأميركي بنشر الدرع الصاروخية في الدول المجاورة لروسيا. وهكذا سعى إلى الإفلات من الحصار الذي فرضه الغرب على روسيا، بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى بلاده، من خلال التوجه إلى البحر الأبيض المتوسط لفتح جبهة جنوبية على حلف شمالي الأطلسي.

وفي هذا السياق كانت روسيا حريصة على إظهار اثنين من طرق العبور التي أنشأتها إلى سورية في عام 2017: طريق المياه، من البحر الأسود (بما في ذلك من شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي احتلتها في سنة 2014، وأبخازيا الجيورجية التي فرضت نفوذها فيها منذ سنة 2008) عبر مضيق البوسفور إلى البحر الأبيض المتوسط. وعن طريق الجو، محلقة فوق بحر قزوين والعراق وإيران. و”أظهرت روسيا أيضاً أن لديها عدة طرق للدفاع عن منطقتها السورية، بما في ذلك صواريخ كروز التي أطلقتها من السفن الروسية الراسية في بحر قزوين”(6).

2- الحضور العسكري في البحر الأبيض المتوسط

عملت موسكو منذ اليوم الأول لحشد قواتها على تقوية قاعدة طرطوس البحرية وتوسيع قاعدة “حميميم” الجوية، بما يعزز ويقوّي حضورها العسكري في شرقي المتوسط، كما يؤهلها استراتيجياً للعب دور مؤثر وفاعل على مستوى المنطقة. فلطالما شكل البحر المتوسط واحدة من الواجهات التي طمحت روسيا – تاريخياً – إلى تأمين نفوذ لها دائم فيها، وكان هذا الطموح يزداد كلما طورت روسيا قوتها وإمكاناتها العسكرية والاقتصادية، حيث يغدو البحر المتوسط أحد أهم شرايين التغذية الروسية ومجالاً لممارسة السلوك التنافسي مع القوى الأخرى، بالرغم من كون روسيا قوة برية أكثر منها بحرية، وبالتالي فهي “لا تلجأ في الغالب إلى المجال البحري إلا لدواعي الضرورة الاقتصادية والعسكرية، ولم يعرف عنها أنها توسّعت كثيراً في هذا المجال خارج نطاقاتها الاستراتيجية القريبة. وهو ما يفسر اعتبار الوجود الروسي في المتوسط كضرورة تعاطت معها القيادات الروسية على مر التاريخ، وليست تعبيراً عن فائض قوة يراد استعراضه في المياه الدافئة” (7).

إن العقيدة الروسية تتصور حوض البحر المتوسط كجزء من ناقلات الأطلسي، التي توازن من خلالها البحرية الروسية حلف شمال الأطلسي. وتعد سورية، بالنسبة إلى روسيا، نقطة الانطلاق باتجاه المياه الدافئة، وهي ستضمن بذلك الانفتاح البحري على جنوب القارة الأوروبية وشمال القارة الأفريقية. فقد عُرِّفت سورية، لا سيما في مرحلة الحرب الباردة، باسم أراضي حافات آسيا (تسمية أميركية)، ولذلك “ترى روسيا أن اكتساب هذه الحافة لمصلحتها هو أفضل من أن يكتسبها الأميركيون. فسورية دولة مناسبة للمصالح الروسية لأنها ستستطيع من خلالها التلويح في وجه دول الغرب، لكي ترسل رسالة مفادها بأنها ما تزال محافظة على قوتها العسكرية، ومنزلتها السياسية، ووزنها في مجلس الأمن” (8).

 ويندرج توجه روسيا نحو توسعة مرفأ طرطوس، وإنشاء رصيف عائم فيه، في إطار رغبة موسكو بتعزيز وتقوية حضورها في البحر المتوسط. ففي عام 2022، يُسلَّم رصيف عائم في طرطوس لروسيا، وبعد ذلك ستصبح قدرات هذا المجمّع كبيرة، ومن الممكن إجراء عمليات إصلاح السفن والغواصات الحربية هناك، بدلاً من ورشات عمل الصيانة العائمة في البحر الأسود والبلطيق.

وفي السياق ذاته، يشير الكاتب المختص بالشأن الروسي سامر إلياس إلى “تزامن توسعة مرفأ طرطوس، مع توسعة قاعدة “حميميم” في ريف اللاذقية، ويعتبر أن هدف روسيا من كل ذلك يتعدى الحسابات السورية، بحيث تخطط روسيا لوجود دائم في البحر المتوسط” (9).

3- التحكم في موارد الطاقة وطرق نقلها

ترغب روسيا في السيطرة واستغلال الموارد النفطية والغازية في سورية وفي المنطقة الاقتصادية الخالصة في شرقي المتوسط، ففي أواخر عام 2013 وقّعت شركة “سيوز نفط غاز” الروسية الحكومية عقداً للتنقيب عن النفط والغاز في الامتداد البحري بين بانياس وطرطوس لمدة 25 سنة. استناداً إلى أن الدراسات الجيولوجية الأميركية أوضحت الإمكانات المتوقعة للغاز والنفط، وأكدت وجود كميات كبيرة في هذه المنطقة.

وتفيد دراسات الأميركيين أن “تطوير موارد شرق البحر المتوسط يجب أن يكون تحت سيطرتهم، وأن يؤدي إلى تصدير الغاز إلى تركيا ومن ثم إلى الأسواق الأوروبية، فتكون النتيجة تقليص دور روسيا في مجال تزويد تركيا بالغاز، الذي هو على مستوى 70 في المئة من الحاجات التركية” (10). كما ترسخ موسكو وجودها في منطقة شرق الفرات، لموقعها في المثلث الحدودي ما بين سورية والعراق وتركيا، وأهميتها الاقتصادية، لاسيما في إمكانية عبور شبكات أنابيب النفط والغاز مستقبلاً عبرها. ويبدو أن قرار إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بسحب ترخيص شركة “دلتا كريسنت إنرجي” الأميركية للعمل في حقول النفط في شمال شرقي سورية، يسهّل مهمة شركات نفط روسية للانتقال إلى المنطقة، التي تديرها الإدارة الذاتية بقيادة قوات سورية الديمقراطية “قسد”.

