المهجّرون وواقع التطبيع
عندما ملأت صيحات الحرية سماء سوريا في آذار 2011 بنزول شباب سوريا الأحرار إلى الشوارع متحدّين نظام الأسد وجبروته لم يكن في حساباتهم صراعات الدول الإقليمية والدولية التي سوف تأتي لاحقاً لتمزّق وحدتهم ووحدة مطالبهم التي لخصوها بكلمة حريّة. ولعلّ كلمة سلميّة لم تشفع لهم أمام الآلة العسكرية لنظام لم يعتد أن يُطالب بل اعتاد على الفرض فقط.
أهداف الثورة الأولى التي مثّلت أغلبية مطالب السوريين في العيش الكريم، تجاوزها متسلقو الثورة أو من تخلّى عن مبادئه بالرضوخ للعروض المتعددة والمغرية آنذاك. فمنهم من أصبح ممثلاً عن ثورة شعب أو قائداً عسكرياً أو محلّلاً سياسياً واستراتيجياً. كلّ هؤلاء دفعت بهم الأيادي الدخيلة على الثورة التي تمثّلت في دور الدول الإقليمية لتفريق صفوف الشعب وفصل من يمثلون الثورة في منصاتها الرسمية عن قواعدها التي تحمّلت الدمار والقتل والتهجير والاعتقال.
ولعلّ التهجير الذي طال النسبة الأكبر من السوريين إن كان داخلياً أو خارجياً والذي كان وفق أجندة القضاء على الثورة السورية والذي لاحقاً أتى على بنية المجتمع السوري ومزّقه وكرّس القومية والطائفية والعشائرية والمناطقية. كلّ ما ذُكر كان الدور الموكل لدول المنطقة في كبت جموح شباب الثورة والقضاء على أحلامهم.
ولم تكن الأحداث ضدّ المهجّرين السوريين في تركيا هي الأولى من نوعها بل سبقتها مرات عديدة سابقاً إن كانت فردية أم منظمة جماعية. وكذلك شهدت لبنان أحداثاً مشابهة لتلك التي في تركيا من اعتداءات وحرق مخيمات السوريين، وأيضاً مصر والعراق (كردستان العراق) من عمليات تضييق على السوريين المقيمين هناك والتهديد بترحيلهم وعدم تجديد إقاماتهم. ولن تكون دول أوربا بعيدة عن ذلك بتصاعد اليمين المتطرّف ومطالبته بترحيل اللاجئين إلى خارج الاتحاد الأوربي. كلّ تلك الأحداث المتتالية دفعت إلى احتجاجات في دول العالم والداخل السوري (المحرر) تطالب باحترام حقوق السوريين اللاجئين والتزام المنظمات المعنية بذلك.
واليوم بعض هذه الدول تعود للتواصل مع نظام الأسد وكثير منها لم تقطع علاقتها أساساً متناسية كلّ تضحيات الشعب السوري، وآخرها تركيا التي لم تخرج من اليوم الأول للثورة عن دورها المُعدّ في تحجيم القوى السياسية الثورية وإخضاعها لرغباتها التي تتفق مع ما يخطط دولياً.
ويعيش المهجّرون أسوأ أحوالهم فالعودة إلى سوريا في ظل وجود النظام الفاسد غير القادر على استيعابهم وهو في واقع الأمر لا يرغب بذلك ولا مناطق قوى الأمر الواقع قادرة لأنّ ما عمّ بها من فساد يشابه مناطق سيطرة الأسد. ومن ناحية ثانية فإنّ ضغط الدول المضيفة لهم وتزايد الاعتداءات عليهم وعلى ممتلكاتهم تشكّل لهم هاجساً يومياً يهدّد استقرارهم في هذه الدول.
والنقطة الأهمّ أنّ النظام وأشباهه الذين عملوا بشكل ممنهج على دفع السوريين للهجرة، لا يرغبون بعودة المهجّرين الذين يحملون روح الثورة لأنّهم يشعرون بأنّ في عودة هؤلاء المهجّرين تهديداً لهم ولإماراتهم الوهمية بثورة جديدة مستمرة، بل سوف يستنهضون هِممَ السوريين في هذه المناطق ويدفعونهم إلى رفع الصوت عالياً في وجه النظام وأشباهه في مناطق سيطرة قوى الأمر الواقع. فاللاجئون هم الأكثر خسارة وتضحية منذ بداية الثورة. وهم الذين لم ينتظروا الدول لمساندتهم في ثورتهم بل كانوا ضحية الدول والنظام وقوى الأمر الواقع. وعودتهم تعني استمراراً للمطالبة بأهداف الثورة الأولى، التي سوف تأتي على النظام وأشباهه.