الثورة في ذكراها العاشرة.. ثورة دائمة حتى تحقيق أهدافها

img

لم تكن سورية مستثناة من ديناميات الموجة الثالثة للتحول نحو الديمقراطية في العالم، ولا من الموجة الأولى لربيع الثورات العربية في أوائل عام ٢٠١١، إذ توصل الشعب السوري تدريجياً إلى قناعة راسخة بأنّ السبب في معاناته وفقره وتخلفه ومنعه من التطور لمواكبة العصر هو ديمومة نظام الاستبداد لأكثر من نصف قرن، بعد تهافت شعارات السلطة الحاكمة في الوحدة والحرية والاشتراكية و ممارسة نقيضها على أرض الواقع. ولكن لم تكن سورية مرشحة لثورة ياسمين، لأنّ النظام منذ سنة ١٩٧٠ قام بالإضافة الى سياسات الاحتواء والتمييز والغاء السياسة من المجتمع على الإمعان في تغذية العنف الداخلي لدى الجميع، ومارس بشكل مباشر كل أشكال الترهيب والقمع والتعذيب والقتل ولأنّ الجغرافيا السياسية شديدة الجاذبية للقوى الإقليمية والدولية.

وثمة قضايا ومشكلات وتعقيدات كثيرة اعترضت ثورة السوريين، أعاقت طلبهم في الحرية والكرامة والتغيير السياسي، وساهمت في كل الخراب والتشقق في أحوالهم، وفي رؤيتهم لذاتهم. لقد حدث التحوُّل لأسباب وعوامل متعددة، منها ما هو تحوُّل في تسلّح الثورة وعسكرتها كخيار مفروض ردّاً على الخيار الأمني للسلطة. كما أنّ الأسلمة المتطرفة للعمل المسلح لم يأتِ فقط من غزو الجهاديين الخارجي، بل أيضاً من تأسلم الكتائب للحصول على الدعم المادي والتسليحي من قطر والسعودية وتركيا، وكذلك الغطاء الذي اكتسبته الأسلمة من بعض القوى الديمقراطية. كما أنّ السلطة رفدت الكتائب الإسلامية بأعداد كبيرة من الجهاديين ممن كانوا في سجونها والذين أصبحوا لاحقاً قادتها وعمودها الفقري. كما أطلق النظام من سجونه كوادر من حزب pyd وعقد صفقة مع جناحهم العسكري المرتبط بحزب العمال الكردستاني PKk، بتشجيع من حليفه الايراني وتخليه لهم عن مناطق واسعة ذات الأغلبية الكردية لقمع الحراك الشعبي.

لقد شهد الحراك الشعبي السوري الكبير، بعد انطلاقته السلمية وإبداعاته الرائعة، تحوُّلات وانعطافات حادة، دفعت وجهته العامة في منحى انحداري، أفضى إلى حالة تعثّر عملية الانتقال السياسي. إذ تضافرت على السوريين وثورتهم، لسوء الحظ، مجموعة من القوى والعوامل والظروف، أدت في المحصلة، إلى ما وصلوا إليه: فمن طغمة حاكمة أرادت البقاء في الحكم بأي ثمن، وتعاملت كقوة احتلال غاشمة مع السوريين، واجهت مطالبهم المحقة في الحرية والكرامة بالعنف العاري فشردت نصف الشعب السوري وقتلت واعتقلت ما يزيد على المليون ونصف، إلى حلفاء لهذه الطغمة (إيران وروسيا)، قدموا لها بسخاء، كل أسباب القوة والدعم العسكري والسياسي والاقتصادي. إلى تقاعس غربي تتحكم به الإدارة الأمريكية، الحريصة على الإدارة عن بعد، وغير البعيدة عن استراتيجية “الفوضى الخلاقة” ، إلى منظمة دولية عاجزة مشلولة، لم يترك لها سوى حرية التعبير عن القلق، إلى أجندات وطموحات ومصالح عربية وإقليمية، صبت الزيت على النار، ودعمت من يخدم مصالحها من تنظيمات سياسية أو عسكرية، ما ساهم في تمزيق المعارضة، وإضعافها وتناحرها، وصولاً إلى معارضة أصرت على البقاء متفرقة، رهنت نفسها تدريجياً للخارج الذي اخترق مؤسساتها، وانخرطت بصراعات داخلية.

لقد انطوت الثورة على مفاجآت خطيرة: أولها، عجز النخبة السورية عن انتاج قيادة، أو أقله مرجعية قيادية، مدنية وعسكرية، وتراجع خطاباتها في الحرية والديمقراطية والكرامة التي ظهرت في بدايات الثورة، ما أضرَّ بصدقيتها أمام العالم وأمام شعبها. وثانيها، تمثل في حجم التدخلات الخارجية المضرّة في الثورة السورية، والحديث هنا لا يجري عن التدخل لصالح النظام من قبل روسيا وإيران مثل عصائب أهل الحق وكتائب أبو الفضل العباس، وحزب الله اللبناني وغيرها، وإنما عن التدخل المتأتي من الأطراف “الداعمة” للثورة، والتي اشتغلت بشكل متضارب، وحسب مصالحها، ووفق حساباتها، ما أربك الثورة وزجها في معارك غير محسوبة، استنزفتها وأضعفتها، بل شوهت سمعتها بعد أن تحول بعض مقاتلي الفصائل المحسوبة على الثورة الى مرتزقة والقيام بمهام خارج سوريا لصالح تركيا.

وهكذا، يبدو واضحاً أنّ الثورة قد تحولت، بعد محاولات إجهاضها عبر أسلمتها وعسكرتها، وانحسار الحراك الشعبي إلى ما أصبح يسمى بـ”المسألة السورية” وبذلك تحوّل الصراع في سورية إلى صراع إقليمي ودولي عبر السوريين، ولن ينتهي إلا إذا جرى توافق إقليمي – دولي على الخروج منه، وقد أضحى للقوى الخارجية كلها تجمعات سياسية تؤثر في مواقفها ومؤسسات إغاثية تهيمن عليها، وميليشيات تحارب عبرها في هذا الطرف أو ذاك وتحول معظم هذه الميليشيات الى قوى أمر واقع أعطت نموذجا سيئاً تُمارس ممارسات سلطوية وقهرية شبيه بممارسات النظام الاسدي وهذا يشمل كل المناطق التي خرجت عن سيطرته (شرق وغرب الفرات). ناهيك عن الواقع المزري في مناطق النظام حيث يقع ما يزيد عن 90 بالمئة من السكان تحت خط الفقر وما يشبه المجاعة بعد الانهيار المريع للاقتصاد والعملة السورية.

هذا الواقع المؤلم ، يشغلنا كحزب شعب ديمقراطي سوري ويشغل بال كل السوريين للخروج من الكارثة الانسانية وواقع الاحتلالات المتعددة ويطرح السؤال المُلحّ: ما العمل؟ وكيف يمكن أن تعود الثورة إلى مسارها الحقيقي، وتستعيد أهدافها الأولى في الحرية والكرامة، وتحقيق العدالة لبناء الدولة المدنية الديمقراطية، التي يتساوى فيها جميع السوريين في المواطنة.

نعتقد، في المرحلة الأولى، لا يمكن استعادة الثورة من دون استعادة الدولة، فسوريّة اليوم محتلة من جانب قوى إقليمية ودولية، ولا يملك النظام أو المعارضة زمام نفسيهما في مسألة الحرب أو السلم، فكلاهما مغيّب الى حد كبير عن القرار.

أما المرحلة الثانية فتتمثل في إعادة إحياء الحراك السلمي المدني الديمقراطي العابر للشعارات الدينية والقومية، والذي سيؤدي إلى إعادة إحياء لحمة المجتمع السوري بعيداً عن الثأر والانتقام والكيدية، من هنا يتوجب على القوى الديمقراطية في المعارضة المدنية والسياسية العمل دون أدنى تردد  باتجاه صوغ جسم وطني ديمقراطي عابر لجميع مؤسسات المعارضة القائمة، ويمكن أن يحصل تدريجياً ويتوحد على مهام ومبادئ في خدمة القضية السورية  واتفاق على حد أدنى يجمع عليه أغلبية السوريين.

إن المجتمع الدولي وبعد انهيار نظام السلطة الاسدية والمآل الذي وصل اليه الوضع السوري بات معنياً بإيجاد مخرج للمسألة السورية، ولا سبيل لذلك إلا بتطبيق بيان جنيف وقراري الشرعية الدولية:2188 و 2254  عبر قيام هيئة حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة تقود عملية الانتقال السياسي نحو الديمقراطية من خلال تحقيق العدالة الانتقالية، وبخلاف ذلك سوف تستمر حالة الاستنقاع التي تديم الكارثة وتفاقمها على حساب الشعب السوري.

وبناء على ما تقدم، يبقى العامل الذاتي الوطني حجر الأساس في أي تعامل مع المبادرات والجهود التي تقارب المسألة السورية، والشعب السوري احوج ما يكون لقيام قيادة وطنية مستقلة للمعارضة تمتلك رؤية سياسية واضحة ومطمئنة لسائر المكوّنات السورية، على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات، وتكون بعيدة كل البعد عن التعصب والتطرف، وتأخذ في اعتبارها المعادلات الإقليمية والدولية ومصلحة الدولة السورية في سيادتها على كامل أراضيها ، وتؤكد للجميع أنّ سورية المستقبل ستكون عامل استقرار وأمن لمصلحة الجميع، وخلاف ذلك ستبقى الأمور عائمة، مفتوحة على غير ما هو منشود.

إنّ سورية أحوج ما تكون إلى دولة ديمقراطية، دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية والتنمية الشاملة المستدامة، حقوق المواطنين فيها هي واجبات الدولة، بما هي دولة الكل الاجتماعي. هي دولة كل مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها الأفراد والمكوّنات الاجتماعية مشاركة فعلية من خلال المؤسسات. والحل المجدي الوحيد يكمن في قيام الدولة، التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميّز بين المواطنين على أساس ديني أو مذهبي أو قومي أو جنسي.

والتحدي الكبير هنا لا يقتصر على إصلاح التخريب الإنساني والوطني الذي تسبب به الاستبداد، بل يتعداه إلى ظهور الإنسان الجديد، الفرد المستقل الضمير والعقل. فما هو قادم لا يزال كبيراً، ولا يقل عن ثورة دائمة في أشكال وتعبيرات سياسية وثقافية وإنسانية مختلفة.

تحية إلى شعبنا الصامد في كل سورية..

تحية إلى المناضلين أينما كانت مواقعهم..

الرحمة للشهداء والشفاء للجرحى..

الحرية لسائر المعتقلين والمغيبين قسرياً..

العودة الآمنة لللاجئين والمهجرين إلى بيوتهم..

عاشت ثورتنا.. ثورة الحرية والكرامة..

النصر حليف الشعوب مهما طال الزمن..

١٥/٣/٢٠٢١

حزب الشعب الديمقراطي السوري

الهيئة القيادية  


Author : هيئة التحرير

هيئة التحرير

RELATED POSTS

Comments are closed.