وتشكل الجغرافيا السورية واحدة من الضرورات اللوجستية للمشروع الروسي في مجال الطاقة، وذلك لما تملكه من إمكانيات ربط بين مواقع الإنتاج ومناطق الاستهلاك، وكمعبر للغاز القادم من آسيا الوسطى، الواقعة تحت قوس السيطرة الروسية، ولربط استثمارات الغاز على المتوسط بالغاز القادم من إيران، وكمعبر إجباري لخطوط النقل المتجهة إلى أوروبا. مما “يجعل من سورية درة الاستراتيجية الروسية في المنطقة، خاصة مع وجود بنية تحتية روسية في سورية، تتمثل بميناء طرطوس وباستثمارات عديدة في مجال النفط والغاز” (11). ويمثل التنافس الدولي والإقليمي على خطوط نقل الغاز والنفط من الدول المطلة على الخليج العربي أحد المحددات الهامة للموقف الروسي من الأزمة السورية، فروسيا “تخشى أن يؤدي سقوط النظام السوري إلى نزع مكانتها المهيمنة على سوق الغاز الأوروبية كنتيجة لاحتمال مدِّ الغاز القطري عبر السعودية وسورية وتركيا إلى أوروبا، وهذا من شأنه أن يحرمها من ورقة رابحة استراتيجياً واقتصادياً” (12). خاصة بعد أن تابعت روسيا التهديد الأميركي المتزايد لمشروع أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم- 2” إلى ألمانيا، والذي تعوّل عليه موسكو كثيراً لرفد خزينتها بالعملة الصعبة.

 وبعدما رفضت سورية مرور خط غاز قطر، الذي يحمل الغاز الإسرائيلي والمصري إلى تركيا لوصله بأنبوب “نابوكو” من أراضيها، واستعاضت عنه بأنبوب غاز يمر من إيران إلى العراق إلى سورية إلى لبنان، إضافة إلى غاز بحر قزوين بأنابيب السيل الجنوبي في “غازبروم”، أصبحت سورية عقدة أنابيب الغاز التي تعتبر شرايين دماء القرن الحالي.

وهكذا “أصبح الصراع على سورية مصيرياً بالنسبة إلى روسيا وفرصة ذهبية لاستعادة دورها كقوة عظمى في حلبة الصراع الدولي. وسورية باتت في صميم الأمن الاقتصادي الروسي” (13).

ومن جهة أخرى، حددت روسيا بحر قزوين “نقطة انطلاق” في ملفين أساسيين بالنسبة إليها (14): أولهما، متعلق بخطوط النفط “نابوكو”، والتي على أساسها خاضت حربها ضد جورجيا في عام 2008، لتمنع عبور أي خط غاز من بحر قزوين عبر الأراضي الجورجية إلى أوروبا، والذي لو حصل، لرمى خطوط الغاز الروسية العابرة إلى القارة العجوز، عبر أوكرانيا، جانباً. وثانيهما، متعلق بـ “الاتحاد الأوراسي”، الذي يشكل بحر قزوين ونفطه وغازه محطة أساسية في تكوينه وانطلاقه نحو وسط آسيا. لقد تعددت الأهداف الروسية في سورية، لكنّ الأساس بالنسبة لموسكو هو السيطرة على جزء كبير من الحقول النفطية البحرية (البحر الأسود، وقزوين، والمتوسط) لتحقيق حلم النفوذ الغابر.

 إن السيطرة على الساحل السوري تجعل روسيا في موقع متقدّم في الصراع على الطاقة، ليس فقط في الشرق الأوسط وإنما في العالم. إذ “من المعلوم أن جزءاً من الصراع في سورية هو لتأمين خطوط النفط والغاز من الخليج نحو البحر المتوسط على الساحل السوري. فطهران كانت قد وقّعت اتفاقاً مع دمشق في العام 2010 لمدِّ أنبوب غاز عبر العراق إلى بانياس. كما تسعى المملكة العربية السعودية ودولة قطر إلى تصدير نفطها وغازها أيضاً عبر الأراضي السورية، ما يقصّر المسافة بينها والدول المستوردة، ويحررها – نسبياً – من عبور بواخرها مضيق هرمز الذي تسيطر عليه إيران” (15).

وبذلك تسعى روسيا إلى تقديم نفسها على مسرح السياسة الدولية كقوة طاقة مهمة ومؤثرة، وهي تستند في ذلك على احتياطيها الكبير من الغاز، كما تسعى إلى “تشكيل كارتل غازي كبير” بالإضافة الى ما تنتجه داخل الأراضي الروسية “يشمل إيران بوصفها صاحبة ثاني أكبر احتياطي عالمي، وكذلك كميات الغاز المكتشفة حديثاً في شواطئ البحر الأبيض المتوسط الجنوبية من قبرص إلى سورية ولبنان وإسرائيل”.

وهكذا، يعتبر موضوع الغاز أحد محركات السياسة الروسية في الزمن الحالي، ذلك أنه في ظل تراجع القدرات الروسية التنافسية على كل المستويات “يبرز موضوع الغاز كواحدة من ممكنات إعادة السيطرة والنفوذ الروسي الى المجال الدولي، ولروسيا في هذا المجال خبرة كونتها عبر السنوات الماضية عن مدى تأثير قوة سلاح الغاز في العلاقات مع أوروبا، ولعلّ ما يعزز درجة الثقة بهذا السلاح ويؤكد مدى فعاليته، تحوّل جزء كبير من الإنتاج الأوروبي، وخاصة في ألمانيا، إلى الغاز كوقود محرك، وذلك لما يتمتع به من مزايا تفضيلية تناسب الواقع الأوروبي وتجعله منافساً قوياً للنفط” (16).

لقد باتت روسيا الممثل الفعلي للمصالح السورية النفطية والغازية في شرق المتوسط، ودخلت بقوة إلى ميدان النزاع المفتوح حول الثروات في هذه المنطقة، والذي يشكّل التوتر اليوناني – التركي أحد عناوينه العريضة. وفي ختام زيارة الوفد الروسي رفيع المستوى إلى دمشق، في أيلول/سبتمبر 2020، تم الإعلان عن توقيع 40 اتفاقية، حسب رئيس الوفد نائب رئيس مجلس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف، تشمل “إعادة بناء البنية التحتية لقطاع الطاقة، بعد أن تم التوقيع على عقد عمل لشركة روسية للتنقيب واستخراج النفط والغاز قبالة الشواطئ السورية”.

 وبموجب الاتفاقية، صار في وسع روسيا أن تدفع بسفنها للتنقيب في السواحل السورية، الأمر الذي يعيد خلط الأوراق في منطقة، يرتفع فيها منسوب التوتر كلما نقترب من استغلال الثروات الغازية المقدّرة بـ 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي.

إن الاتفاقية تضع سورية في قلب المعادلة من جهة، ومن جهة ثانية يمكنها أن تعوّض روسيا عن الاستثمار الكبير الذي وظفته في سورية من أجل الحفاظ على النظام السوري، خاصة بعد أن فازت بخمسة عقود نفطية بين عامي 2013 و2020. ومن شأن دخول روسيا على خط المعادلة الحالية، المتمثلة في منتدى غاز المتوسط، أن “يخلق واقعاً جديداً، ويشكل تعزيزاً لموقف تركيا التي عملت أطراف المنتدى على إقصائها وعزلها، وهذا سوف يقود إلى اتفاقية جديدة من أجل استثمار ثروات شرق المتوسط على أسس واضحة، وفق القانون الدولي الخاص باستغلال الثروات البحرية المشتركة بين دول منطقة حوض المتوسط” (17).

ومن شأن القيام بذلك أن يقرّب روسيا من تحقيق بعض أهدافها الجيوسياسية الطويلة الأمد (18): أولاً، إلى جانب خطي أنابيب “السيل الشمالي 2″ و”التيار التركي” عبر بحري البلطيق والأسود، ستكمّل السيطرة على “الحنفية” السورية طرق تصدير النفط الثلاثية التي تتلقى عبرها أوروبا الغاز. وبهذه الطريقة لن تتجنب روسيا المرور في دول أوروبا الشرقية وبالتالي رسوم العبور فحسب، بل سيصبح الاتحاد الأوروبي حينها عاجزاً عن شراء الغاز من أية دولة مصدّرة، بما فيها دول الشرق الأوسط، من دون إبرام صفقات بشكل مباشر أو غير مباشر مع روسيا. ثانياً، من شأن تواجد طويل الأمد في سورية أن يعزز هيمنة روسيا في شرق البحر المتوسط. وستمثل قاعدة بحرية ومطارات قادرة على استيعاب أكبر وجود عسكري روسي خارج حدودها تحدياً كبيراً لكلّ من شركات الطاقة الغربية العاملة في المنطقة، على غرار “نوبل غاز”، والدعم العسكري الذي توفره. ونتيجة لذلك، ستقترب روسيا أكثر من ميزان قوى عالمي متعدد الأقطاب سعت إليه منذ سقوط الاتحاد السوفيتي.

4- محاربة إرهابيي الاتحاد الروسي في سورية

شكلت الحرب على الإرهاب العنوان الأبرز في الاستراتيجية الروسية للتدخل في سورية، بعدما أدركت روسيا أن ثلث أعداد الإرهابيين، الغرباء الذين انضموا إلى الدولة الإسلامية “داعش” وعددهم ثلاثون ألفاً، هم من الاتحاد الروسي أو من دول وسط آسيا. واعتبرت هذه القيادة أن “أفضل سياسة دفاعية يمكن أن تعتمدها ضد هؤلاء الإرهابيين تتركز على مقاتلتهم والتخلص منهم قبل عودتهم إلى ديارهم” (19). وتسعى موسكو إلى بقاء هؤلاء الإسلاميين (شيشان وطاجيك وأوزبيك وتركمان) في سورية يقاتلون فيها، ولكن من دون تحقيق انتصار على النظام. إذ “يخدم غرق هؤلاء في المستنقع السوري المصالح الروسية في ظلّ مخاوف موسكو من التطرف والإرهاب في الجمهوريات الإسلامية القريبة منها” (20).

5- تسويق السلاح الروسي

كشف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال فعالية “الخط المباشر” مع المواطنين، في 14 حزيران/يونيو 2017، عن أن العملية العسكرية الروسية في سورية أتاحت اختبار أحدث الأسلحة والمعدات العسكرية في ظروف القتال. إذ قال “هناك نفع كبير على مجمّعنا الدفاعي الصناعي. أتاح استخدام أحدث نماذج الأسلحة فهم كيفية عملها في ظروف القتال، وإدخال التعديلات اللازمة على جودة أحدث نظم الأسلحة”. وأضاف “يمكن القول إن خبرة استخدام قواتنا المسلحة في ظروف القتال، وباستخدام أحدث الأسلحة، لها قيمة كبيرة جداً من دون أية مبالغة” (21).

كما كشف رئيس لجنة مجلس الدوما لشؤون الدفاع، فلاديمير شامانوف، أن بلاده اختبرت أكثر من 200 سلاح جديد في سورية. حيث قال “إن روسيا أظهرت للعالم بأسره فعالية المجمّع الصناعي العسكري، من خلال اختبار أكثر من 200 سلاح جديد في سورية”، قبل أن “يفتخر” بأن ذلك “ساهم في زيادة مبيعات روسيا من السلاح، حتى من قبل بلدان ليست حليفة” (22). وسبق للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن صرح، بدوره، بأن “الاستخدام الفعال” للأسلحة الروسية في سورية ساهم في تزايد إقبال دول العالم على شراء الأسلحة الروسية. وبحلول بداية عام 2018، بلغت حقيبة طلبيات شركة “روس أوبورون إكسبورت” الروسية لتصدير الأسلحة أكثر من 50 مليار دولار، وسط استقرار معدلات الصادرات الفعلية عند مستوى 15 مليار دولار سنوياً. وفي هذا السياق “تعمل وزارة الدفاع الروسية على إبرام صفقات ضخمة مع دول الخليج العربية، في مجال تطوير سلاح البحرية ونظم الدفاع الجوي وتقنيات الدفاع الجوي بدون طيار، فضلاً عن العربات المدرعة وأنظمة الإشارة” (23). مما يتطلب صياغة تحالفات أمنية، ووجوداً دائماً في شرقي البحر الأبيض المتوسط.  

ثالثاً: توظيف موقع سورية في الاستراتيجية الروسية للشرق الأوسط

تدفع روسيا إلى الانخراط المسبق في رسم الحدود الجديدة للشرق الأوسط الجديد في القرن الحادي والعشرين، من خلال وجودها في سورية. وتُعَدُّ منطقة الساحل السوري نقطة انطلاق للاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط، فلموسكو قلق وهواجس من دور تركيا في شمال سورية، لانعكاساته المحتملة على استراتيجيتها البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط. وموسكو مهتمة بالتطبيقات الجيوسياسية للجغرافية السورية التي تشكل “مسرحاً استراتيجياً” يؤثر في قضايا حيوية عديدة للنظامين الدولي والإقليمي: الصراع العربي – الإسرائيلي، القضية الكردية، الصراع السني – الشيعي، أنابيب النفط والغاز، أمن الخليج.

لقد جاء كتاب “ماذا تريد روسيا في الشرق الأوسط؟” ليؤكد أن الحرب الأهلية السورية “تعتبر مرحلة فاصلة في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط، بقدر ما كان غزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة في 2003 حدثاً مفصلياً أيضاً أثر بقوة على تدافعات وتحولات المشهد اللاحق، منوّهاً إلى أن الحرب في سورية، مثل الحرب العراقية، كانت لها هي أيضاً تداعيات عالمية كبيرة”. وأشار إلى أنه في أوروبا، تعتبر روسيا قوة رجعية تسعى إلى الثأر للهزيمة السوفييتية أثناء الحرب الباردة. وفي الشرق الأوسط، تعتبر روسيا قوة الوضع الراهن، وإن كانت متقلبة، فقد تعلمت من هزيمتها في أفغانستان “أن تتعامل مع التحالفات والانحيازات في هذا الجزء من العالم باعتبارها مواقف تكتيكية بصورة أساسية ومن السهل تحولها، فلا أصدقاء دائمون ولا أعداء مؤبدون”.

كما حذر مركز “ويلسون” الأميركي للأبحاث على موقعه الإلكتروني في خلاصة الحلقة النقاشية التي شارك فيها 12 محللاً ودبلوماسياً من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وروسيا، في أوائل أيار/مايو الماضي، من تصاعد خطر الدور الروسي المتزايد في منطقة الشرق الأوسط. وجرى الحديث عن أن روسيا “أصبحت عاملاً أساسياً في سورية وليبيا وشريكاً لإيران، وشريكاً لطموحات مصر العسكرية، ومحاوراً لدول الخليج وبخاصة الإمارات العربية المتحدة والسعودية، وكذلك محاوراً لإسرائيل والحكومة الأفغانية وحركة طالبان والفلسطينيين وغير ذلك من الكيانات السياسية. كما أصبحت روسيا عنصراً في الأزمة اليمنية ووسعت مصالحها في شمال أفريقيا”. ومع ذلك، ما زالت “أبعد من أن تكون قد شكلت نظاماً إقليمياً من تصميمها في المنطقة”.

وعلى ضوء الانسحاب الأميركي الواضح من الإدارة اليومية لأزمات الشرق الأوسط وانحسار رغبة واشنطن في أي دور قيادي مباشر في هذه الملفات والاكتفاء بالإدارة عن بعد، وجدت موسكو أن الفرصة مهيّأة لها لإمساك زمام الأمور، وملء الفراغ، والإقدام بشراسة من أجل حياكة القيادة الروسية في منطقة الشرق الأوسط برمتها. وإذ كانت الولايات المتحدة قد تبنّت “الفوضى الخلّاقة” وسيلة لإحداث التغيير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن روسيا تستثمر في رغبة الولايات المتحدة بفكرة “التفاهمات الخلّاقة” و”الترتيبات الخلّاقة” (24).

وفي الواقع لم تكن موسكو في يوم من الأيام غير مهتمة بمنطقة الشرق الأوسط، بل “سعت بكل ثقلها لتكون طرفاً فاعلاً في أزماتها ومشاريع حلولها ماضياً ومستقبلاً، بل ظلت المنطقة باباً رئيسياً لعودتها للنظام العالمي” (25). لكن مراقبة السلوكين السياسي والعسكري الحاليين، يشيران إلى جملة من الأسئلة التي ينبغي التوقف عندها، ومن بينها، هل تعتبر موسكو أن ظروف المنطقة مناسبة لهذه الاندفاعة؟ وهل بمقدورها حالياً الوصول إلى أهداف محددة عجزت عن تحقيقها خلال العقدين المنصرمين مثلاً؟ وهل ثمة فك وربط بين ما يجري في شرقي أوروبا، وتحديداً في البلقان، وما يجري في الشرق الأوسط؟

على المستوى الإقليمي، فإن روسيا تختبر إمكانية إعادة بناء تحالف واسع في الشرق الأوسط بعد غياب طويل. إن الوجود الروسي الجديد في سورية يبعث بإشارة قوية إلى بغداد، بأن روسيا قد عادت مرة أخرى إلى الشرق الأوسط وعلى استعداد لبناء تحالفات جديدة. وتأتي مصر كمحور ثالث للعلاقات المميزة مع روسيا. وعلى رغم أن الجيش المصري لا يزال يحصل على معظم العتاد العسكري من الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن من الواضح أن وجهات نظر الرئيسين عبد الفتاح السيسي وبوتين تتوافق حول عدد كبير من القضايا السياسية والأمنية. وإذا نجحت روسيا في مساعيها، تكون قد “أعادت بناء تحالف يشبه التحالف السوفياتي القديم الذي شمل دمشق والقاهرة وبغداد، بل زادت عليه طهران التي كانت في الحرب الباردة حليفاً لأميركا” (26)، بهدف إنشاء منظومة إقليمية جديدة. ففي مقابلة مع موقع RT الروسي، في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2015، أكد الفريق سيرغي كورالينكو ممثل روسيا في المركز الإعلامي ببغداد: إن المهمة الأساسية للمركز تتمثل في “جمع وتحليل ومعالجة وتبادل المعلومات الجارية حول الوضع في منطقة الشرق الأوسط”، وأضاف قائلاً “أود التأكيد على أن هذا المركز المعلوماتي لا يعتبر مقتصراً على الأطراف الأربعة فقط، وإنما نأمل أن ينضم إلى عملنا دول أخرى، والتي لها مصلحة في القضاء على داعش” (27)، وذلك في إشارة واضحة إلى تعاون المركز الإعلامي مع رئاسة الأركان الإسرائيلية، وإمكانية انضمام إسرائيل إلى هذا التحالف. وبذلك يتضح أن هدف روسيا هو ملئ “الفراغ الغربي” من جهة، وضرب العزلة على تركيا والمملكة العربية السعودية في ذلك الوقت (2015). 

إن ما يهم روسيا هو أن أمامها فرصة تاريخية لنحت جغرافيا جديدة لدورها السياسي في الشرق الأوسط عبر سورية، إنها في صدد بناء محور أو محاور في الشرق الأوسط بقيادة روسية. وهي “تريد أن تقود تسويات سياسية لأزمات الشرق الأوسط وفق الشروط الروسية بدءاً ببقاء نظام بشار الأسد في السلطة” (28).

 ويُمكن إدراج إطلاق البحرية الروسية 26 صاروخاً من أربع سفن من بحر قزوين، لتُحدّد بالتالي روسيا “خريطتها الجديدة” من بحر قزوين إلى البحر المتوسط، وما بينهما من إيران والعراق وسورية ولبنان، “مدى حيوياً لها”. وذلك بصورة مشابهة لارتباط شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا بالأراضي الروسية (29) وتتعلق هذه الرسالة بتفكير الكرملين عن “عَظَمَة” روسيا عالمياً، وسعيه إلى تثبيت هذا النفوذ. وفي تحليق الصواريخ الروسية فوق المجالين الجويين، الايراني والعراقي، تأكيد على “أوليّة الروسي” في تراتبية محور جديد، كانت روسيا تطمح كي يتشكّل ميدانياً.

 فبعد خسارة مواقعها في المنطقة، في المشرق العربي ومصر واليمن ودول أخرى “تعود روسيا في زمن تهالك النظام الإقليمي العربي والفراغ الذي أحدثته السياسة الأميركية المتعثرة. وتأتي عودة روسيا بالتحالف مع إيران التي بدأت تطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي (بعد اتفاق 5+1 في عام 2015)، وبعدما أحرقت تركيا أوراقها مع الاطراف جميعها، في العالم العربي، لا سيما مصر، وأوروبا، وحتى إسرائيل” (30).

إن روسيا تتعاون مع القوى الإقليمية الفاعلة في الشرق الأوسط لتحقيق مكاسب في المنطقة على المدى القصير، حيث أن مصالحها لا تتفق مع مصالح هذه الدول على المدى الطويل. وهنا “تعمل موسكو على إقامة توازن بين هذه القوى الإقليمية حتى لا تنفرد أي منها في كسب تأثير كبير بالمنطقة”. استراتيجية موسكو في الشرق الأوسط هي البقاء أقرب لجميع اللاعبين أكثر من قربهم من بعضهم بعضاً. روسيا تتبع هذه الاستراتيجية لا لأنها تريد أن تكون قائداً رئيسياً في المنطقة، بل لـ “تكسب أكبر مقدار ممكن من التأثير، ما يسمح لها بعرض التعاون على واشنطن في الشرق الأوسط مقابل تنازلات في مناطق أخرى، في أوكرانيا مثلاً. إذا رفضت واشنطن عرض موسكو للتعاون، فإن روسيا، على الأقل، ستكون قد جعلت الوضع أكثر صعوبة بالنسبة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وأبقتها أكثر تشتتاً وتعثراً”.

ومن ناحية أخرى، يبدو أن روسيا تحاول المناورة بين المطالب الاسرائيلية، الرافضة للتمدد الإيراني في سورية، وبين ضرورة التعاون مع طهران، وذلك من خلال تقديم وعود متضاربة لكل جانب. ويبقى السيناريو الغامض تجاه التمدد الإيراني في سورية هو ردة فعل إسرائيل. ومن وجهة النظر الإسرائيلية، ربما تكون روسيا هي “القوة الأكثر تأثيراً للمساهمة في احتواء إيران ضمن الحدود المقبولة لإسرائيل في سورية” (31).

وثمة من يعتقد أن هناك توافقاً أميركياً – روسياً، في عهد إدارة أوباما، على الترتيبات الجديدة في الشرق الأوسط، إذ إن أوباما “لم ينجح في شيء قدر نجاحه في دفع الشرق الأوسط للسقوط في أحضان الروس والفرس”، أي أن الشرق الأوسط “يدخل العصر الروسي بقرار ثنائي أميركي – روسي، بهدف تقاسم النفوذ في المنطقة، كما فعلت بريطانيا وفرنسا في بدايات القرن العشرين” (32). 

ولكن في الواقع، ثمة نظامان إقليميان رئيسيان يتنافسان، ويمكن أن يتقاسما الشرق الأوسط (33): أولهما، النظام المعتاد والقائم على استمرار الهيمنة الغربية الأميركية. وثانيهما، ما يمكن أن نسميه بسلام بوتين. ويعرض بوتين الآن على المنطقة بديلاً من (منظومة السلام الأميركي)، على أساس ترسيخ دور روسيا كوسيط عسكري. ومن خلال هذا المنهج، يحاول إثبات قدرة الدبلوماسية العسكرية الروسية على أن تصبح روسيا القوة المهيمنة الوحيدة الحاذقة في المنطقة. روسيا “تريد ملء الفراغ الذي تعتقد أن الفراغ الأميركي والأوروبي خلّفه”.

وبالعودة إلى كتاب ديمتري ترينين نرى أن موسكو “لم تحلّْ أيضاً محلّ واشنطن كقوة فاعلة أساسية أو مزود رئيس للأمن في الشرق الأوسط، وليست لديها رغبة ولا موارد ولا نية للاضطلاع بذلك الدور. ولكن ما فعلته هو مجرد قطيعة مع حالة ما بعد الاتحاد السوفييتي بالانكفاء على حدودها الاستعمارية السابقة والغياب بشكل كبير عن بقية العالم”.

ويبدو أن احتمالات التقارب الأمريكي – الإيراني، بعد اتفاق (5+1) في عام 2015، كان لها أثر على تحريك الموقف الروسي، إذ “بدت أميركا بصدد إعادة صياغة علاقاتها مع إيران التي يتداخل فيها الاقتصاد والسياسة بدرجة كبيرة”. وذلك لأن موسكو “تدرك أنّ قدرتها على التأثير بالنظام السوري ومصيره هي عامل متغيّر يخضع لشروط علاقة طهران وواشنطن، إذ في ظل تحوّل الصراع إلى النمط الطائفي يصبح لإيران اليد العليا في التأثير على النظام السوري”.

بالنسبة إلى إيران، سعت روسيا، منذ تولّي فلاديمير بوتين مقاليد السلطة في موسكو عام 2000، إلى تثبيت حلفاء في مواقع مختلفة كمناطق عازلة، ضد النفوذ الأميركي في العالم. ووفق هذا التصوّر “احتلت إيران مكانتها لدى موسكو، باعتبارها شريكاً لروسيا في منطقة الشرق الأوسط والخليج وآسيا الوسطى، بحيث يحقق المحور الجنوبي لروسيا الخروج إلى المياه الدافئة عبر الخليج العربي، وهو هدف ظلت موسكو قروناً طويلة تسعى إليه ولا تتمكن من تحقيقه”. والحال هذه، فروسيا التي تضم أكثر من 25 مليون نسمة من المسلمين السنة المنحدرين من الأرومة التركية “تعمل على التعاون إسلامياً مع طهران، كما تتعاون معها بوصفها مخفراً متقدماً في وجه النفوذ الأميركي المتغلغل على مقربة من روسيا، سواء أفغانستان أو الخليج العربي”.

كما تحرص موسكو على الإفادة المثلى من البوابة الإيرانية إلى الشرق الأوسط، وتقوم بمهام حراسة لهذه البوابة في المحافل الدولية. فالأمر الذي تفهمه موسكو جيداً، هو أنه من دون موافقة إيران أو من دون مشاركتها، فإن “الحصول على نتائج مهمة في الشرق الأوسط ليس بالأمر السهل، كما أن التوصل إلى حلول لكثير من القضايا، سيكون أمراً غير ممكن” (34).

أما بالنسبة إلى تركيا، فقد أجبر التدخل الروسي في سورية أنقرة على التقارب مع موسكو لاحتواء أزمة إسقاط طائرة روسية من قبل مقاتلة تركية، وإلى تطوير العلاقات من أجل تحقيق مزيد من التعاون الديبلوماسي في مؤتمر آستانة الذي أدى إلى إنشاء مناطق “خفض التوتر” في سورية بمشاركة تركية فاعلة. كما “وجد الطرفان في ظل الوقائع القائمة على الأرض، أن هناك ضرورة عسكرية واستراتيجية لتوسيع التعاون ومنع أي خلل قد يضر بالمصالح الاستراتيجية والاقتصادية لكل منهما” (35). ولكن سورية في الجيوسياسية الروسية هي منطقة لكسر الرغبة التركيّة (جارتها على البحر الأسود) في إنشاء منطقة عازلة شمالي سورية، وهذا ما لا ترضاه روسيا التي تستغل الورقة الكُرديّة للضغط على تركيا.

بالنسبة لإسرائيل، فإن التواصل مع روسيا، يتيح لإسرائيل تحقيق نجاحات على صعيد تقليص القدرات العسكرية لإيران في سورية، مع تأثير روسي محدود على العمليات الإسرائيلية في الأراضي السورية. وتحتاج إسرائيل إلى المحافظة على تواصلها مع روسيا لتأمين هذه الأهداف العليا. فقد أشار مدير مركز “ديان لدراسات الشرق الأوسط” التابع لجامعة تل أبيب، إيال زيسر، إلى أن “التدخل الروسي المباشر، لا يمسّ بإسرائيل ولا يعني مساعدة إيران على تحويل سورية إلى نقطة انطلاق للعمل ضد إسرائيل” (36).

وخلال عشر سنوات من الحرب الأهلية السورية ضمنت روسيا مصالحها الأمنية والاستراتيجية في سورية، واستطاعت إسرائيل بلورة تفاهمات مع روسيا للحفاظ على مصالحها الأمنية هي أيضاً، وأسهمت روسيا في تمكينها من ضمان هذا الأمن بيسر، على الرغم من أنها كانت تدّعي أنها لا ترسم استراتيجياتها بناء على المصالح الإسرائيلية، كما حرصت روسيا على الحفاظ على توازن المصالح بينها وبين إسرائيل، التي تعتبرها قوة إقليمية لا بدَّ من أخذ مصالحها في الحسبان.

وإزاء كل ما ذكرناه قد تصبح منطقة الشرق الأوسط ساحة لصراعات أكبر وأكثر خطورة، تهدد السلم والأمن الدوليين، وربما تقود في وقت لاحق إلى مواجهة روسية – غربية.

خاتمة

السلوك الروسي، في سياق الأزمة السورية، تعرّض لامتحانات عدة، ولم تكن النتائج إيجابية، بحيث يظهر أن ما تمارسه الديبلوماسية الروسية يمثل استراتيجية وليس تكتيكات سياسية، كما بدت واضحة محاولات توظيف الأزمة السورية في سياق صراع المصالح والنفوذ الذي تخوضه مع الغرب. وتكمن الإشكالية – في هذا الإطار – في حقيقة أنّ حزمة المطالب التي ترفعها روسيا، في مواجهة منافسيها وخصومها، كبيرة تشمل مكانتها الميدانية في منطقة الشرق الأوسط ومكانتها السياسية ونفوذها في مجلس الأمن، وكذلك علاقاتها الثنائية مع الولايات المتحدة الأميركية، وتسعى لإبرام معاهدة شراكة استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي تشمل إلغاء تأشيرات الدخول لمواطنيها، وكذلك منحها تسهيلات إضافية في إطار منظمة التجارة الدولية، أو تخفيف الدعم الغربي للحركة الاحتجاجية في روسيا.

  ومن جهة أخرى كيف بمقدور موسكو أن تسوّي الصلف الإيراني تجاه دول الخليج العربية وعلى رأسها السعودية التي باتت تتعرض يومياً لمقذوفات من الحوثيين في اليمن المدعومين والمسلحين من إيران؟ وأيُّ نظام أمني للشرق الأوسط وفق مبادئ مؤتمر هلسنكي للأمن، قابل للتطبيق وسط هذه التهديدات، وقبل أن تقتنع طهران بأنها دولة وليست ثورة مستمرة للتصدير؟ أيُّ نظام أمني إقليمي مع إمعان طهران بابتزاز العالم يومياً عبر تهديداتها بالحصول على قدرات نووية؟

وفي مقلب آخر، هل من عاقل يعتقد أن موسكو قادرة على إقناع إسرائيل بأن تُقْدم على سلام مع نظام يتهاوى ويتعكز للاستمرار كواجهة نتيجة للدعم الإيراني والروسي المتقاطع المصالح؟ هذا علماً بأن موسكو لم تنجح حتى الآن في تهدئة تل أبيب وتطمينها من مخاطر السلاح الإيراني عليها في سورية بعد أكثر من سنتين على وعودها الخائبة؟

وفي الواقع ليس الوجود العسكري الروسي في طرطوس أو مطار اللاذقية يشكل تهديداً للغرب، وبوتين يعرف جيداً أنّ روسيا ليست تهديداً جدياً في البحر المتوسط لأنّ مرفأ طرطوس الوحيد لها فيه يمكن منع الوصول إليه من المنفذين الوحيدين له وهما الدردنيل والبوسفور التركيين ومضيق جبل طارق. ويعرف أيضاً أنّ وجوده البحري في المتوسط لا يستطيع أن يواجه بفاعلية الوجود الأميركي المماثل كما وجود بحرية حلف “الناتو”.

(*) – ورقة قُدمت في مؤتمر “القوى العالمية الكبرى ومنطقة الشرق الأوسط”، بدعوة كريمة من “مركز أورسام لدراسات الشرق الأوسط” و”جامعة إسطنبول”، خلال الفترة من 12 إلى 14 تموز/يوليو 2021.

الهوامش:

1 – د. عبدالله تركماني: روسيا وأقنعتها المكشوفة في الحالة السورية – صحيفة “العربي الجديد”، لندن 22 أيلول/سبتمبر 2015.

2 – عدنان كريمة: سورية عقدة مصالح روسيا الاقتصادية ونفوذها – صحيفة “الحياة”، لندن 21 أيلول/سبتمبر 2015.

3 – عادل موسى: العلاقات الروسية الشرق متوسطية – عن موقع “كلنا شركاء في الوطن” 16 شباط/فبراير 2015.

4 – د. بشير موسى نافع: عودة إمبراطورية وصاية الأقليات الروسية – صحيفة “القدس العربي”، لندن 14 تشرين الأول/أكتوبر 2015.

5 – غازي دحمان: سورية نجمة الاستراتيجيا الروسية – صحيفة “العربي الجديد”، لندن 23 نيسان/أبريل 2014.

6 – نزار عبد القادر: الاستراتيجية الروسية في سورية.. تغيير موازين قوى إقليمية ودولية – صحيفة “الحياة”، لندن 28 تشرين الأول/أكتوبر 2017.

7 – غازي دحمان: سوريا والمجال الروسي – صحيفة “المستقبل”، بيروت 15 نيسان/أبريل 2014.

 8 – جوان حمو: سورية في المعايير الجيوسياسية الروسية وموقع كرد سورية فيها – موقع “مركز حرمون للدراسات المعاصرة”، 1 نيسان/أبريل 2017.

9 – غازي دحمان: سوريا والمجال الروسي، المرجع السابق.

10 – د. سمير صالحة: الاستثمار الإقليمي والدولي في ملف الأزمة السورية – موقع “تلفزيون سورية”، 4 نيسان/أبريل 2021.

11 – غازي دحمان: سوريا والمجال الروسي، المرجع السابق.

12 – معن طلاّع: السياسة الروسية تجاه سورية منذ الثورة..، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية – 8 حزيران/يونيو 2015، ص 8.

13 – عدنان كريمة: سورية عقدة مصالح روسيا الاقتصادية ونفوذها، المرجع السابق.

14 – بيار عقيقي: رسائل قزوين الروسية – صحيفة “العربي الجديد”، لندن 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2015.

15 – فادي الأحمر: قراءة جيوسياسية في “الإنزال” العسكري الروسي في سورية – صحيفة “السفير”، بيروت 30 تشرين الأول/أكتوبر 2015.

 16 – غازي دحمان: سورية والمجال الروسي..، المرجع السابق.

17 – بشير البكر: روسيا وكيل سورية في غاز المتوسط – صحيفة “العربي الجديد”، لندن 11 أيلول/سبتمبر 2020. 

18 –  نيكيتا سوغولوف (معهد واشنطن): الأهداف الطاقوية لروسيا في سورية – عن موقع “كلنا شركاء في الوطن” 2 أيلول/سبتمبر 2017.

19 – نزار عبد القادر: الاستراتيجية الروسية في سورية..، المرجع السابق.

20 – موسكو: خطط بوتين في سورية.. تسوية وانسحاب إلى طرطوس وحميميم – صحيفة “العربي الجديد”، لندن 15 حزيران/يونيو 2017.

21 – موسكو: روسيا اختبرت 200 سلاح جديد في سورية.. تسويق على جثث السوريين – صحيفة “العربي الجديد”، لندن 22 شباط/فبراير 2018.

 22 – د. بشير زين العابدين: التدخل الروسي في سورية.. المخاطر والفرص الكامنة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ص 6.

23 – قراءة وائل بدران: روسيا وأهداف التدخل في سورية – صحيفة “الاتحاد” الإماراتية، 8 كانون الأول/ديسمبر 2017 (الكتاب: ماذا تريد روسيا في الشرق الأوسط؟ – المؤلف: ديميتري ترينين (رئيس مركز “كارنيغي” للسلام الدولي في موسكو)، الناشر: بوليتي 2017).

24 – أوردتها راغدة درغام: روسيا.. الترتيبات الخلاّقة بعد الفوضى – صحيفة “الحياة”، لندن 11 أيلول/سبتمبر 2015.

25 – د. خليل حسين: روسيا والعودة العسكرية للشرق الأوسط – صحيفة “الخليج” الإماراتية، 12 أيلول/سبتمبر 2015.

26 – بول سالم: أبعاد التصعيد الروسي في سورية وتداعياته – صحيفة “الحياة”، لندن 18 أيلول/سبتمبر 2015.

(27) – – راغدة درغام: هدف موسكو فرض التسويات في المنطقة بشروطها – صحيفة “الحياة”، لندن 9 تشرين الأول/أكتوبر 2015.

28 – د. بشير زين العابدين: التدخل الروسي في سورية..، المرجع السابق، ص 3 و9.

29 – فريد الخازن: عودة روسيا المدوّية – صحيفة “السفير”، بيروت 31 تشرين الأول/أكتوبر 2015.

(30) –  بول سالم: أبعاد التصعيد الروسي في سورية وتداعياته – صحيفة “الحياة”، لندن 18 أيلول/سبتمبر 2015.

(31) – يوسف شيخو: موسكو تخطط لإبقاء قواعدها في سورية – صحيفة “الحياة”، لندن 5 كانون الثاني/يناير 2018.

(32) – وائل بدران: روسيا وأهداف التدخل في سوريا..، المرجع السابق.

(33) – نزار عبد القادر: الاستراتيجية الروسية في سورية..، المرجع السابق.

(34) -عبدالله تركماني: محددات العلاقات الإيرانية الروسية وتجلياتها في سورية – مقاربة افتتاحية في ورشة العمل المشتركة بين “مركز حرمون للدراسات المعاصرة” و”مركز الدراسات الإيرانية” بأنقرة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2017، حول “محددات العلاقات الروسية – الإيرانية وتجلياتها في سورية”.

(35) – نزار عبد القادر: الاستراتيجية الروسية في سورية..، المرجع السابق. 

(36) – صالح النعامي: التدخل العسكري الروسي بعيون إسرائيلية: الساحل السوري خط أحمر – صحيفة “العربي الجديد”، لندن 10 أيلول/سبتمبر 2015.


الكاتب الدكتور عبد الله تركماني

الدكتور عبد الله تركماني

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة