الانفجارات السكانية وثقافة قانون الفوضى

img

هل هناك علاقة بين الانفجار السكانى، وبين مدى فعالية وكفاءة النظم القانونية في ضبط السلوك الاجتماعي في عديد البلدان العربية؟

السؤال عندما يطرح في البلدان الغربية واليابان.. إلخ، يبدو سؤال في غير موضعه بالنظر إلى أن هذه البلدان يطبق منها القانون بفعالية في الحياة اليومية في مناحيها كافة، ومرجع ذلك عديد الأسباب ومنها التالية:

1- رسوخ ثقافة القانون، وتقاليدها والامتثال لها من قبل المواطن الفرد والمجتمع، لأنها جزء من الثقافة العامة، ونظم التنشئة الاجتماعية والسياسية، وتتكامل مع الثقافة السياسية الديمقراطية الليبرالية، والتمثيلية، واحترام المواطن للمؤسسات السياسية، والسلطات العامة.

2- فلسفة القانون التي ترتكز عليها السياسات التشريعية، في طابعها الليبرالي، تعتمد على التوازن النسبى بين المصالح الاجتماعية المتصارعة في عديد القوانين، وتوازن بين الحريات العامة والشخصية، والقيود التي يفرضها المشرع على بعضها لاعتبارات الصالح العام، على الرغم من أن القوانين تحملُ في أعطافها مصالح القوى الاجتماعية المسيطرة في كل دولة، لأن المشرع ينزع لاعتبارات الاستقرار السياسى يميلُ إلى الموازنات في بعض القوانين، لمصالح الطبقات الاجتماعية الوسطى، والعمال والفلاحين، وخاصة في مجال الضمانات الاجتماعية في الصحة، والتعليم، والمعاشات، وإعانات البطالة لمدد محددة وفق قانون كل دولة.

3- ميلُ غالبية المواطنين إلى الأسرة النووية، والحد من الإنجاب، وضبط النسل، على الرغم من الضمانات الاجتماعية التي تقدمها الدولة، للأسرة، أو علاقات الرفقة والمخادنة وغيرها من العلاقات خارج نظام الزواج وتمنح للزوجة أو المسئول عن تربية الأطفال، وتعليمهم.. إلخ.

4- رسوخ قيمة العمل والكفاءة لدى المواطنين، في ظل المنافسة حول فرص العمل في سوق العمل في هذه المجتمعات، ومن ثم استصحاب قيمة احترام القانون، والنظم التي تؤطره.

5- احترام المال العام، وعدم المساس به لدى الأغلبية الساحقة من المواطنين، خاصة أن القانون الجنائي يحمي المال العام والوظيفة العامة – وأيضاً المال الخاص والملكية الخاصة – ويعاقب على أي سلوك ينتهك الملكية العامة، وجرائم الرشوة والاختلاس وغيرها.

6- التطورات الاقتصادية الكبرى، ومعها التكنولوجيا فائقة التطور، وخاصة مع الثورتين الصناعية الثالثة، والرابعة، وانعكاساتها على أسواق العمل في هذه البلدان، على نحو أدى إلى خروج بعض الوظائف من سوق العمل، على نحو يتطلب تطوير نظم البطالة، وإعادة التأهيل لشغل وظائف أخرى، من خلال برامج التدريب عليها، لإمكان إيجاد فرص جديدة ومختلفة للعمل، في ظل تغيرات السوق السريعة كنتاج للتطورات التكنولوجية الفائقة السرعة. من ثم يفرض ذلك ضغوطاً على المواطنين في هذه المجتمعات الأكثر تقدماً في عالمنا، لاسيما في ظل ثورة الرقمنة والذكاء الاصطناعى، وعالم الروبوتات، وهو ما يفرض تغيرات في مجال النظم القانونية لكي تتواءم مع عالم الانتقال إلى الإناسة الروبوتية، ثم إلى ما بعد الإنسانية مستقبلاً.

7- أدت السياسات الاقتصادية والاجتماعية النيوليبرالية إلى التأثير على أوضاع بعض الطبقات الوسطى، والعمال والفلاحين في بعض الدول، وخاصة في فرنسا، على نحو أدى إلى حركة السترات الصفراء الاحتجاجية، وبروز بعض التوجهات للمطالبة بضرورة إدخال إصلاحات في النظام الليبرالي يتيح للمواطنين التصويت على بعض مشروعات القوانين مباشرة، دون الانتظار للانتخابات العامة، وذلك لمساسها بمصالحهم، ونمط حياتهم.

من هنا يبدو السؤال حول فعالية القوانين والحريات العامة والشخصية، خارج نطاق المجتمعات والدول فائقة التطور، على الرغم من بعض أشكال الخروج على الصراطات القانونية، والجرائم التي يرتكبها بعض المواطنين، وخاصة في ظل موجات الهجرة من جنوب العالم، وشيوع التناقضات بين بعض المواطنين من الجاليات القادمة من جنوب العالم وأديانهم ومذاهبهم، وبين أنظمة القيم، والتقاليد والثقافات الغربية العلمانية، والفصل بين الدين وأنماط الحياة والسياسة في هذه البلدان، وأيضاً في اليابان وبعض البلدان الآسيوية الأخرى.

السؤال حول الانفجار السكاني، وعدم فعالية القانون في العالم العربي، يكتسب، وجاهته عربياً في ظل دول شمولية وتسلطية، وخاصة في دول العسر العربية للأسباب التالية:

1- ضعف ثقافة احترام القانون لدى المواطنين، وارتفاع معدلات الأمية القرائية والكتابية، وأمية المتعلمين، على نحو لا يجعلهم على اتصال بالثقافة القانونية، وأزمة العلم بالقانون حتى لدى بعض القانونيين.

2- شيوع الاعتقاد بأن القانون لا يمثل مصالحهم الاجتماعية وخاصة الفئات المعسورة من العمال والفلاحين، والعمالة المؤقتة، والبورجوازية الصغيرة، والرثة معاً، لا سيما في ظل تزايد السياسات الجبائية في فرض الرسوم، والضرائب العامة على نحو متزايد سنوياً، بما يؤدى إلى ضغوط اجتماعية واسعة على هذه الفئات والشرائح الاجتماعية، في ظل سياسات اقتصادية عربية تسعى إلى وضع موازنات عامة تتسم بالاختلال، وتزايد المديونيات الخارجية، والفوائد المقررة عليها وتسعى للوفاء بها وفق الاتفاقات مع صندوق النقد والبنك الدوليين وغيرها من مؤسسات التمويل الكبرى عالمياً.

2- ارتفاع معدلات التضخم المتزايدة، وأثرها على نمط حياة الطبقة الوسطى – الوسطى، والصغيرة، وغالبية الطبقات الشعبية، وهو ما يدفع بعضهم، لانتهاك أحكام القانون، وارتكاب الجرائم والمخالفات، وتزايد أعداد الخارجين على القانون، وانتشار الجرائم على نحو فردي، أو جماعي من العصب الإجرامية. وازدياد معدلات جرائم الرشوة، واختلاس المال العام، وغيرها من جرائم الموظفين العموميين.

3- ارتفاع معدلات الإنجاب، على نحو انفجاري أدى ولايزال إلى التضخم السكانى، على نحو يؤدى إلى نقص في فرص العمل، وانتشار البطالة، والهجرة من الأرياف، والبوادي إلى المدن التي تريفت سعياً وراء الرزق، في ظل محدودية الحيز الجغرافي والمكاني للمدن العربية، ما أدى إلى تضخمها المتزايد.

تضخم بعض مدن دول العسر العربية، أدى إلى شيوع أنماط من سلوك الفوضى، وعدم احترام قواعد المرور، وأنظمة البناء، وتوحش المدن المعسورة، من حيث أشكال الخروج على القانون، وتمدد حواف المدن وأحياءها من خلال نمط البناء العشوائى والمعمار اللارسمي، وتخلق بعض من العصب الإجرامية، وأنماط السلوك الإجرامى العنيف لدى بعض من سكانها.

4- السلوك الاجتماعي الريفي في بعض المدن، ينطوي على التقاليد والقواعد العرفية التي يخالف بعضها قانون الدولة بما فيها قوانين الزراعة، وبعض قواعد القانون الجنائي في المشاجرات، وممارسة بعض العنف، أو الثأر، على الرغم من بعض التغيرات الاجتماعية، إلا ان هذا النمط من السلوك في المدن المريفة بات أحد علامات ثقافة الفوضى، واللانظام في حيزها المكاني المحدود في ظل الانفجارات السكانية المتلاحقة في بعض المدن العربية ذوات الكثافات السكانية العالية، وأيضاً في الأرياف.

5- ظاهرة المجتمع ضد الدولة – وخاصة دول ما بعد الاستقلال الهشة عربياً ومجتمعاتها الانقسامية المتشظية – إلى انتماءات إلى هويات عرقية، وقبائلية، وعشائرية ودينية ومذهبية، ومناطقية، وهو ما أدى ولايزال إلى أزمات هوياتية، وفى الانتماء الوطني، وهو ما يشيع لدى بعضهم في هذه الجماعات، وإدراك أن القوانين التي تسنها الدولة، وتصدرها وتنشرها هى تعبير عن مصالح تركيبة الحكم – ذات الأغلبية الدينية أو المذهبية أو القبلية أو العشائرية أو العرقية… إلخ – ومن ثم تشيع لديهم دوافع الخروج على القانون والنظام لصالح بعض التقاليد، والقواعد العرفية السائدة في هذه الجماعات التكوينية لا سيما الأقلية.

6- الوهن الذي بات يشيع لدى أجهزة إنفاذ القانون، وأحكام القضاء، على الرغم من تزايد العاملين بها – في الشرطة والجهاز الإداري، والفئات ذات الضبطية القضائية – وتنامي الضعف في كفاءاتها وعدم مواكبة بعضها للتطورات الأمنية والعلمية، وشيوع بعض جرائم الموظفين العموميين من بعضهم داخلها، على نحو يؤدى إلى تراخيها في إنفاذ القانون، ومن ثم شيوع السلوك الخارج على أحكامه والمنتهك له من بعض المواطنين.

من هنا تشكل الانفجارات السكانية أحد محركات أنماط السلوك الجانح ومحمولاته من أنماط الفوضى في بعض دول العسر العربية.

المصدر: الأهرام


الكاتب نبيل عبد الفتاح

نبيل عبد الفتاح

باحث وكاتب صحفي مصري. مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وشغل منصب رئيس مركز تاريخ الأهرام، كما عمل رئيساً لفريق تحرير "تقرير الحالة الدينية" في مصر. مختصّ في شؤون الجماعات الإسلامية الأصولية.

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة