سورية بين أنين شعبها ومصالح القوى الدولية وأزماتها

img

مركز حرمون للدراسات المعاصرة – 23 كانون الثاني 2023

مدخل تمهيدي

تحاول هذا الدراسة أن تتلمس دواعي اللقاء السوري التركي، ومراميه، من خلال إنارة العامل الموضوعي المستجد لدى كل طرف من الأطراف الثلاثة الداخلة في عملية التقارب بين الدولة التركية والنظام السوري برعاية روسية، ويتطرق البحث إلى مواقف دول أخرى متدخلة في الشأن السوري، ويسعى للإجابة عن دواعي التشكك الذي خيَّم على غالبية السوريين بجدية النظام السوري، ومدى صدقه في التوصل إلى حل شامل، يأخذ بأمن السوريين كافة، وبأفق تطلعهم إلى دولة الحرية القائمة على مبادئ الديمقراطية التي تسمح بالتشاركية الفعلية، وتداول السلطة، ما يتطلب رص صفوف المعارضة، وتوحيد خطابها العام..

مقدمة عامة

بعد اثنتي عشرة سنة من القتل والتشريد والتهجير والخراب الشامل، وكل ما لحق بالشعب السوري وببلاده من ويلات دون أن تكون هناك أية أسباب مبررة أمام النظام السوري ليمارس، ويتسبب بكل ما حصل في سورية من خراب.. اليوم وبعد عديد البيانات الدولية، وقرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015 تأتي ظروف داخلية وخارجية لتفرض نفسها على “نظام الممانعة” السوري الذي كان قد أبى واستكبر، مستعيناً بالروس والإيرانيين، رافضاً تقارير المبعوثين الدوليين الذين توافدوا إلى سورية منذ بدأ عدوانه ضد المحتجين السلميين بسلاح الجيش، وتعاون الأجهزة الأمنية دون أن يتعاطى مع مطالب المحتجين، لإيجاد حلول لمشكلات السوريين المتفاقمة.. وذهب بالأحداث إلى نهاياتها من غير إحساس بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، ما جعلها تسير إلى كوارث وفواجع، على عكس ما كان يرفعه من شعارات تدور حول المقاومة والممانعة، فتحقق ما رجته إسرائيل، وكانت المستفيد الأول من تدمير سورية، كما حدث، من قبل، في العراق..

اليوم، وبعد كل ما حدت، تأتي ظروف أخرى لتكشف عري النظام السوري، وترغمه على اللقاء بصديقه التركي القديم لإيجاد حلول للمعضلة السورية! فهل تراها الحلول تأتي تلبية لرغبة السوريين كافة. أم إن موازين القوى لن تأتي بجديد، إذ تسم معظم الأطراف بالضعف، بما في ذلك الراعي الروسي الغارق في مستنقع حرب أشعلها بنفسه، وتأثر العالم بنتائجها، فلم يعد بوتين يعرف كيف يخرج منها. ولعله أيضاً يخشى ضياع مكاسب حققها في سورية نتيجة حالة الشعب السوري الذي يعاني أوجاعاً متعددة، أهمها لقمة العيش، وفقدان ضرورات الحياة من ماء وكهرباء ودفء وطاقة وقد غدا في حال، من بؤس ويأس، أخذت تنذر بانفجار تبين ملامحه في ألوان من الاحتجاجات الفردية والجماعية، فمحافظة السويداء “تعيش حراكاً شعبياً منذ العام الفائت، تنوعت مظاهره، في ظل انسداد افاق حلول سياسية واقتصادية، فالظروف المعيشية في تدهور مستمر، وتشير حوادث العام 2022 إلى استياء شعبي واسع من السياسات الأمنية والاقتصادية، فمن مظاهرات سلمية، وحركات منظّمة للتعبير عن الاحتجاج، في المدن والأرياف، إلى مظاهرة غاضبة اقتحمت مبنى المحافظة وأحرقته، وما سبقها من انتفاضة مسلحة ضد جماعات شكلتها المخابرات العسكرية وحاولت إذلال السكان”.[1] في وقت ترتفع خلاله، أصوات من محافظات أخرى، تبثها وسائل التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تهاجم فيها مسؤولين حكوميين كباراً دون تجاوز للخط الأحمر الوحيد الذي يطاول رأس النظام.. لكنها ترسم عمق مأساة السوريين، ومن ذلك عبارات رثى كاتبها الأستاذ “رفعت عطفة” وطنه السوري بحزن ويأس، إذ قال: “البلد في شلل تام. كراجات مصياف تغصّ بالطلبة الذين ينتظرون، بعضهم منذ السادسة صباحاُ، لتأتي “مكروات” أو باصات تقلهم إلى جامعاتهم ليقدموا امتحاناتهم.. والآن الساعة الحادية عشرة والربع، ولم يأت ميكرو واحد، الطلاب منهارون والأهل منهارون، والبلد منهار، وما من مسؤول يطل.. صباح الخير يا وطناً ما عاد وطناُ..”[2] في هذه الظروف تأتي المبادرة الروسية/التركية لإعادة العلاقات الديبلوماسية مع النظام، وكأنما لتنقذه من سقوط محتم.. لكن القرارات السياسية لا تخضع، غالباً، للرغبات أو الأهواء، بل تصنعها ظروف موضوعية بكامل عواملها ومفرداتها، ومن ضمنها إرادة الإنسان التي تأتي تلبية لرؤية محددة..

في الحال السورية جرت اليوم أحداث كثيرة تراكمت، خلال مسيرة إحدى عشرة سنة، أوصلت السوريين إلى ما هم عليه اليوم من مصاعب جمة، إذ فرضت عليهم مواجهة استدارة بعض المتدخلين الإيجابيين في الشأن السوري.. استدارة لا يعلم أحد مؤداها، فلا القبول يحل المشكلة، ولا الرفض يقود إلى نتائج محمودة، فلكل من الرفض والقبول عوامل ومرتكزات توضح طريقه، ولعلَّ هذه الاستدارة تجعل السوريين يواجهون نتائج أعمال أولئك الذين تصدَّروا المشهد خلال السنين الإحدى عشرة.. وهي حقيقة بيِّنة لا ينفع معها صراخ ولا عويل، بل عقل سياسي منفتح على الواقع والخروج منه بأقل الخسائر، وبرؤية تفتح أفقاً أكثر رحابة، وتقود إلى بناء جديد..

فما حقيقة تلك الاستدارة، وما دوافعها، أو المؤثرات في حدوثها، وكيف يمكن الخروج منها بما يخدم حلم السوريين بالحرية ودولة المواطنة الفعلية؟!

أزمات النظام السوري وحلفائه

أولاً –لقد أوصل رأس النظام السوري الشعب في مناطق سيطرته إلى حافة الهاوية من فقر وبطالة وفقدان لأبسط ضرورات الحياة ما غيَّر أنماطها الاجتماعية الذي انعكس سلباً على أساليبها الغذائية والصحية والتعليمية، إضافة إلى زيادة عدد المهاجرين (الهاربين) والحالمين بها من جيل اليافعين، وارتفاع معدَّل حالات العنف الأسري، وعمالة الأطفال والتشرد، وزيادة نسبة الجرائم.[3] ما جعل أصوات حاضنة النظام الشعبية التي رفعت، في وقت ما، شعار “الأسد أو نحرق البلد” ترتدُّ متأففة متذمرة، بعد أن طاولت ألسنة تلك الحرائق رؤوسها، فجعلتها تنقاد، بمصالحها الضيقة، إما للروس أو للإيرانيين تحت مظلّةِ النظام المتهالك! بينما لاتزال قمته العليا بدوائرها الضيقة، منغمسة بنهب اموال الدولة والشعب معاً، وبأية طريقة كانت.. حتى وإن أتت من زراعة المخدرات وتجارتها، وتهرَّب الأموال إلى خارج البلاد. تاركة الداخل لمشاريع استهلاكية ترتبط بفحش الفساد وانعدام القيم الأخلاقية، كالمطاعم والفنادق، والملاهي وحتى بيوت الدعارة، في وقت تغيب فيه المحاسبة، ودونما اكتراث لدماء الشباب التي هدرت باسم الوطن، بينما يعيش أهاليهم في حالة بؤس ويأس.. وكل الوقائع تؤكد بداية تهالك النظام، إذ يفقد مقومات بقائه الأساسية، فإذا كان مؤيدو دوائره العليا عام 2011، وما تلاه، على تماسك ما، ودافعوا عنها بدعم أجنبي، فقد اختلف حالهم اليوم كثيراً، إذ هم يئنون، فكثيراً منهم فقدوا أحباء لهم، ومنهم من ارتكب جرائم، ويدرك اليوم أن لا نجاة له، وقد غدا الجميع: “مثل بالع الموس على الحدين”. كيفما تحرك يئن.. وربما، من هنا، تهافت الروس على إعادة العلاقة بين النظام والحكومة التركية..

ثانياً– انغماس الروس بهمومهم بعد أن أغرقهم بوتين بمستنقع حرب أشعلها بيديه، ويحاول الخلاص، فلا يجده إلا بمزيد من النيران. رغم الخسائر الهائلة التي جعلته يسحب جزءاً من قطعه العسكرية، وجنرالاته الأكثر دموية، ليفعلوا ما قد فعلوه في سورية “ووفق رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال “مارك ميلي” فقد سقط خلال الحرب حتى الآن: 100 ألف جندي روسي ما بين قتيل وجريح”[4]. ونقلت “نيوزويك” عن مجلة “فوربس” الأميركية “إن روسيا فقدت منذ بداية الحرب في 24 فبراير/شباط الماضي حتى 24 أغسطس/آب الحالي نحو 121.042 قطعة من المعدات بقيمة 16.56 مليار دولار، مشيرة إلى أن هذا لا يشمل ما استخدمته روسيا من صواريخ”[5].

أما الخسائر السياسية والاقتصادية في غير قطاع الجيش فهي أكبر بكثير.. ويكفي أن معظم دول العالم وقفت ضد الحرب ومشعلها، إذ أحدثت أزمتين في الطاقة والغذاء، وكشفت عورات الروس في مجال التنمية غير العسكرية، ناهيكم بتهديد بوتين المستمر بحرب نووية قد تشعل الكرة الأرضية برمتها. ومن هنا تبدو سورية لديه مشكلة ثانوية. وعلى ذلك فهو يسعى إلى حل ما. وخصوصاً أنه حقق غايته بوجود عسكري على شاطئ المتوسط، إضافة إلى مكاسب اقتصادية متعددة وفق اتفاقيات مجحفة بحق سورية، والسوريين. وتدرك روسيا أن أردوغان أكثر تأثيراً في تشكيلات المعارضة السورية، وأنَّه على خلاف مع أمريكا أقلَّه أنَّها تتبنى تنظيم قسد بقيادة حزب الـ”P. k. k”، وتريد روسيا الاستفراد بحل الأزمة السورية التي شاركت النظام بصنعها، وتعقيدها، وتهدف إلى إبعاد أمريكا التي تعيق مخططاتها في أوكرانيا وتستنزف قدراتها من خلال دعمها متعدد الأشكال، وإطالة أمد الحرب.. والأهم أنها تريد تفسير القرار2254 بما يخدم النظام..

ثالثاً- إن حال إيران ليس بأفضل وبخاصة بعد الحراك الشعبي الذي دخل شهره الرابع، ولا يبدو أنه إلى تراجع أو انحسار رغم شدة القمع، وأحكام الإعدام الجائرة تحت عنوان الإفساد في الأرض، ما يعني أن الشعب هو المفسد وأن الحاكم “ولي الله” بريء. وتجاوز عدد القتلى بطرق مختلفة الـ 500 من جيل الشباب.. ناهيك باعتقال 14000 ألفاً وقد وثقت منظمة “حقوق الإنسان في إيران..” ومقرها النرويج، في 29 نوفمبر 2022 مقتل 448 شخصاً، على الأقل، قتلوا بأيدي قوات الأمن، خلال الاحتجاجات المتواصلة في مختلف أنحاء البلاد، وتم توقيف الآلاف”[6]، ويقف خلف تلك الاحتجاجات مشكلات مستعصية، تتعلق بطبيعة النظام، فمنها ما هو قومي وديني واقتصادي ومعيشي يطاول معظم فئات الشعب بسبب بنية النظام الفردية المطلقة. تلك البنية بقوانينها الاجتماعية الجائرة، باتت تشكل عائقاً أمام تطور المجتمع، وثمة شخصيات في قمة النظام (متشددين وإصلاحيين) تتلمس عمق مشكلات النظام. وتختلف حول حلول لها، ما يشي ببدء الكشف عن خلافات داخل النظام حول تلك القوانين، وكيفية التعاطي مع الاحتجاجات، وظهور تيارات تعبِّر عن نفسها بقوة، إضافة إلى التوترات المستمرة مع أمريكا وإسرائيل والغرب عموماً بشأن الاتفاق النووي، وبسبب تمدد إيران في محيطها الإقليمي! ولذلك فثمة تخوف لدى النظام السوري من خسارة حليفه الأكثر قرباً إليه من روسيا، واليوم “ثمة من يشتغل على سحب الملف السوري، والمسألة السورية برمتها من اليد الإيرانية، يفعل هذا بعض من حلفاء الأسد كما حال الروس الذين لابد ويواجهون معضلة في الشراكة مع الإيرانيين في سوريا، ويفعل هذا خصوم النظام، وهذه تركيا تشتغل على قطع اليد الإيرانية من سوريا لتكون يدها هي البديل عن اليد الإيرانية، وثمة من يرى أن “الخليج العربي” يشتغل على هذا المنحى”[7].

الموقف التركي

لا شك في أن للجانب التركي مبرراته، ويمكن تلخيصها بعدة أسباب صارت معروفة للملأ، يتعلق أوَّلها بأمنها القومي الذي يتطلب إبعاد حزب الـ: “P. k. k”عن حدودها! وكانت اتفاقية أضنة عام 1998 قد حلت مشكلته.. لكن الحال اليوم قد اختلف، فالحزب يسعى، بدعم أمريكي، إلى حكم ذاتي، أو إلى نظام فيدرالي يكون في الحالين قاعدة للانطلاق نحو تركيا، إضافة إلى خطر انفصال منطقته عن الجسم السوري كلياً، بإقامة دويلة ما.. أما الأمر الثاني فيتعلق بمشكلة اللاجئين السوريين التي غدت ورقة رابحة في أيدي المعارضة التركية ضد حزب العدالة والتنمية الذي يسعى جاهداً لسحبها قبل الانتخابات القادمة في حزيران 2023..  ولعلَّ الأمر الثالث أكثر إلحاحاً الآن، وهو الواقع الاقتصادي الذي تجلى بزيادة التضخم، وتأثير ذلك في ارتفاع الأسعار التي مسّتَ حياة الشرائح الاجتماعية الأدنى! كلّ ذلك إلى جانب سعي القيادة التركية إلى تصحيح علاقاتها بعدد من البلاد العربية..  وطبيعي أن تهتم بإعادتها مع سورية، إذ تعد حدودها البرية مدخلاً إلى البلاد العربية كافة، ناهيك بالعلاقات السورية التركية التي ترسخت بعد اتفاقية أضنة.. وتبتعد تركيا اليوم، على نحو أو آخر، عن تبني قوى سياسية معينة، في بعض البلاد العربية، فهي تدرك أن العلاقات بين الدول تمثلها الحكومات لا الأحزاب.. ناهيك بما جلبه النهج السابق لها من متاعب هي في غنى عنها..

وبغض النظر عن علاقة تركيا بالمعارضة فإن قيادتها السياسية تدرك أن مستقبل سورية الموحدة والآمنة والنامية تهمها.. ففي تغريدة له في “تويتر” قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو: “التقينا برئيس الائتلاف الوطني السوري سالم المسلط، ورئيس هيئة التفاوض السورية بدر جاموس، ورئيس الحكومة السورية المؤقتة عبد الرحمن مصطفى. ناقشنا آخر التطورات في السياق السوري، وجددنا دعمنا للمعارضة والشعب السوريين وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254″.”[8]

الموقف الأمريكي متربص وغائم

حتى الآن لا يزال الموقف الأمريكي غير جاد بأي فعل عملي على الأرض، ما يجعل موقفها ملتبس وضبابي، فلا شيء غير التصريحات المتتابعة التي تهدد النظام، وتتوعد رأسه بالإزالة، وكان بإمكانها بوجود القرار 2254/ 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015، وتأكيدها المستمر عليه، وكان لها دور مهم في استصداره، لكنها لم تقم، حتى الآن، بأي فعل جدِّي لوضع القرار موضع التنفيذ العملي، وخصوصاً بعد أن قطعت روسيا الطريق على تنفيذه بمسارات أخرى (أستانا وسوتشي) خارج إطار المنظمة الأممية التي أصدرته، كما اعتمدت أمريكا تنظيم “قسد” الذي يقوده حزب الـ “P. k. k” لتعقيد المشكلة في الشمال الشرقي من سورية..  

ويبقى القرار رغم مرونة صياغته وغموضها إلا أنه يفتح أفقاً أمام السوريين لإيجاد حلول مستقبلية، فهو يؤكد وجود هيئة حكم انتقالية، إذ يقول: “إنه ما من حل دائم للأزمة الراهنة في سورية إلا من خلال عملية سياسية جامعة بقيادة سورية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، بهدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف المؤرخ في 30 حزيران/ يونية 2012، الذي أيده القرار 2118 (2013)، وذلك بسبل منها إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخوَّل سلطات تنفيذية كاملة، وتعتمد في تشكيلها على الموافقة المتبادلة مع كفالة استمرارية المؤسسات الحكومية.”[9] ويؤكد القرار، في البند (14) من بنوده العودة الآمنة للاجئين السوريين. ومع ذلك يحتاج القرار موقفاً قوياً من مؤسسات المعارضة وحلفائها لتنفيذ القرار على نحو يخدم ما يطمح إليه السوريون كافة..

السوريون في تركيا والشمال السوري والمهاجر (أنين وغضب)

الموقف الغالب لدى السوريين داخل ما يسمى بـ: “المناطق المحررة” هو رفض انعطاف الجانب التركي باتجاه النظام، وكما سبق في شهر آب من العام الفائت، فقد خرجت مظاهرات شعبية عبَّرت عن غضبها، ورفضها لمثل هذه الخطوات، فيما تباينت مواقف المعارضة، أفراداً وتجمعات وأحزاباً بين الرافض، والصامت، والموارب، وكذلك هي مواقف بعض المثقفين. أما الهيئة الرسمية المسماة بـ “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة” فلم يصدر عنها أي بيان قبل لقاء وفدها بوزير الخارجية التركي إذ أكد الجانبان، خلال اللقاء، الالتزام بتطبيق القرار 2254.

لكن، وبغض النظر عن موقف هذا الفريق المعارض أو ذاك، هل يمكن للمعارضة بألوانها كافة أن تقوم بفعل ما يمكن له أن يؤثر في مسار هذا الانعطاف المفاجئ.. وهل يمكن للائتلاف بصفته الممثل الرسمي للمعارضة السورية، إضافة إلى هيئة المفاوضات، أن يقوم اليوم بفعل ما، يلملم من خلاله أطراف المعارضة، وأغلب مكوناتها أحزاباً، ومنظمات مجتمع مدني، ومجالس مدن ونقابات مهنية، ونوادي ثقافية، وتجمعات أنشطة مختلفة قائمة في المهاجر ومواطن النزوح، بالإضافة إلى معارضة الداخل التقليدية، وسواها غير المعلنة، فكل هؤلاء يتطلعون إلى سورية ديمقراطية وموحدة، إن هم عرفوا، كيف تتماهى إمكاناتهم لتحقيق ذلك الأمل على أسس تشاركية حقيقية، ومن خلال رؤية يصوغون محتواها بوثيقة مرحلية تقود في النهاية إلى تلك الدولة المدنية الديمقراطية التي ينشدها السوريون وقدموا في سبيلها مئات ألوف الشهداء..

