توصيف عام للمشرق العربي المعاصر
يشكل المشرق العربي وحدة استراتيجية داخل المنطقة العربية، وهو يمثل المسرح الرئيسي الذي جرت عليه أكثر التفاعلات الصراعية حدة وانتشاراً داخل العالم العربي، فبسبب موقعه الاستراتيجي الهام كان هدفاً رئيسياً لأبرز محاولات الاختراق الخارجي. وهو امتداد جغرافي كبير من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي والخليج العربي والحدود العربية مع إيران وتركيا، أي ما يسمى بالقسم الآسيوي من العالم العربي، وهو يضم منطقتين إقليميتين: أولهما، إقليم الهلال الخصيب (فلسطين، ولبنان، وسورية، والأردن، والعراق). وثانيهما، إقليم الخليج والجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية، واليمن، والكويت، والبحرين، وقطر، والإمارات العربية المتحدة، وعمان).
لقد كانت المقاطعات العربية المشرقية “تشكل وحدة اقتصادية واجتماعية وثقافية متماسكة حتى مطالع القرن التاسع عشر. ولم تكن هناك حدود واضحة بين ولاية وأخرى لأنها تشكلت كمقاطعات داخلية في الدولة المركزية العثمانية قبل أن تؤثر فيها عوامل التفكيك والتجزئة الاستعمارية التي كانت حملة نابليون بونابرت على مصر إحدى بواكيرها الهامة”.
وتمتاز الحركة السكانية في المشرق العربي ببعض السمات التي تحددت بها في القرن التاسع عشر، واتضحت معالمها بعد انهيار الدولة العثمانية. فقد شهدت هذه المرحلة استمرار الروابط المتينة بين سكان المشرق العربي على اختلاف مناطقهم، في ظل وحدة سياسية هـي “الرابطة العثمانية” التي كانت تتآكل من الداخل بمقدار ما تقترب من الحرب العالمية الأولى في أوائل القرن العشرين.
لقد مر المشرق العربي المعاصر بأربع مراحل: أولاها (1919-1949)، ومثلت عصر الكفاح من أجل الاستقلال الوطني، وهي تشكل الخلفية التاريخية لواقع المشرق العربي المعاصر. وثانيتها (1950-1991)، وبدأت بانهيار الحكم المدني وظهور عصر هيمنة العسكر على الحكم، وترسّخ “رأسمالية الدولة الوطنية” في القطرين الرئيسيين في المشرق (سورية والعراق)، وما رافق ذلك من تغييب للحريات الديمقراطية ولدولة الحق والقانون، وانتهت بالغزو العراقي للكويت وتداعياته المدمرة على النظام الإقليمي العربي. وثالثتها (1991-2003)، التي انتهت بالغزو الأميركي للعراق، وما ولّده من تفكك لوحدته الوطنية. ورابعتها (2003-2023)، حيث نشهد فشل الدول القائمة.
لقد عرفت الدولة الوطنية في المشرق العربي، خلال المرحلة الثانية، تحولات أساسية، إذ قامت في سورية والعراق “عصبيات يربطها الانتماء المشترك، الطائفي أو الجهوي أو القبلي، بالسيطرة التدريجية على جهاز الدولة. واستفادت هذه الجماعات، المتميزة بأصولها الريفية، من إنشاء الكيانات الحديثة للانتقال شبه الحر إلى المدينة والإقامة فيها، والتعليم المجاني إجمالاً، والانخراط في الأحزاب “الحديثة” وفي القوات المسلحة، من دون أن تتخلى تماماً عن عصبيتها الريفية التقليدية. بحيث استطاعت هذه الجماعات أن تستفيد – في الآن معاً – من العصبية القديمة المستمرة، ومن المؤسسات الناشئة حديثاً، مؤكدة مرة على انتمائها للأولى ومرة أخرى عن تماهيها مع الدولة “الحديثة”، حسب الظروف وحسبما تقتضي المصلحة”.
لقد شكلت بلاد الشام قطباً أساسياً للانبعاث العربي في القرن التاسع عشر، إذ “مكّنها انفتاحها على البحر الأبيض المتوسط من أن تدرك باكراً الخطر الإمبريالي، لكنّ اقتصاد المشرق العربي بقي في حجر النفوذ العثماني راكداً، فقد فقدت المدن السورية التي خرجت من دائرة التجارة القديمة والاستعمار الحديث الذي انفتحت عليه مصر، فقدت نخبها التي كانت تضمها في الماضي. وكما كان الحال في مصر، قام الانبعاث على أكتاف العناصر شبه الشعبية المتحدرة عن الفئات الوسطى: الحرفيون والمشايخ والأدباء”. كما أنّ فئات بورجوازية تجارية متنورة في دمشق وجبل لبنان لعبت دوراً هاماً في هذا الانبعاث.
لقد تمخضت الأحداث التي أعقبت “الثورة العربية الكبرى” في العام 1916، بل منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، عن شبه إجماع على أنّ الاستقلال، والاتحاد العربي، والديمقراطية، والتنمية، هي الأهداف العليا التي يسعى عرب المشرق إلى تحقيقها، والتي تمثل مقوّمات نهضتهم المنشودة. ولكنّ المتأمل – الآن – في تجربة المشرق العربي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، يجد أنّ لا الاستقلال ولا الاتحاد ولا الديمقراطية ولا التنمية الشاملة تحققت، بما يتناسب مع الاستثمار والجهد اللذين بُذلا من أجل تحقيقها.
ويبدو أنّ الجانب المأساوي في تجربة المشرق العربي المعاصر هو: أنّ طرح الأسئلة والبحث عن إجابات لها لا يتخذ شكل البحث الموضوعي الذي تتراكم نتائجه وإجاباته عبر تجارب الأجيال المتعاقبة، وإنما يطرح كل جيل هذه الأسئلة في فراغ تاريخي، بمعزل عن تجارب الأجيال التي سبقته. وهذا ما يمكن وصفه، كما أورده الدكتور محمد جابر الأنصاري، على النحو التالي “من الظاهرات المفجعة في الحياة العربية الحديثة أنّ البناء الفكري والاجتماعي لا يتراكم طبقة فوق طبقة، ومرحلة بعد أخرى، ليعلو ويتكامل، بل ترى كل جيل يصاب بالخيبة من قناعات الجيل السابق ويضطر إلى هدمها وإعادة التجربة من نقطة البدء؟ ثم ما يلبث أن يُفْجَعَ بقناعاته ذاتها، فلا يسلّم شيئاً ثابتاً للجيل الذي يليه، غير مرارة التجربة”.
والسؤال الآن هو: أين يكمن الخلل؟ هل في مستوى البنى الداخلية لأقطار المشرق العربـي؟ أم في مستوى التأثير الخارجي؟ أم في تداخل المستويين الداخلي والخارجي؟.
إنّ الحقيقة التاريخية الكبرى هي أنّ المشرق العربي يمثل نظاماً سياسياً وحضارياً مُخْتَرَقاً من قبل الدول الاستعمارية الكبرى. فهو، من حيث كونه منطقة محيطية تربطه بدول المركز الإمبريالي علاقات غير متكافئة، لا يستطيع تحقيق أهداف العرب العليا، لأنّ تلك العلاقات تعتبر معوّقة لمسيرته نحو تلك الأهداف. ذلك أنّ في مقدمة الأهداف الأساسية للاختراق الأوروبي، طوال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تأتي مسألة تغيير البنى الاقتصادية والاجتماعية للسلطنة العثمانية وولاياتها العربية، ولاسيما في بلاد الشام، لتسهيل الاختراق أولاً، وضرب المكوّنات المجتمعية القائمة ثانياً، والتخطيط لإقامة الدويلات التي تعوّق الوحدة المجتمعية ثالثاً، والسعي الدؤوب لبناء المشروع الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين لمنع وحدة المشرق العربي رابعاً، وربط المشرق ربطاً تبعياً بالسوق الرأسمالية العالمية خامساً، وغيرها من الأهداف.
أما النصف الآخر من الحقيقة فيكمن في الأوضاع والقوى الاجتماعية التي سمحت لعلاقات التبعية أن تستمر، فقد دخلت سياسات القوى الخارجية وحساباتها في توجهات القوى المحلية، ودخلت القوى المحلية في مخططات القوى الخارجية.
وفي الواقع فإنّ الدولة في أقطار المشرق العربي أقامت في داخلها بنى تحول، بذاتها، دون توجه هذه الأقطار نحو الاتحاد العربي المنشود، بل وتخنق القوى التي تتطلع إلى مثل هذا الاتحاد. بكلمات أخرى “لقد دأبت قوى الاستعمار القديم والجديد على خلق تحالف طبقي – سياسي تمنعه مصالحه من السير نحو الاتحاد العربي، على الأقل في الهلال الخصيب… بهذه البنية النوعية الخاصة، قامت الدولة بمهمتين متعارضتين تعارضاً جذرياً مع مهام خلق مرتكزات هذا الاتحاد: فقد فتتت مجتمعاتها بدل أن تدمجها، وأحيت القوى والمصالح ما قبل الوطنية، بدل أن تحدَّ من تأثيرها. ووضعت حدوداً صارمة حيال بعضها البعض، بدل أن تلغي هذه الحدود، ما دام الاندماج في الأمة هو شرط من شروط وجودها السياسي، بينما فتحت الحدود مع الخارج، سواء عبر التجارة، أو التبادل الثقافي، أو العلاقات السياسية”.
إنّ الدارس للمشرق العربي المعاصر لابدَّ من أن يوصّف خصوصياته، فهو “عقدة تلاقي وتقاطع مجموع حضارات وثقافات محلية ومحيطية”. وهو “ساح تعاقب وتلاقي ديانات”، بكل ما تنطوي عليه من طوائف ومذاهب وشيع وفرق. وعلى المستوى الجيو – سياسي فإنّ المنطقة هي عقدة العقد في العالم، القديم والوسيط والحديث والمعاصر، وقد غدت بذلك “بقعة صراع دائمة للمشاريع السياسية المتباينة والأحلاف المتعارضة والطموحات المتناقضة”. وقد كان المشرق العربي هدفاً لأعظم غزوة استيطانية حديثة، هي الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وتحوّله إلى دولة حديثة وقوية، تحمل إلى المنطقة العربية كلها أهدافاً ونوايا تقسيمية وتفتيتية واضحة ومعلنة.
وهكذا، فإنّ تحليل الخصوصيات الإثنية والدينية، ذات الصلة بموضوعنا، تبدو مهمة معرفية ضرورية لا غنى عنها. فالخصوصيات هي مشكلة وإشكالية بسبب طبيعتها أولاً، ثم بفعل التوظيف الاستعماري الناجح لها ثانياً.
إنّ المشكلة القومية الكبرى في المشرق العربي هي المشكلة الكردية، التي تطال عدة دول شرق أوسطية (تركيا وإيران والعراق وسورية). ومن المكوّنات القومية الأخرى نذكر الأرمن، وهم جماعات متفرقة في سورية والأردن ولبنان وفلسطين والعراق، جاءت إلى المشرق العربي إثر المذابح التركية سنة 1915. ولما كانت جاليات مهاجرة، لا تقيم كلها في مكان واحد، فإنّ مشكلتها ليست معقدة. كما توجد مكوّنات أخرى، كالشركس في سورية والأردن، وهم مهاجرون جدد وليسوا من أحفاد المماليك الشراكسة. وكذلك التركمان، وهم مجموعة مقيمة في العراق وسورية. وإضافة إلى ذلك، توجد مجموعات قومية أخرى (الكلدان والسريان والآشوريون)، وهم جماعات تسكن المنطقة منذ القديم، ويعتبرهم معظم المؤرخين من الهجرات السامية القديمة.
أما بالنسبة للتناقضات الدينية والمذهبية، فمن البديهي جداً أن تكون منطقة المشرق العربي منطقة تنوّع ديني واسع، فهي شكلت لفترة طويلة قلب العالم القديم، وشهدت بالتالي تقاطعاً هائلاً للثقافات والحضارات، كما شهدت ولادة الأديان التوحيدية الكبرى. وهكذا ورثت المجتمعات المشرقية الحديثة هذا الواقع التاريخي، مع كل تعبيراته وانعكاساته السياسية والاجتماعية والثقافية.
وبتأثير من المفهوم الأوروبي للدولة – الأمة ظهر مصطلح “أقلية” في مجرى القرن التاسع عشر، للإشارة إلى الطوائف المسيحية والمذاهب الإسلامية غير السنية في المشرق العربي، وقد جرى وضع هذه الأقليات في “قلب الألاعيب والمراهنات الدولية والإقليمية”. وفي الواقع سرعان ما انتظم الإدراك الأوروبي للمشرق العربي حول الثنائية القائمة بيـــن “الجمهور المسلم” الموصوف سلبياً بوصفه “جاهلاً وأمياً”، وبين الطوائف الإثنية والدينية الأخرى “المقهورة والمعذبة”. وفي الحقيقة “ليست المسألة إذن مسألة أقليات، بل هي مسألة ألاعيب جيوبوليتيكية جارية منذ تعميم نموذج الدولة – الأمة في القرن التاسع عشر، تقرض الأسس التاريخية لمجتمعات ذات هوية مركبة”.
ففي سورية ولبنان، رفضت فرنسا، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، جمع جبل لبنان في حدوده القديمة، في القرن الثامن عشر (المتضمنة البقاع وولاية صيدا) وسورية في دولة واحدة. بل أعلنت، في سنة 1920، دولة لبنان الكبير، التي تشمل مرفأ طرابلس في الشمال وسهل عكار الخصيب الذي تسكنه أكثرية إسلامية. فيما كانت تتوجه في سورية نحو فيدرالية دويلات هشة، منها دويلتان ذاتا قاعدة طائفية صريحة، دويلة “العلويين” ودويلة “الدروز”.
لقد كانت إحدى الآليات المفضلة للقوى الأوروبية في اختراق المشرق العربي هي استخدام الجماعات الدينية، وتقوية نزاعاتها الطائفية، وتغذية نزاعاتها مع الطوائف الأخرى أو مع الأغلبية. وبذلك “أرسيت البذور المؤسسية الأولى لنوع من الدول، التي ستظهر في المنطقة فيما بعد، وتقوم على أساس مقنن، صراحة أو ضمناً. وسيستمر هذا الخط – لغة الخطاب الطائفي أو الإثني – في الفكر والممارسة، كأحد التصورات السياسية والأيديولوجية لتنظيم المجتمع والمنطقة إجمالاً”. وهكذا، فإنّ البذور المؤسسية التي تبلورت، لم ترقَ إلى مستوى إرهاصات دولة مركزية حديثة.
وفي سياق الحديث عن مشكلة المكوّنات في المشرق العربي يبدو من المفيد الإشارة إلــى “أنّ علمنة السياسة جزء من عملية عقلنة وتحديث المجتمع”، وهذا يعني أنّ الشرط الأول والحاسم لحل مشكلة المكوّنات هو تحديث الفكر من خلال العلمنة باعتبارها “الجانب السياسي من سيرورة عقلنة المجتمع على صعيد الثقافة والفكر والأيديولوجيا. أي أنّ العلمنة تبدأ بالمؤسسات الثقافية والاجتماعية صعوداً إلى المؤسسات السياسية”.
أما بالنسبة لسورية والعراق، فمن المفيد أن نتعرف على مواقف بريطانيا وفرنسا من محاولات توحيدهما في الفترة ما بين الحربين العالميتين. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى اتخذت الاستثمارات الأجنبية، في المنطقة العربية ومنها سورية والعراق، شكلين: أولهما، الاستثمار المباشر في مشاريع المواصلات والنقل لخدمة الاستيراد والتصدير. وثانيهما، الاستثمار غير المباشر. وقد استغل أرباب هذه الاستثمارات ضعف الدولة العثمانية للحصول على الاحتكارات والامتيازات لإنشاء هذه المشاريع بشروط مجحفة.
لقد اعتبرت الحكومة الفرنسية أنّ سورية تشكل الحلقة الرئيسية في بناء المصالح الاقتصادية الفرنسية، وأصبحت الأموال الفرنسية ذات أهمية بالغة في الاقتصاد السوري، وجرى تمويل معظم المشاريع برؤوس أموال فرنسية. بينما كان النفوذ البريطاني مركّزاً في العراق، بحيث أصبحت بغداد، في أوائل القرن التاسع عشر، من أهم مراكز النفوذ البريطاني.
لقد حقق إعلان الحرب العالمية الأولى الفرصة للدولتين الاستعماريتين للتدخل في المنطقة بشكل مباشر. ففي الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية تتقدم داخل الأراضي العراقية، كان رجال السياسة البريطانيون يجرون اتصالات مع الشريف حسين (شريف مكة)، محاولين إيهامه بأنهم سيعملون من أجل استقلال العرب إذا وقفوا إلى جانب الحلفاء في وجه الأتراك وطردوهم من بلادهم، وقد عُرفت هذه الاتصالات بمراسلات حسين – مكماهون (المندوب السامي البريطاني بالقاهرة).
وعلى أساس هذه المراسلات تم إعلان الثورة العربية الكبرى في يونيو/حزيران عام 1916، وتقدمت قوات الثورة متعقبة القوات التركية في بلاد الشام والعراق، حتى أُعلنت الهدنة يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 1918. وقد لعبت بريطانيا دوراً كبيراً لمنع تواصل طرفي الحركة العربية في بلاد الشام والعراق، وكان هذا الدور تعبيراً عن سياستهم الهادفة إلى منع تأثير الحركة العربية في الأوساط العراقية، خدمة لمصالحهم الاستعمارية الرامية إلى فصل العراق عن محيطه العربي. وقد عبّر عن هذه السياسة – بوضوح – الخبراء البريطانيون، وكان أرنولد ولسون، الحاكم الملكي العام في العراق، أكثرهم وضوحاً، حيث قال “إنّ التشابه بين العراق وبقية بلاد العرب على الأغلب مفقود… من الناحية السياسية والعرقية وغيرها من الروابط… وإنّ تقدمه من الناحيتين الخلقية والمادية مضمون تحت رعاية بريطانيا… كما يجب أن يبقى العراق منفصلاً عن هذه البلدان قدر الإمكان، ولكنه يبقى خاضعاً لبريطانيا”.
وفي الوقت الذي كان فيه هنري مكماهون ينجز صفقته مع الشريف حسين، كانت وزارة الخارجية البريطانية تجري مباحثات مع الحكومة الفرنسية، بهدف الاتفاق بينهما على تقاسم النفوذ في المنطقة. وقد أسفرت هذه المفاوضات عن توقيع اتفاقية سايكس- بيكو يوم 16 مايو/أيار عام 1916، التي تعتبر بداية لتفتيت المشرق العربي وخلق كيانات وطنية، خاصة في سورية والعراق.
وإزاء وضوح خطط الاستعمارين الفرنسي والبريطاني في المشرق العربي، اجتمع الوطنيون السوريون والعراقيون في دمشق، في الفترة من 6-8 مارس/آذار عام 1920، وطالبوا باستقلال سورية الكبرى المتحدة والعراق، على أن يكون بين القطرين اتحاد سياسي واقتصادي. ولكنّ الحكومتين الفرنسية والبريطانية رفضتا الاعتراف بشرعية قرارات المؤتمرين السوري والعراقي، بل اتفقتا على وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين وشرقي الأردن والعراق تحت الانتداب البريطاني.
وبعد تخلص الفرنسيين من الحكومة العربية في دمشق بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، توّجه البريطانيون ملكاً على العراق في شهر أوغسطس/آب 1921، مما أثار استياء الفرنسيين لاعتقادهم أنّ فيصل يتطلع للحصول على عرش سورية، لذا أخذوا يعملون، بالتعاون مع حلفائهم البريطانيين، على ترسيم الحدود بين سورية والعراق لتصبح حقيقة قائمة لاحقاً في عام 1933.
وبشكل عام، فقد تميز موقف الدولتين الاستعماريتين بالتخوّف الفعلي من أي لقاء بين سورية والعراق، فبعد توقف الثورة السورية الكبرى لعام 1925 قام ملك العراق فيصل بزيارة باريس في العام 1927، وطرح على الحكومة الفرنسية فكرة توحيد سورية والعراق، إلا أنّ الحكومتين الفرنسية والبريطانية رفضتا المشروع، واعتبرتا أنّ القضيتين السورية والعراقية منفصلتان عن بعضهما تماماً. وقد تكرر الموقف نفسه خلال عقد الثلاثينات إلى أن طرح هربرت صموئيل المندوب السامي البريطاني في فلسطين، عام 1937 مشروعاً يقضي بتشكيل اتحاد عربي يضم السعودية والعراق والأردن وسورية وفلسطين، لتخفيف الانتقادات العربية لبريطانيا المؤيدة للحركة الصهيونية في فلسطين، والعمل على إشراك العرب مجتمعين في تنفيذ “وعد بلفور”. إلا أنّ هذا المشروع لم يلقَ تجاوباً من مكتب المستعمرات البريطاني، الذي كان يؤكد دائماً على سياسة التجزئة. كما أنّ الحكومة الفرنسية رفضت المشروع لمعارضتها انضمام سورية لأي اتحاد عربي.
وبعد فشل مشروع هربرت صموئيل جرى الحديث عن اتحاد فيدرالي يضم أجزاء سورية الكبرى. ففي صيف العام 1938 بدأت الحكومة البريطانية بالتحرك لتحقيق هذا الاتحاد، إلا أنّ الحكومة الفرنسية عارضت كعادتها، وذُكر حينذاك أنّ فرنسا غير مستعدة لتعريض وضعها في سورية للخطر مقابل مساعدة بريطانيا على حل مشاكلها في فلسطين.
لكنّ الرفض الفرنسي لمشروع الاتحاد لم يوقف المحاولات البريطانية، خاصة وأنها تدرك أنّ فرنسا بحاجة إليها من أجل تنسيق مواقفهما في أوروبا والمنطقة العربية عشية الوضع الدولي المتأزم. وقد بدأ رئيس وزراء العراق نوري السعيد التحرك من أجل الاتحاد بين سورية والعراق، فتقدم في سنة 1943 بما عُرف بـ “مشروع الهلال الخصيب” الذي نص على أربعة بنود رئيسية هي:
(أ)- توحيد سورية ولبنان وشرق الأردن وفلسطين في دولة واحدة (سورية الكبرى).
(ب)- إنشاء عصبة عربية تضم العراق وسورية الكبرى هذه وأية دولة عربية أخرى ترغب في ذلك.
(ج)- إنشاء مجلس دائم للعصبة العربية يتولى شؤون الدفاع والخارجية والعملة والمواصلات والجمارك وحماية حقوق الأقليات والتعليم.
(د)- إقامة إدارة ذاتية لليهود في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية.
إنّ التوصيف السابق للمشرق العربي المعاصر يبين أنه نظام مخترَق/تابع اقتصادياً للدول الإمبريالية، والسؤال هو: ما هي أهم العوامل التي أدت إلى استمرار هذه الحالة المعوِّقة لتحقيق الأهداف المنشودة وديمومتها؟ وما هي المتغيّرات المسؤولة عن إعادة إنتاجها بأشكال مختلفة في الاقتصاد والمجتمع والسياسة؟
إنّ إحدى السمات الأساسية في المشرق العربي المعاصر تكمن في بروز تبدلات جذرية في البنى الاقتصادية والاجتماعية، دون أن تترافق تلك التبدلات مع تغيير نوعي في البنى السياسية التي حافظت على الكثير من مظاهر الجمود والتحجر. مما يستوجب إعادة قراءة تفاصيل المشروع العربي، وتجديد مضمونه وشكله، على ضوء التحديات الراهنة.