ورقة سياسية
التطورات الدولية والإقليمية:
يشهد العالم صراعاً جيوسياسياً بين القوى الكبرى للتفاهم على توزيع المصالح في الأسواق العالمية، ظهر ذلك في الاجتماع الأخير بين الرئيس “بايدن” والزعيم الصيني “شي”، الذي بحث في ترتيب العلاقات على المستوى الدولي بين أكبر قوتين في العالم، وطبيعي أن يكون الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا في مركز هذه الاهتمامات ومعرفة حدود هذه العلاقة وموقعها من ذلك.
أظهرت الحرب العدوانية الروسية على أوكرانيا منذ 24 شباط/فبراير الماضي، التي اعتبرها الروس نزهة قصيرة ستحقق أهدافها بسرعة، أظهرت هشاشة الآلة العسكرية التي تجلت في ضعف تدريب الجيش الروسي وتدني مستوى ونوعية تسليحه وغياب الإرادة الوطنية في القتال واستهتاره بقوة جيش أوكرانيا ونظامها السياسي، الذي أثبت بدوره أنه قد أعد العدة وهو صامد ويمتلك إرادة عالية بدفاعه عن وطنه ويعمل على تحرير أرضه من المحتلين الروس.
لقد كان لهذه الحرب مفاعيل خطيرة على المستوى العالمي تسببت في أزمة عالمية وخاصة في مجالي الطاقة والغذاء وطرق الإمداد التي أصبحت ورقة سياسية بيد الدول، وأعادت ترتيب الاصطفافات والتحالفات الدولية والاقليمية وأظهرت حدود مصالح الدول وقوتها.
وبالرغم من أن روسيا منيت بهزائم عسكرية متتالية وهي تعاني من العقوبات الاقتصادية الغربية الموجعة، وسحبت الكثير من أسلحتها وعديد جنودها من سوريا وضمنهم مرتزقة فاغنر للقتال في اوكرانيا، فإن الذي حصل هو أن الروس بالرغم من تراجعهم في بعض المواقع في سورية، إلا أنهم زادوا من مستوى تحالفهم مع إيران وسلموها بعض مواقعهم العسكرية، بالتزامن مع توسيع التعاون بين روسيا وإيران في الجانب الاقتصادي، وخاصة في مجالي النفط والغاز وبناء خط الشمال الجنوب للتجارة الدولية من روسيا الى الهند عبر ايران وتزويدها بالصواريخ الباليستية والطائرات المسّيرة، وهذا يؤكد من جديد كيف أن الأنظمة الشمولية المستبدة تتحالف من أجل مصالحها في قمع الشعوب المكافحة من اجل حريتها واستقلالها وبناء مجتمعات ديمقراطية.
وبالرغم من حدة الصراع في أوكرانيا والدعم العسكري الغربي للجيش الأوكراني في صراعه مع روسيا، إلا أن هناك محاولات أمريكية روسية بوساطة تركية، لإيجاد فرصة للتفاوض السياسي بين روسيا وأوكرانيا بشروط تم تسريبها من خلال وسائل الاعلام أهمها انسحاب القوات الروسية من المناطق كافة في شرقي أوكرانيا وجنوبها، على أن يتم بحث وضع شبه جزيرة القرم بعد سبع سنوات، وبشرط ألا تنضم أوكرانيا للناتو خلال هذه السنوات على الأقل، وأن تبتعد القوات الروسية مائة كلم عن الحدود مع أوكرانيا.
أمّا في سوريا فلا يزال الموقف الأمريكي والغربي عموماً يدور في نفس الحلقة السابقة، والذي لم يرتق إلى مستوى الدعم الذي يقدم اليوم إلى أوكرانيا، واقتصر هذا الموقف على إدارة الأزمة بغياب أية جهود جدية للمساعدة في وقف معاناة السوريين مع تقديرنا لبعض الجهود الأمريكية التي تجلت في قانون قيصر وفي بعض التصريحات التي تفضح دور نظام الأسد في قمع السوريين والعمل على سن قوانين لمعاقبة النظام فيما يتعلق تجارته بالمخدرات، بالإضافة للجهود الألمانية في مقاضاة المجرمين من شبيحة النظام السوري.
وفي نفس الوقت تشكل سياسة الدول الغربية وخاصة أمريكا وفرنسا خطراً على وحدة سورية أرضاً وشعباً، بسبب دعمها لسلطة الأمر الواقع في المناطق التي تسيطر عليها قوات “قسد” المرتبطة بقوى خارجية ذات ميول انفصالية، والتي تنتهك حقوق الناس وتنشر الفساد وتنهب خيرات المنطقة من نفط وغاز وحبوب.
كما تتحمل تركيا المسؤولية الرئيسية عما يجري في المناطق الشمالية، من محاولات تتريك هذه المناطق في مختلف المجالات وخاصة في مجال التعليم والقضاء والعقيدة العسكرية ورعايتها للفصائل العسكرية النافذة التي لا تقل سوءاً عن ممارسات سلطة النظام و”قسد” المستبدتين بالإضافة إلى تنمية فكرة الولاء لتركيا على حساب الانتماء الوطني السوري.
ومع كل الدعم التركي للشعب السوري في البدايات فإن المواقف التركية أصبحت فيما بعد رهينة للضغوطات الداخلية المتعلقة بالانتخابات والتضخم الاقتصادي، والخارجية المتعلقة بالضغط الإيراني والروسي والغربي والصراع على النفوذ في أكثر من إقليم، رافقها انفراجات مع دول الخليج ومصر وإسرائيل وتوسيع بوابتها الأمنية مع النظام السوري التي ظلت مفتوحة على الدوام وتطويرها إلى نغمة المصالحة بين المعارضة والنظام السوري كمدخل لعودة العلاقة بينها وبين النظام وإن كان ذلك مشروطاً بالحل السياسي وعودة اللاجئين الطوعية في ظروف آمنة، والقضاء على القوى الإرهابية المتمثلة ب “قسد”، فلم يعد النظام هو الارهابي الأول وقاتل للشعب السوري كما كان يصفه المسؤولون الأتراك في السابق.
وعلينا كسوريين ألا نخلط بين حراكنا الوطني السوري من أجل الحرية والكرامة وبين مصالح الدول فنحن شعب حر ومستقل الإرادة وهذا هو نبراسنا، ونتقاطع مع من يمد لنا يد الصداقة على مبدأ المثل الشعبي “لا يحك جلدك إلا ظفرك”.
يشهد الشمال السوري منذ 20 تشرين الثاني/نوفمبر بدء عملية عسكرية جوية تركية ضد قوات “قسد” يلوح المسؤولون الأتراك بأنها مقدمة لعملية برية، استهدفت هذه العملية عدد كبير من المواقع العسكرية وأفراد نافذين ممن لهم ارتباطات عميقة مع تنظيم pkk وبعض المنشآت النفطية، وهذا خلق قلقاً واسعاً عند السوريين في المناطق المستهدفة يهدد إذا ما تم توسيع ذلك وخاصة بالتقدم براً بموجات جديدة من النزوح والهجرة ، وهذا يزيد الأمر تعقيداً ويدخل القضية السورية في مساومات الدول المؤثرة، وما كان لتركيا أن تقدم على هذه العملية لولا الدور الذي تلعبه بعد العدوان الروسي على اوكرانيا وتثقيل هذا الدور عند أطراف الصراع لذلك نجد مواقف روسيا وامريكا وايران متفهمة لهذه العملية منبهين إلى وقفها عند هذا الحد وبما لا يؤثر على استقرار المنطقة واستمرار التعاون مع أنقرة، وكانت اجتماعات آستانا بحضور نائب وزير خارجية النظام الأسدي في هذا السياق.
يحصل كل ذلك بغياب أي دور عربي فعّال في المشهد السوري، واقتصاره على التصريحات التي تتحدث عن الخطر الإيراني الذي يهدد الأمن القومي العربي وغياب أي موقف موحد ومتكامل تجاه الدول القادرة على التأثير في الدفع بالعملية السياسية ومعافاة سوريا كمقدمة لاستعادة وحدتها واستقلالها.
علينا كسوريين الاستمرار في نشاطنا الثوري وأن نعمل بالتوازي في كل الساحات المدنية والسياسية، الدولية والإقليمية وأن نقدم قضيتنا عبر موقف وطني يعبر عن المصالح المشتركة لجميع السوريين المتضررين من استمرار النظام الديكتاتوري ومن سلطات الأمر الواقع في المناطق الخارجة عن سيطرته، يتجسد ذلك عبر اعلام وطني مستقل، ودون ذلك لن نتمكن من التأثير في سياسات الدول الفاعلة ودفعها باتجاه الحل السياسي المستند إلى بيان جنيف 2012 والقرارات الأممية ذات الصلة.
يعيش اليوم حليفا النظام الأكثر دعماً له أزمات مركبة:
– نظام الملالي في إيران الذي يعاني من العقوبات الغربية بسبب خطره الدائم على استقرار المنطقة وتدخله المباشر في سياسات الدول ومحاولاته تصدير نموذجه السياسي وقمع ثورات الربيع العربي في أكثر من مكان وارتفاع كلفة هذه السياسة وانعكاسها على حياة المواطن العادي، أصبح نفسه يجابه ثورة شعبية هزت أركانه، شملت كل الجماعات الاثنية والفئات الشعبية المتوسطة والفقيرة والجامعات الرئيسية، على امتداد الجغرافية الايرانية.
– النظام البوتيني الذي أوصل روسيا إلى أسوأ حال فهي تعاني من عقوبات اقتصادية خانقة وحصار دولي شامل وتدهور في معيشة مواطنيها وقلق في أوساط النخب والفعاليات الاقتصادية، يفاقم ذلك تراجع الآلة العسكرية أمام الجيش الاوكراني والخسارة الكبيرة التي تتكبدها في العتاد والأرواح. وهذا يزيد في تكاليف الحرب والنقص في السلاح والمقاتلين الذي يبدو عليهم صفة الارتزاق خاصة أولئك الذي يتم استقدامهم كمرتزقة من أماكن أخرى كسوريا والشيشان.
إن الحالة التي تمر بها إيران وروسيا اليوم، تشكل حالة من الضغط على النظام الذي لم يحقق نصراً كاملاً على الشعب السوري عندما كان النظامين في روسيا وإيران في حال أفضل مما هم عليه الآن حيث قدما كل أشكال الدعم لهذا النظام كي لا يسقط في ظل تقاعس المجتمع الدولي في حماية الشعب السوري من همجية الآلة العسكرية لهاتين الدولتين.
تطورات الوضع الداخلي:
تستمر معاناة الشعب السوري بعد ما يقارب 12 سنة من انطلاقة الثورة السورية، حيث تمارس الطغمة الحاكمة في سورية سياسة موجهة لتضييق الخناق على السوريين لكي يفكروا فقط بمعيشتهم اليومية ويبتعدوا عن الاهتمام بالشأن العام، بالرغم من الوضع الإنساني الكارثي للناس في المناطق السورية كافة، وفي ظل لامبالاة من عصابة الأسد، باتت سوريا بالتعاون مع حزب الله والحرس الثوري الإيراني أكبر منتج ومصدر للمخدرات في العالم وأصبحت تشكل خطرا على الأمن القومي في المنطقة بكاملها. والأوضاع في مناطق سيطرة سلطات الأمر الواقع المتمثلة ب “قسد” وفصائل “الجيش الوطني” وهيئة “تحرير الشام”، لا تختلف كثيراً عن مناطق سيطرة النظام فالكارثة أصبحت وطنية جامعة بامتياز.
واتضح لنا أن النظام نجح في تكريس اللعب بورقة التفرقة القومية والطائفية لدرجة أن المعارضة غرقت في هذا المستنقع وأصبحنا نسمع كل يوم اننا بحاجة لحل مسألة الأقليات، مع أن ذلك من الناحية الموضوعية، يعمل على تفتيت جهود السوريين وتشتيتهم وابعادهم عن القضية الجامعة وهي ان الجميع في سوريا ينتمون إلى هوية وطنية سورية جامعة تستوعب التنوعات الدينية والقومية والطائفية وغيرها، والتي يجب ان تكون عامل قوة وليس عامل تفرقة ، وهنا يجب التمسك، بقوة، بالخطاب الوطني السوري والابتعاد عن كل ما يفرقنا، فالمهمة الرئيسية لكل السوريين هي تغيير جذري وشامل في النظام السياسي وبناء دولة مدنية ديمقراطية في ظل دستور عصري يضمن حقوق ومصالح الجميع أفراداً وجماعات دون تمييز على أساس الانتماء العرقي أو الديني أو الطائفي أو الجنسي.
وقد أثبتت الاحداث أن كل الخطط الروسية الخبيثة في المصالحات قد فشلت في سورية وخاصة في مناطق الجنوب، التي تشهد عودة مرتزقة داعش الذي يخلق مبررات لتدخل النظام وإسرائيل والقوى التابعة لطهران، التي باتت تشكل خطراً حقيقياً من خلال رعايتها لتجارة المخدرات التي تشمل الأردن والمنطقة.
وكذلك نشهد تردياً في أوضاع السوريين في الشمال نتيجة صراع الفصائل المسلحة وأمراء الحرب، حيث قامت السلطات الأمنية والعسكرية التركية بالتدخل مؤخرا لمحاولة ترتيب أوضاع الفصائل بعد هجوم هيئة تحرير الشام على عفرين، هذا الهجوم الذي يذكرنا بغزوات داعش لأكثر من منطقة وعلى مرأى ومسمع العالم، والتي أظهرت من خلالها إمكانية التوسع والهيمنة، إذا ما سمحت لها تركيا بذلك، كما نشهد تكثيفا للقصف الهمجي الروسي والاسدي والميلشيات الإيرانية على المخيمات المدنية الذي يهدف إلى تشريد الأهالي وإلى قتل الأطفال والنساء في مناطق ادلب، ويجري الحديث عن تكثيف التوسع الإيراني في منطقة الجزيرة ونشر التشيع وشراء الذمم بين العشائر أمام أعين قسد والنظام ، وهذا يشكل خطراً ليس على المحافظات الشرقية فقط بل على مستقبل وأمن واستقرار سوريا برمتها.
الحراك الوطني:
وبالرغم من توحد السوريين في أوضاعهم الكارثية المعيشية والأمنية المقلقة، فإن النخب والقوى السياسية والمدنية الوطنية والفعاليات الشعبية لم تتمكن حتى الآن من توحيد صفوفها لمجابهة الكارثة الوطنية، وهذا يعود لأسباب ذاتية لأن الكثير من تلك الشخصيات والقوى ما زالت تمارس سياسة أنانية غير واقعية أو تتصرف بإيحاءات خارجة عن ارادتها، وهناك أسباب موضوعية ساهمت في تعميق هذه التناقضات وجعلت من السوريين قوة منفعلة وغير مؤثرة في تقرير مصير البلاد، تكمن في ازدياد تدهور الوضع الداخلي وتأثير العوامل الخارجية في المشهد السوري.
أما القوى الإقليمية والدولية المهتمة بالشأن السوري فهي تتصارع من اجل مصالحها ولا أحد منهم يكترث بمصير الشعب السوري، وإنما أصبحت سورية ورقة تلعب بها كل الأطراف لكسب المزيد من النفوذ وتحقيق المصالح الخاصة ولا نرى في الأفق مساعي جدية من أحد للخروج من الأزمة في سورية وتخليص السوريين من واقع كارثي فرضه عليهم نظام مستبد وفاسد وخائن.
وبالرغم من كل ذلك فعلى السوريين ألا ينسوا بأنهم هم صانعو الثورة وهم القوة التي لا يمكن تجاوزها مهما ساءت الأحوال. لذلك يجب ألا نفقد الأمل ولا نيأس ولا نتأثر بالدعايات التي تروج لهزيمة الثورة وفشلها بعد كل تلك التضحيات العظيمة، وبعد أن أصبح النظام مثله مثل أي ميليشيا في البلد ينفذ أوامر خارجية إيرانية وروسية وباع البلاد لهم وأصبح همه الأساسي الحفاظ على السلطة بأي ثمن، كما يجب أن ننتبه إلى محاولات “مسد” وأخواتها لتلميع صورة حزب الاتحاد الديمقراطي التابع لحزب العمال الكردستاني، واعتباره قوة وطنية وديمقراطية سورية، لكنه في الحقيقة جزء من عصابة مجرمة تفرض سلطتها على شرقي الفرات، وهي لا تخفي تقاربها مع النظام وإيران بالرغم من تلقي الدعم والأوامر من الجانب الأمريكي.
يجب علينا جميعاً نخباً وقوى وطنية سورية أن نثق بقوة الشعب ونعود إليه، فهو المؤهل الوحيد وحاضنة أي عمل ثوري حقيقي ودورنا كنخب وقوى سياسية مساعدته سياسياً وعملياً وخاصة في الساحة الدولية لكشف جرائم عصابة الأسد وإبراز عدالة قضية الشعب السوري.
من أهم واجباتنا الحالية كقوى سياسية وطنية أن نعمل على تخفيف معاناة الشعب السوري بكل الطرق المتاحة وخاصة عن طريق السوريين أنفسهم والمنظمات الإنسانية والمدنية الدولية، والرفع من عزيمة السوريين واهتمامهم بالسياسة والعمل الوطني وثقتهم بالثورة، التي وإن تراجعت كثيراً بسبب وحشية النظام وهزالة المعارضة والتواطؤ الدولي، إلا أن المعركة لم تحسم بعد مع النظام الاسدي المتهالك بالمقاييس كافة.
أصبح من واجبنا اليوم، الذي لا يقبل التأجيل، أن نجمع قوانا كسوريين في جسم سياسي وطني يبدأ بالتنسيق بين التجمعات والقوى السياسية والنخب المثقفة وبناء تحالفات وطنية فاعلة، وأن تنتهي تلك الجهود بمؤتمر وطني واسع تنبثق عنه قيادة وطنية تقود العمل الوطني والثوري وتمثل مصالح السوريين في كل المحافل الدولية وأن تكون قيادة معبرة فعلاً عن إرادة السوريين ويكون لها حضور قوي داخل البلاد مدعومة سياسياً واعلامياً من قبل قوى الثورة في الخارج.
حزب الشعب الديمقراطي السوري
الهيئة القيادية
30 تشرين الثاني/نوفمبر 2022