نعم هناك عناصر قوية ومتعددة بيد المعارضة، فبالإضافة إلى الموقف التركي الذي لا يشي حتى الآن بأنه قد يفرِّط بحقوق السوريين، لا حباً أو عطفاً عليهم، فالسياسية مصالح، لكنها، من جهة ثانية، ليست مجردة كلياً من القيم الأخلاقية، ويدرك الجانب التركي الذي تابع الحدث السوري منذ بداياته، أن المهم والدائم هو الشعب السوري.. وأن المستقبل لسورية الموحدة والديمقراطية.. ثمَّ إن لتركيا دور رئيس فيما تنتظره سورية من إعادة إعمار، وتنمية مستمرة، وأن سورية بوابة رئيسة للدخول إلى البلاد العربية التي تعمل تركيا اليوم لاستعادة علاقاتها التي كانت معها. وللبلاد العربية مصلحة في عودة سورية موحدة إلى وسطها العربي على أسس جديدة.. فالكثير من البلاد العربية الفاعلة تأذت من النظام السوري، رغم مساندتها له، خلال أربعين سنة خلت. ثم إن الموقف الأمريكي والأوربي عموماً مع تطبيق القرار 2254 وهذا متكأ قوي يدعم جوهر مطالب السوريين!

الوضع فيما يسمى بالمحرر

يمكن تلخيص حال الناس فيما يسمى بالمحرر بعدم وجود أي قانون غير قوانين حكومات الأمر الواقع.. “فلا تنظيمات سياسية مرخصة في مناطق “هيئة تحرير الشام” وهناك تضييق على كل حديث في السياسة، فلا نقد للمسؤولين، وغالباً ما تمنع الاجتماعات بحجة الاختلاط أو نشر الكفر.. ومعظم المعتقلين السياسيين متهمون بداعش أو ممن يتخابرون مع النظام! والمجتمع منضبط تلقائيا، ولديه القدرة على التقية، والتخفي.. (يعرف كيف يداري موقفه عن حاكميه) أما مناطق درع الفرات وغصن الزيتون فلا يوجد عمل سياسي رسمي.

التعليم في أسوأ حالاته لدى مناطق الهيئة عموماً عدا بعض المدارس التي تديرها منظمات المجتمع المدني.. وبقية المدارس هي بلا خدمات، فلا تدفئة ولا قرطاسية ولا رواتب معلمين! وطبيعي أن يكون مستواها متدنياً، وأن يكثر التسرب منها.. شعارات الصباح دينية، وثمة فصل الجنسين منذ المرحلة الابتدائية! والمعلمون في حالة مزرية، بعضهم يجمع البلاستيك للتدفئة. أنظمة وزارة التربية صارمة، وعقوباتها شديدة، وتشجع التعليمين الديني والخاص، وتؤجر المدارس للقائمين عليهما. تدير المجالس المحلية عملية التعليم في مناطق درع الفرات، وغصن الزيتون، وتمنح المعلم راتباً شهرياً قدره 1700 ليرة تركية، والتعليم الجامعي مأجور كلياً، وتكلفة التعليم الحكومي أقل من الخاص..

تدير حكومة الإنقاذ الأمور الاقتصادية في مناطقها، ميزانية الحكومة تستوفى من الضرائب الباهظة والمرهقة، والخدمات الحكومة معدومة الا ما تجود به المنظمات.. ولا صناعة تذكر! أما الزراعة فعنصر أساسي في اقتصاد المنطقة، لكنها مهملة، بلا دعم، ولا محاصيل استراتيجية تستلمها الحكومتان. والتسويق متروك لأفراد محددين في السوق المحلية. وثمة وفرة في الإنتاج، لكن القدرة الشرائية تكاد تكون منعدمة لدى النازحين خاصة. أما المخيمات فتدعمها المنظمات بالماء والغذاء.

التجارة وضعها سيء، رغم أن المعابر مع تركيا مفتوحة، لكن السوق ضيقة جداً. والقوة الشرائية متدنية، وحال الأسواق المحلية بائسة إذ ترتكز على قوة الشراء، وتتقاضى المعابر رسوماً مرتفعة، وثمة منع لبعض البضائع لدى حكومتي الإنقاذ والمؤقتة، أما دخول البضائع وخروجها فهو محصور بالفصائل. والتجارة بيد أفراد محددين، وتقوم على التهريب باتجاه تركيا والنظام ومناطق قسد.. ويوجد ترخيص في مناطق الهيئة. وتنهض بها الفصائل في المناطق الأخرى. فرص العمل محصورة بيد الفصائل! ويبقى الوضع الصحي مقبولاً بل جيداً، إذ هو تحت إشراف المنظمات أيضاً.”[10]

إلى أين تسير الأمور وما السيناريوهات المحتملة

كل الدلائل تشير إلى أن طريق هذه المبادرة مسدود أمام حل منصف حتى وإن أتى عن طريق تطبيق القرار 2254 فالنظام لا يمكن أن يقبل بشريك له في الحكم، فما بالكم بموقفه بعد أن ارتكب كل المجازر التي لا بد أن يسأل عنها، وعن تدمير سورية بالكامل، وهو الذي دمرها لأن الشعب السوري طالبه من خلال احتجاجاته الشعبية بدولة لمواطنيها كافة.. وثمة أكثر من دليل حي ومن ذلك تعطيله عمل اللجنة الدستورية عبر سنوات ثلاث، كما أنه نقض ميثاق اتفاقات المصالحة التي ضمنها الروس أنفسهم، فاغتال وسجن وأوجد عداوات بين الأهل.. والنتيجة فشله “في التصالح معها فعلاً، كما فشل في إعادة شيء من الاستقرار إليها. أما المنافذ الحدودية مع العراق ولبنان فتركها النظام مرتعاً لتهريبات حلفائه الإيرانيين، وأما المنفذ مع الأردن فجعله مرتعاً لعصابات الكبتاغون وغيره”.[11]

وفي المقابل هناك قلق لدى اللاجئين المقيمين في تركيا من الترحيل قبل وجود حل سياسي متكامل، وخاصة أن مضايقات مزعجة تجري لبعضهم! وهناك الكثير من اللاجئين لديهم مشكلات في أوراقهم الثبوتية. وآخرون ممن يعرفون بحكومات الأمر الواقع (مدنيين وعسكريين) تحركهم مصالحهم، فيرفضون أي سيناريو يأتي بحل قبل رحيل النظام، وإن كان وفق القرار 2254، ويقترح بعضهم تجديد الثورة (“سنعيدها سيرتها الأولى”) وكأن الثورة تحركها الرغبات لا العوامل الموضوعية. كما يرى بعضهم الآخر استقالة الائتلاف أو انتقاله إلى بلد أوروبي، أو إلى الداخل السوري.. ويسعى بعضهم إلى التداعي لعقد مؤتمر لانتخاب قيادة جديدة. وكل ذلك آراء غير ناضجة، ولا تستند إلى الواقع القائم، لكنها تعبر عن سوداويته.

خاتمة

لاحظنا من تلك الجولة في واقع الأزمة السورية وما يحيط بالأطراف التي تدخلت في صنعها من روس وإيرانيين وسواهما من أزمات والكل ينطلق في بحثه عن حل للأزمة السورية من أزمته، ومن مصالحه المحققة، أو التي يراها في الأفق ويتساوى بذلك جميع المتدخلين في الشأن السوري! ويبقى الأكثر أنيناً، بين هؤلاء جميعاً، هو الشعب السوري سواء كان ضمن سيطرة النظام أم ضمن سيطرة حكومات الأمر الواقع، أما ممثلوه – ومن خلال واقعهم – فلا حول لهم ومن ضمنهم “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”.

إن الاستدارة التركية، ومن خلال ما حدث في المحرر، ومن الالتفاتة الأمريكية، تبين أن هناك عناصر قوية لا بد من التقاطها، والاشتغال عليها، ومنها الموقفين: التركي والسوري اللذين لا يزالان يتمتعان بالحيوية لكنهما يحتاجان إلى تقوية وأراها في أمرين أولهما يرتبط بـ “الائتلاف” كونه لا يزال ممثلاً رسمياً لقوى الثورة والمعارضة، لكنه منفصل عنهما، على نحو أو آخر، فـ “لطالما سمع وطولب بأهمية أن يكون الصف السوري موحداً، وفق خطاب واضح وجامع يلبي نداء المرحلة، وحاجة السوريين. خطاباً يستقطب القوى السياسية السورية كلها، ويتبنى معها الدولة الديمقراطية، دولة المواطنة التي ينشدها السوريون، دولة توفر لمواطنيها، متنوعي المشارب، وطناً نامياً لا تمييز فيه ولا احتكار ولا فساد”[12]. فهل يفعل ذلك ليكون أكثر قوة واحتراماً وحرية! ولا أعتقد بأنه يجهل الطريق إلى ذلك الفعل؟! أما الأمر الثاني فإنه يتعلق بالإخوة الأتراك الحلفاء الطبيعيين للسوريين ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، لا شك، في أنهم يدركون جيداً أن قوة الائتلاف، بما يمثله، كما قوة كل من يدير مركزاً مسؤولاً له حساسيته في “المحرر” هما قوة إضافية للموقف التركي الحريص على وحدة سورية أرضاً وشعباً، كما حرصه على أمنه القومي، وأن الالتفاتة الأمريكية الحالية تفترض التمسك أكثر بما هو إيجابي في القرار الأممي 2254، ولعلها فرصة لا بد من استغلالها لبدء الخطوة السليمة على درب إنهاء معاناة السوريين وأنين أحزانهم..


[1]– مقالة على شبكة السويداء 24 بلا تاريخ الرابط: https://2u.pw/WaO5tm

[2]– عطفة، رفعت، مثقف سوري، مدير ثقافة مصياف لسنوات طويلة، وملحق ثقافي في إسبانيا ومترجم، صفحته على الفيسبوك صباح يوم 3/كانون الأول/ديسمبر2022 مدينة مصياف. سورية..

[3]– تقرير مجموعة باحثين حول (انعكاس شح مصادر الطاقة على الأنماط المعيشية والاجتماعية في سورية (مناطق سيطرة النظام) تاريخ: 02 يناير كانون الثاني 2023.. مركز حرمون للدراسات المعاصرة. الرابط: https://2u.pw/nf5K7Q

[4]– مقال عنوانه: بالأرقام.. “خسائر الجيشين الروسي والأوكراني في الحرب”. موقع (قناة سكاي نيوز عربية 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) الرابط: https://2u.pw/8Rus7Z

[5]– مقال بعنوان (خسائر عسكرية لروسيا في أوكرانيا) موقع الجزيرة 25 آب/أغسطس 2022 الرابط: https://2u.pw/Yd0pnD

[6] – صابر، شروق مقالة بعنوان (مع دخولها شهرها الرابع إلى أين تتجه الاحتجاجات الإيرانية؟) مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية تاريخ 14/12/2022 الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/17710.aspx

[7]– زاوية مينا: هي محاولات قد لا تثمر ولكنها محاولات/موقع مركز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الرابط: https://2u.pw/mEV9QI

[8]– جاويش أوغلو يؤكد دعم تركيا للمعارضة السورية.. متابعات (موقع السوري اليوم 3 يناير2023) الرابط:

https://2u.pw/BaFR02

[9]– مجلة عنب بلدي تاريخ 24/7/2018 نقلاً عن موقع الأمم المتحدة.. الرابط: https://www.enabbaladi.net/archives/242696

[10] – ملخص لحديث جرى بين معد البحث، والمحامي “أبو علاء” المقيم في الشمال المحرر..

[11] – بدرخان، عبد الوهاب، مقالة تركيا والأسد: حدود المصالحة وأوهامها (موقع العربية/11 كانون الثاني/يناير/2023) الرابط:

https://2u.pw/vNDhBy

[12]– مقالة لمعد البحث نشرت في “موقع “سورية المستقبل” بتاريخ: 15/ كانون الثاني / يناير/ 2023.. الرابط


الكاتب محمود الوهب

محمود الوهب

كاتب وصحفي سوري

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة