شعاع يضيء ذكراها ويستعيد ألقها الأول
تستغرق الثورة السورية آلاف المجلّدات، وعدداً لا يحصى ممّن يسردون حكايا أفراحهم الأولى، وأحزانهم المستمرّة إلى أيامنا هذه، ونحن نعيش ذكراها الثالثة عشرة، ونستعيد تفاصيل تلك المسيرة بكلّ دقائقها، وبكلّ ما فيها من آمال وآلام، ولا شكّ بأنّها ماثلة في أذهان الملايين لا من متابعي الشأن السوري العامّ والمهتمّين به فحسب، بل من هؤلاء الذين كان لهم الدور الرئيس في تشكيل ذلك الزخم الثوري الذي سيكون معلماً من معالم تاريخ سورية الوطني الحافل، يضاف إلى ما حقّقته النخب الوطنية في التاريخ السوري، منذ مطلع القرن العشرين إلى أواخر خمسينياته، من إنجازات غيَّرت وجه سورية بالديمقراطية التي عرفتها، وتميّزت بها عن سواها من دول المنطقة بنموِّها السياسي والاقتصادي وما استتبعه ذلك من تنمية اجتماعية عامّة.. تعليماً وصحة وثقافة وصحافة حرّة، إذ وصفت سنواتها القليلة بـ “العصر الذهبي” الذي امتدّ أربع سنوات غنيِّة، قبل أن يجيئها حكم الفرد الواحد، والحزب الواحد، وليغرق سورية في حال من الجمود الجليدي الكتيم الذي كان إبداع الفرد السوري أوَّل ضحاياه، فكانت تلك الأجواء القاتمة مرتعًا خصبًا للفساد الذي ابتلع كلّ ما تملكه سورية من ثروات وما أُغدق عليها من أموال بعد حرب عام 1973.
لست، على كلّ حال، بصدد استعادة مسيرة الثورة السورية، ولا الحديث عن تعرّجاتها بين مدّ وجزر، كما أنّني لست، هنا، بصدد النقد، فقد فعل كثيرون ذلك، وسوف يفعل أيضاً ممّن لهم باع أطول في هذا المجال، وممّن هم على اطّلاع بخفايا أحداثها، سواء كانوا مشاركين فيها، أم لديهم الوثائق اللازمة. ورغم ذلك لا بدّ من الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية، هو أنّ الثورة، ومنذ عدّة سنوات، دخلت في مرحلة الأزمة، وإن كان جمرها لايزال كامنًا تحت رماد تراكم عليها، وخصوصًا بعد أن أفسح في المجال لعديد الدول الأجنبية أن تتدخّل فيها وتمتلك، على نحو أو آخر، زمام قرارها.. وإذا كان النظام قد استدعى الأجنبي انتصارًا له على شعبه، فإنّ من تولى قيادة الثورة، وبفعل ظروف معينة، لم يكن بأقلّ من النظام، في سعيه، وراء هذه الدولة أو تلك! بل إن بعضهم قد رسخ في ذهنه، منذ أشهر الثورة الأولى، مقولتي: “إنّ هذا النظام لا يمكن أن يسقط إلا بقوة السلاح”، و”بالتدخّل الخارجي”، وقد حدث ذلك بالفعل.. وهكذا غاب صوت الثورة السورية، فلا السلاح خدمها، ولا التدخّل الخارجي وقف إلى جانبها.. بل إنّ كليهما أدخل الثورة في متاهات أبعدتها عن غاياتها! فالمتدخِّل خدم مصالحه، وهذا طبيعي في أبجدية السياسة، ومن جهة ثانية، صبَّ نشاط المتدخِّل في طاحونة النظام نفسه! وساهم، على نحو أو آخر، في المحاولات الذاهبة اليوم إلى تفتيت سورية، من خلال حكومات الأمر الواقع التي هي أسوأ من أيّ حكم استبدادي مقيت! أو تقاسمها حصصًا على أساس من المكوّنات التي هي شكل استبدادي آخر، فهي توزّعه على زعماء الطوائف، والأديان، والقوميات، تحت مسمَّى الديمقراطية، كما هو حال لبنان والعراق، إذ أوصلت المحاصصة دولتيهما إلى حال من الفشل الذريع، وشعبهما إلى المجاعة، ونشرت الكراهية بين مكوّناتهما. وأسقطت، بالتالي، مفهوم الوطن كليًّا.. ولا شكّ في أنّ إيران قد لعبت دورًا في مسار الدولتين عبر ذلك الشكل المقصود والمدروس بعناية.. لكنّ شعبي البلدين يمرّان اليوم بصحوة مبعثها ذلك الحال البائس الذي وصلا إليه..
يتّضح ممّا تقدّم أنّ نقطة الضعف التي أدخلت الثورة السورية في حال من السُّبات الكلي. ومن خلال ذلك، ومن تراكم أوجاع السوريين، وخاصّة في مناطق سيطرة النظام، هبّت نسائم للحرية من محافظة السويداء لتلامس جمرات الثورة المتبقية تحت الرماد، ولتستنهض وعي السوريين من جديد، وهكذا أعادت للثورة ألقها الأوّل إذ عرَّت النظام من ورقة التوت التي كان قد تستّر بها زمنًا طويلًا كحام للأقليات. وأكّدت وحدة الشعب السوري ورفعت شعار إسقاط نظام الاستبداد، والذهاب إلى دولة المواطنة التي تستوعب الطيف السوري بألوانه كافّة! بينما كان النظام يخفي وراء تلك الورقة سلطته الاستبدادية، ويحيطها بمن يصنع منه صنمًا، فيفتح له أبواب الفساد خيانةً للوطن ونهبًا لثروات الشعب.. وتميّزت انتفاضة السويداء بمشاركة واسعة للمرأة! أما ميزتها الأبرز والأهم فكانت تلك المشاركة الفعلية لرجال الدين الذين أكّدوا، بوعي وطني سابق، كرجال دين ّأنّ الدولة العلمانية الحيادية تجاه الأديان والطوائف، قادرة على استيعاب الأطياف السورية، دون أيِّ مساس بحقوقهم الروحية وبممارسة طقوسهم الخاصة..
صحيح أنّ انتفاضة السويداء لم تلق حتى الآن، من جانب حكومات الأمر الواقع، ما تستحقّه من دعم وترحيب، ولا من الرسميين في قيادة الثورة (المعارضة) إلا أصواتًا خجولة من بعضهم.. لكنّها أزعجت النظام، وأوقعته في حيرة من أمره، فتركها لشأنها، لعلّها تأتيه طائعة بسبب تقنينه حاجات الناس الضرورية لعيشهم. ولم يتوقّع لها الصمود لأسابيع، وها هي ذي مستمرّة بعد سبعة أشهر، وقد أنجبت ما كان مرجوًّا منها، فبوحي منها جاء ميثاق “درعا البلد”، و”القريَّا” بميثاق مهم سرعان ما لاقته جماعة من الناشطين الثوار في الشمال السوري.. وإذا كان ذلك الميثاق قد تميّز برموز وطنية باتت معروفة، فقد جاء في جوهره تعبيراً عن صوت الشعب السوري الذي افتُقد منذ سنوات.. وقد جاء ليؤكّد، في زحمة السُّلَط، أنّ السياسة ملك للشعب السوري ولا أحد ينوب عنه، كما أكّد وحدة سورية أرضاً وشعباً، وأنّ المواطنة المتساوية، هي ما يميِّز سورية المستقبل، وهي فوق كلّ طائفة أو دين أو قومية أو أيّ مَعتقَد آخر. و”الميثاق” أو “وثيقة المناطق الثلاث: (إعلان مشترك) ليس شيئاً منجزًا مفروضاً، ولكنّه قابل للحوار، ولبلورة فكرة الثورة على أشكال الاستبداد وفلسفة لفكرتيْ الحرية والمواطنة بما يناسب سورية في إطار وحدتها.. وهما، كما أسلفت، محاولة لتمكين السوريين من استعادة زمام أمرهم، ولإيجاد البديل المناسب عمَّن أغرق سورية في الفوضى والارتهان، وأوصلها إلى أشلاء وأوصال..