الشرق الأوسط والتحالفات الإقليمية (1-2)
تعرِّف موسوعة بريتانكا الأميركية، ذات الأصل البريطاني، الشرق الأوسط بأنه مصطلح يعود في استعماله الحديث إلى الحرب العالمية الثانية، ويشمل “الأراضي الواقعة حول الساحلين الجنوبي والشرقي للبحر المتوسط من المملكة المغربية إلى شبه الجزيرة العربية وإيران، وأحياناً إلى ما وراء ذلك”. وتضيف الموسوعة أنّ المصطلح قد حُدِّد بالبلدان والمناطق الآتية: تركيا، واليونان، وقبرص، وسورية، ولبنان، والعراق، وإيران، وفلسطين (هنا تضع البريتانكا بين قوسين “الآن إسرائيل”)، والأردن، ومصر، والسودان، وليبيا، ودول شبه الجزيرة العربية “. ثم توسع كي تشمل المغرب وتونس والجزائر، بالإضافة إلى ذلك “تطلبت عوامل جغرافية من المسؤولين في أحيان كثيرة ربط أفغانستان وباكستان بشؤون الشرق الأوسط[1].
وفي منتصف خمسينيات القرن الماضي، عرّف وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس معنى مصطلح الشرق الأوسط بأنه “المنطقة الواقعة بين ليبيا في الغرب، وباكستان في الشرق، وتركيا في الشمال، وشبه الجزيرة العربية في الجنوب”، بالإضافة إلى السودان وأثيوبيا.
ومن الناحية التاريخية، استُخدم أولاً مصطلح “الشرق الأدنى”، الذي ظهر في فترة الاكتشافات الجغرافية الكبرى في القرن الخامس عشر. أما تعبير “الشرق الأوسط”، فقد ارتبط بتطور الفكر الاستراتيجي البريطاني، واستُخدم لأول مرة عام 1902 بواسطة ضابط بحري أميركي هو الكابتن ألفريد ماهان، صاحب نظرية القوة البحرية في التاريخ، في مقال له صدر تحت عنوان “الخليج الفارسي والعلاقات الدولية”. وفي سنة 1903 صدرت مقالات أخرى تحت عنوان “المسألة الشرق أوسطية”، وفي سنة 1911 تحدث اللورد كيرزن، الحاكم الإنكليزي للهند، عن الشرق الأوسط باعتباره المدخل إلى الهند.
ومن الناحية التاريخية أيضاً، ارتبط انتشار مصطلح الشرق الأوسط، بشكل واسع نسبياً، بالفكر الاستراتيجي البريطاني، فقد أنشأت وزارة المستعمرات البريطانية سنة1921 “إدارة الشرق الأوسط” للإشراف على شؤون فلسطين وشرق الأردن والعراق. وخلال الحرب العالمية الثانية تأكد هذا المفهوم مع قيام بريطانيا سنة 1940 بإنشاء “مركز تموين الشرق الأوسط” بمصر.
إنّ عبارة «الشرق الأوسط» تدلّ على منطقة ما من تعريف لها متفق عليه وما من حدود واضحة لها، والأسوأ من ذلك أنها فارغة من أي محتوى ثقافي أو سياسي، وما من أمر يمكنه التعبير عن فراغ هذه العبارة خير من التعدد العشوائي للتعريفات المعطاة لهذه المنطقة. هذه الفوضى غير الاعتيادية حول تعريف منطقة ما ليست عرضية، ولم تعانِ منها منطقة أخرى. إذ ثمة حرب مفتوحة بشأن كيفية تحديد الشرق الأوسط، وهي تضم اختلافات عميقة حول معايير هذا التحديد. وبطبيعة الحال، يحاول كل من اللاعبين إعطاء تحديد يناسب مصالحه بالطريقة الأفضل، لذا يُطرَح الكثير من نسخ للشرق الأوسط، متراكمة ومتداخلة ومتنافسة. ففي حين أنّ الشرق الأوسط، وفق التصور الإسرائيلي قصة من الماضي، فإنه بتصور الإيرانيين قصة تتطور الآن، بعد أن أصبح تهميش إيران في الشرق الأوسط مجرد مزحة وليس سياسة جدية. فمن يجرؤ على التساؤل عما إذا كانت إيران جزءاً من الشرق الأوسط أو إنكار دورها الواسع في إعادة هيكلته؟ ومن يظن أنّ سلاماً دائماً في العراق ولبنان واليمن وسورية ممكن من دون المساهمة الإيرانيّة؟
وهكذا، تجري حالياً هندسة عدد كبير من نسخٍ للشرق الأوسط، وعلى رغم صعوبة تحديد أي منها ستُعتَمَد في النهاية، نصل إلى خلاصتين[2]: أولاهما، أنه لا يمكن بناء شرق أوسط جديد من دون معرفة الشرق الأوسط القديم. وثانيتهما، أنه بهدف إعادة تحديد هذا الجزء من العالم علينا تنفيذ هذه المهمة بالتعاون مع شعوب الشرق الأوسط ومن أجلهم لا ضدهم ولا عوضاً عنهم. وبالطبع يمكن إبداء الشك بنوايا اللاعبين الإقليميين النهائية أو وسائلهم الحالية في إعادة تحديد الجزء الخاص بهم من هذا العالم، لكن لا يمكن إنكار حقهم بمحاولة القيام بذلك.
ويبدو أنه من الضروري الانتباه إلى دلالة إصرار الباحثين الغربيين، منذ الحرب العالمية الثانية، على استخدام مفهوم الشرق الأوسط للدلالة على المنطقة العربية. فمن استعراض الكتابات الغربية عن الشرق الأوسط تبرز لنا ثلاث نتائج:
1- أنّ هذه المنطقة لا تسمى باسم ينبثق من خصائصها أو طبيعتها، لكن سميت دائماً من حيث علاقتها بالغير.
2- أنّ هذا المصطلح ليس من المناطق الجغرافية المتعارف عليها، بل هو – في المقام الأول – تعبير سياسي، يترتب عليه دائماً إدخال دول غير عربية في المنطقة، وفي أغلب الأحيان إخراج دول عربية منها.
3- أنّ الشرق الأوسط يبدو، في الكتابات الغربية، منطقة تضم خليطاً من القوميات والسلالات والأديان والشعوب واللغات، القاعدة فيه التعدد والتنوع.
وهكذا، يتضح أنّ توارد استخدام هذا المصطلح يستهدف تبرير شرعية الوجود الإسرائيلي، فما دامت المنطقة خليطاً من قوميات وشعوب مختلفة الأعراق واللغات والأديان، فإنّ لكل قومية منها الحق في أن تكوّن دولة قومية. وفي هذا الإطار تكتسب إسرائيل شرعيتها كإحدى الدول القومية في المنطقة، وهذا الهدف قد يفسر لنا اهتمام إسرائيل المتواصل بتشجيع مطالب وحركات المكونات الأقلوية في أكثر من بلد عربي.
وإذا كان مصطلح الشرق الأوسط قد استُخدم ووظِّف لتحقيق أغراض سياسية تتضمن، في المقام الأول، طمس الهوية العربية للمنطقة، بإدراجها في مفهوم سياسي غير واضح وغير محدد، فإنّ التطورات التي شهدها العالم ومنطقتنا العربية، منذ بداية تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، توفر بيئة ملائمة ومشجعة لانتشار هذا المصطلح على نطاق واسع، والأهم من ذلك محاولة ترجمته من فكرة إلى واقع يتم تأطيرها نظامياً.
فمنذ انعقاد مؤتمر مدريد للسلام العربي – الإسرائيلي في عام 1991 كان واضحاً لنا أنّ الترتيبات الشرق أوسطية سوف تؤدي، إن عاجلاً أو آجلاً، إلى نهاية المفهوم المعروف للنظام الإقليمي العربي لصالح النظام الشرق أوسطي، مما يعني [3]:
أ- تصفية الموقف القائم على رفض الأيديولوجية الصهيونية، سواء في الخطاب السياسي العربي الرسمي، أو في أساليب التنشئة التعليمية والسياسية.
ب- أنّ نظام الشرق الأوسط الجديد، بوحداته وتفاعلاته ونزاعاته، هو شرق أوسط متعدد الأيديولوجيات والأديان والسياسات والأساطير والقوميات والثقافات، وستشهد المنطقة، في هذا النطاق، صحوة للثقافات والعرقيات الفرعية تحت حماية التنظيم الجديد للمنطقة، وتحول الاهتمام بالأقليات والقيم الفرعية إلى اهتمام عالمي.
ج- تغيّرات في نمط التحالفات في المنطقة، منها تحالف الأقليات القومية والدينية المتعدي للدول القائمة، وهذا سيدفع إلى ضرورة صياغة نمط مختلف من العلاقات السياسية الداخلية مع هذه الأقليات في النظم العربية أساساً، وهو ما قد يشكل مصدراً لانفجارات جديدة في المنطقة.
د- نفاذ دول الجوار الجغرافي إلى قلب المنطقة وصياغة علاقات مختلفة ونافذة معها، فهناك الدور التركي الذي يستهدف أن يكون شريكاً وفاعلاً في تفاعلات منطقة الخليج والمشرق العربي وإسرائيل، من خلال قضايا المياه وبناء مشروعات مشتركة. وهناك الدور الإيراني أيضاً، الذي سيلعب في المنطقتين المشرقيتين، من خلال وزنه بين صفوف الشيعة العرب.
هـ- تلعب إسرائيل دوراً فريداً في المنطقة، فهي القطب الأبرز الذي سيلعب دور الدولة الإقليمية المهيمنة، ومنظّم المنطقة، ومديرها ونموذجها التحديثي، ووسيطها مع الغرب في مختلف المجالات. وفي مقابل هذا الدور الذي يسير مع التصور الأميركي لما بعد إنجاز التسوية الفلسطينية – الإسرائيلية، يمكن إعطاء دور للسعودية كأداة لضبط وتنسيق المجموعة العربية، لتلعب دور المهدئ للصراعات، التي يمكن أن تنشأ فيما بعد في الإطار العربي.
و- نمط جديد للصراعات في المنطقة، لأنّ تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، الذي يمثل أبرز الصراعات الكبرى في تاريخ المنطقة ويستقطب طاقة العنف والنزاع الأساسية، سيؤدي إلى تحولها إلى مسارات أخرى، كالصراعات العرقية والقومية والصراعات حول المياه، وصراعات داخلية بين المعارضات السياسية ونظم الحكم المختلفة.
ز- ستسود المنطقة نزاعات براغماتية سياسية – بدائية على السلطة والنفوذ، تختلف عن البراغماتية على النمط الغربي، وسيؤدي ذلك إلى تحلل الأطروحات التي ارتبطت بها في الماضي على أساس الصراع العربي – الإسرائيلي.
فما يجري اليوم في سورية ولبنان والعراق وليبيا والسودان واليمن يقدم أنموذجاً للدولة العربية، يقوم على العلاقات الداخلية المركبة بين الحاكم والمحكوم تقوم على استبداد السلطات الحاكمة.
ولكن لابدَّ من القول، أنه مما يضاعف من الأخطار والتحديات التي تتعرض لها دول المنطقة، هو أنّ منطقة الشرق الأوسط، بمحيطها الجغرافي الواسع الذي يمتد من جنوب غرب آسيا في الشرق إلى المحيط الأطلسي في الغرب، ومن البحر الأبيض المتوسط في الشمال إلى القرن الأفريقي وبحر العرب في الجنوب، تحتل موقعاً استراتيجياً لا تُنكر أهميته، أو يُغفل دوره الفعّال والمؤثر في ميزان القوى الدولي، ومن ثم في مجريات السياسة الدولية. فهي من الأقاليم الحيوية المعدودة على الكرة الأرضية التي تتركز في بلدانها وعلى أراضيها المصالح الاقتصادية والسياسية والحضارية لمعظم دول العالم وشعوبه، لاسيما الدول الصناعية التي تحتاج إلى الثروات الطبيعية وأبرزها النفط والغاز وأهم الممرات المائية، فضلاً عن حاجتها إلى الأسواق الاستهلاكية التي تتوفر بكثرة في دول المنطقة.
وفي ظل هذا الوضع الجيو – استراتيجي، ذي الأبعاد السياسية والاقتصادية والحضارية، أصبح الشرق الأوسط ميداناً مفتوحاً للصراع الاستراتيجي بين القوى الإقليمية والدولية منذ عشرات السنين. إنّ هذا النمط من التداخل بين الأطراف الإقليمية والدولية، وتعارض أهداف ومصالح كلٍّ منها أدى إلى وجود ما يمكن أن نطلق عليه “ظاهرة الصراع الاستراتيجي المتعدد الأطراف”، التي أثّرت في استمرار نزاعات المنطقة والمشكلات التي تسببها، بل جعلتها في حلقة مفرغة دون التوصل إلى حلول لها[4].
إنّ الصراعات الإقليمية هي إحدى الظواهر السياسية التي أخذت حيزاً كبيراً من وقت الباحثين والأكاديميين في الدراسات الاستراتيجية، وكان لهذه الصراعات، مع اختلاف درجة حدتها، نظراً لأهمية ذلك في حسابات موازين القوى بين الدول العظمى حيث تحتدم المنافسة لكسب حلفاء ومناطق نفوذ جديدة.
لقد دخلت التفاعلات في منطقة الشرق الأوسط مرحلة معقدة يصعب معها تحديد الوجهة التي ستتخذها الأحداث في الفترة المقبلة، إذ لم تعد العلاقات الثنائية في المنطقة مرتبطة بتطورات موسمية أو رغبات آنية، بل بمصالح ومشروعات وتوازنات، وكلها لب ومحتوى السياسات الخارجية للدول الساعية إلى تعظيم مصالحها الوطنية في الإقليم.
فبعد التراجع النسبي للدور الأميركي والانعطافة الصينية نحو الشرق الأوسط، بدأ نشوء أدوار إقليمية ما لبثت أن نمت وكبرت. وأصبحت قوة واقعية لها شأنها، وأصبحت المنطقة الآن مجال تنافس بين هذه القوى التي تحاول كل منها أن يكون لها اليد الطولى في التأثير على حاضرها ورسم ملامح مستقبلها. والمفارقة الملفتة في هذا المجال هي أنّ الدور الإقليمي العربي يقع في ذيل القائمة، ولعله غدا أضعف هذه الأدوار، مع أنّ الصراع كله يدور حول محاولة القوى الإقليمية الأخرى الهيمنة، جزئياً أو كلياً، على المنطقة العربية والاستفادة من ميزاتها الجغرافية وثرواتها وإمكانياتها متعددة الجوانب[5].
فمن الواضح الآن تنافس ثلاث قوى إقليمية في الشرق الأوسط: أولاها، قديمة ومتواجدة منذ أكثر من نصف قرن وهي القوة الإقليمية الإسرائيلية، التي يمدها الغرب منذ قيام الدولة الصهيونية بالدعم المالي والعسكري والسياسي، إضافة إلى تقدمها في المجالات المختلفة. وثانيتها، إيران، التي استعادت قوتها بعد غزو العراق للكويت، ثم بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق، وسلحت جيوشها وحرسها الثوري بأكثر مما يتطلبه أمنها الداخلي أو تتطلبه حماية ترابها الوطني، ثم بدأت بذل الجهود لامتلاك الطاقة النووية، ونصّبت من نفسها مرجعية لشرائح هامة من المسلمين العرب وغير العرب، وأخذت تقدم المساعدات المالية والعسكرية والاجتماعية وغيرها إلى تجمعات وتنظيمات ومنظمات عربية في مختلف البلدان العربية، إلى أن وصلت إلى مرحلة لا يستطيع أحد إنكار قوتها فيها، وتأثيرها في حاضر المنطقة ومستقبلها، ودخلت شريكاً كامل الشراكة في هذا الحاضر وذاك المستقبل، وتبنت من أجل ذلك خطاباً شعبوياً يروق للجماهير العربية.
وثالثتها، القوة التركية التي انتبهت، بعد تولي حزب ” العدالة والتنمية ” السلطة في تركيا عام 2002، إلى أنّ المجال الحيوي لها واستطراداً الدور الإقليمي التركي واسع ومؤثر ويشكل قوة لها إذا ما استغلته، ليس فقط في العالم التركي في آسيا الوسطى وفي منطقة القوقاز بل في العالم العربي أيضاً، فها هي تتجه للمصالحة مع النظام السوري، وعقدت اتفاقات تعاون استراتيجي مع دول مجلس التعاون الخليجي، وربما تعتقد أنها قادرة على أن تكون منافساً جدياً لإيران، والاستفادة مثلها من مناخ مذهبي واسع إضافة لانتمائها الأطلسي، فضلاً عن امتلاكها إمكانيات اقتصادية وموقع استراتيجي وعلاقات دولية تؤهلها للعب أهم الأدوار في المنطقة، وعلى أية حال ما زالت مقدرة هذه القوة الإقليمية الجديدة تتصاعد وربما ستصل إلى لعب دور إقليمي هام للغاية.
تتسابق هذه القوى الإقليمية ويعمل كل منها لكي تكون أكثر تأثيراً في شؤون المنطقة، وتحاول من خلال نمو قوتها أن تحقق مصالحها، سواء بتنمية قوتها الذاتية أم بالاستقواء بدورها الإقليمي لمواجهة الآخر وجني الأرباح متعددة الجوانب. ولسوء الحظ فإنّ التنافس يدور حول التركة العربية، بعد أن ضعف النظام الإقليمي العربي وتلاشى معه الدور الإقليمي الفعال القادر على حماية المصالح العربية، بدءاً من الأمن العربي وانتهاء بمستقبل البلدان العربية، مروراً بحماية الثروة العربية والمصالح العربية.
ومن المثير للدهشة أنّ بالإمكان أن نرى في الوضع الراهن ما يشبه كثيراً الوضع الذي كانت فيه المنطقة في خمسينيات القرن الماضي، عندما أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، في عهد الرئيس الجنرال أيزنهاور، ما أسمته “نظرية الفراغ” في الشرق الأوسط. وهي النظرية التي استُخدمت ذريعة للتدخل في المنطقة بوجود عسكري وسياسي واقتصادي غير مسبوق[6].
إنّ المنطقة تبدو اليوم على أعتاب تحولات بالغة الخطورة، فالوضع في مجمله يبدو شبيهاً بالوضع وقت “نظرية الفراغ” في الشرق الأوسط عام 1957، إنما تحل إيران الثورة الإسلامية محل مصر ثورة يوليو/تموز 1952 كهدف أساسي. لذلك فإنّ إدراج إيران وتركيا في ترتيبات شاملة مع الدول العربية تضمن الأمن الإقليمي فكرة يتم تداولها منذ فترة ليست بالقصيرة، وهي في غاية الأهمية وملحة. وكانت قد طُرحت أكثر من مرة في لقاءات ” المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ” في لندن، ويُعقد بعضها في المنامة وتجتذب اهتماماً واسعاً، وهي متداولة بشكل متزايد في دراسات الأمن الإقليمي الخاصة بالشرق الأوسط. وعند مقارنتها بأفكار أخرى، مثل فكرة إنشاء شكل من أشكال التعاون الثنائي مع منظمة حلف شمالي الأطلسي “الناتو العربي”، أو الهيئات الأمنية الأوروبية والمتوسطية، فإنها، أي فكرة منظمة شرق أوسطية للأمن الإقليمي، تبدو أكثر واقعية وعملية ولها ارتباط وثيق بمصالح ومخاوف الأطراف الأهم في المنطقة[7].
إنّ ما يمكن تصوره والشروع فعلاً في تطبيقه هو إقامة هذه المنظمة في الوقت الراهن لتضم العرب وتركيا وإيران. ولكنّ المشكلة الراهنة هي أنّ الحركة السياسية، الإقليمية والدولية، تتم الآن بشكل اعتباطي، من دون رؤية استراتيجية شاملة تضبط التوافقات التي تتم وفق بوصلة مصالح كل الأطراف وليس على حساب بعضها.
من أجل ذلك فإنّ فكرة منظمة الأمن الإقليمي الشرق أوسطي، وعلى غرار منظمات الأمن الإقليمي في أكثر من منطقة في العالم، قد تنجح في تنظيم وتهدئة المخاطر الأمنية التي تشعر بها الأطراف المختلفة. مثل هذه التطمينات المتبادلة، وبالتوازي مع الشروع في إنهاء التدخل الإيراني في الدول العربية، سيكون مجالها منظمة الأمن الإقليمي.
وتتعزز فكرة منظمة الأمن الإقليمي أيضاً بسبب توجه تركيا المتزايد نحو البلدان العربية والسياسة المتوازنة التي تقودها حكومة حزب “العدالة والتنمية”، وعوض أن تُترك تركيا لوحدها لمعالجة مخاوفها الإقليمية، خاصة في المناطق الكردية سواء في جنوب تركيا أو شمال العراق أو شمال شرق سورية، فإنّ مواجهة تلك المخاوف بشكل جماعي يضم العراق وإيران وسورية أيضاً يكون أكثر فعالية ومنطقية، وأقل إثارة للتوترات الحدودية. ولا يُقصد بالفعالية هنا قمع المطالب الكردية المشروعة، بل بالعكس ربما تطوير أفق مستقبلي لتفهم هذه المطالب بما يحافظ على وحدة هذه الدول.
ومن المهم القول هنا بوضوح أنّ إقامة المنظمة المُقترحة هي مسؤولية عربية لأنها تحقق مصالح عربية، ولا تتركها عرضة للدوس تحت أقدام التغيّرات الحادة التي تحصل في المنطقة. وتكون هذه المنظمة مرتكزة على ثلاثة أركان: عربي وإيراني وتركي. أما إن تم الإصرار على عضوية إسرائيل المُستعجلة فيها، بما يعني إحجام إيران عن المشاركة، فإنّ المنظمة التي قد تنشأ في مثل هذا الحال سيكون ضررها أكثر من فائدتها، إذ ستعزز سياسة المحاور في المنطقة، ويتبدى الشكل الإقليمي وكأنه مُعد لمواجهة إيران. وليست هناك مصلحة عربية في تكريس هذا التمحور المدمر في المنطقة.
وفي هذا السياق، يجب أن نعترف أنّ النظام الإقليمي ومشاريعه المختلفة لم تكن واردة من الخارج في كل الحالات، بل أنّ هناك أصواتاً عربية، يصعب اتهام إخلاصها، حاولت هي الأخرى توسيع دائرة الحركة السياسية في المنطقة بدعوة إيران وتركيا لكي تكونا عضوين مراقبين في جامعة الدول العربية، وكلها اجتهادات لا ينقصها حسن النية ولا تدفعها مشاريع أجنبية أو أجندات خارجية، فنحن نظن أنّ إدخال قوتين إسلاميتين شرق أوسطيتين في دائرة المنظومة العربية قد يكون إضافة إيجابية، وليس بالضرورة خصماً من عائد العروبة، بل قد يكون إعادة لإنتاج الطرح القومي من منظورٍ جديد يشتبك مع الآخر في حوار إيجابي يخدم قضايا المنطقة كلها.
لقد أثبتت تجارب العقود الأخيرة أنّ انقسام المنطقة بين دول عربية وأخرى غير عربية استنزف الجهود واستهلك الطاقات، وأعطى إسرائيل فرصة تبديد القوى العربية والتهام جهود دول المنطقة لخدمة غاياتها وتحقيق مصالحها، ولا شك أنّ دخول قوى غير عربية في هيكل النظام الإقليمي سيؤدي بالضرورة إلى تحجيم الدور الإسرائيلي ووضع حدودٍ أمام حركته المطلقة، وسيفتح الأبواب أمام عصر جديد يتحول به الشرق الأوسط من عبءٍ على المجتمع الدولي إلى شريكٍ فاعل يأخذ بقدر ما يعطي، وتكون قدرته على الشراكة في القرار الدولي أمراً يختلف عن الوضع السلبي الراهن.
إنّ المطلوب – كان ولا يزال – هو أن نضع المنطقة على خريطة العالم بشكل أفضل بكثير مما هي عليه الآن، والأمر يستتبع في هذه الحالة شيوع تيار الإصلاح في المنطقة، واتساع مساحة الحريات وتنامي الظاهرة الديموقراطية، ورعاية حقوق الإنسان وحماية المكونات الأقلوية، عندئذ يكون من حقنا مخاطبة العالم بلغة جديدة ومفهوم مختلف ونغمة مقبولة[8].
ففي الوقت الذي أخذ فيه النظام الدولي يشهد تطورات مهمة في هيكليته منذ سقوط النظام ثنائي القطبية، بدخول فواعل جديدة في عضويته، حولته من نظام دولي يقتصر فقط على عضوية الدول إلى نظام عالمي يجمع بين عضويته الدول من ناحية، والعديد من المنظمات والهيئات ذات التأثير القوي في السياسة الدولية مثل المنظمات الإقليمية والشركات متعددة الجنسية ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة العشرين من ناحية أخرى، فإنّ النظام العالمي الجديد الذي مال مؤقتاً ناحية أخذ طابع القطبية الأحادية، ثم اتجه نحو نظام متعدد الأقطاب، شهد بروزاً مهماً لدور الأقاليم على حساب دور الدولة الوطنية، بحيث أخذت تفاعلات الدول داخل أقاليمها الخاصة تتنافس، وأحياناً، تتفوق على علاقتها بقيادة النظام الدولي.
هذا الاتجاه إلى تدعيم دور الأقاليم من ناحية، وسياسات التعاون والاعتماد الاقتصادي المتبادل والتكامل الإقليمي من ناحية أخرى الذي أصبح أحد أهم معالم النظام العالمي الجديد، لم يكن له أي وجود فعلي في إقليم الشرق الأوسط، الذي كاد يتفرد على معظم، وربما كل، أقاليم العالم، في أنه يتجه نحو “العسكرة”، وليس إلى الاعتماد المتبادل والتكامل الاقتصادي بين دوله[9].
أنّ إقليم الشرق الأوسط، دون غيره من الأقاليم في العالم، تجري عسكرته على حساب تفاعلاته التنموية والتكاملية، وتجري عولمته على حساب تحويله إلى كتلة أو جماعة اقتصادية – سياسية قادرة على التفاعل الإيجابي مع المجتمع الدولي، من المنطلق ذاته الذي أخذ يتعامل به النظام الدولي، أي منطلق الأقاليم أو النظم الإقليمية.
بل يذهب بعض علماء السياسة ومنظريها إلى توظيف اصطلاح ” الإقليمية الجديدة ” في فهم العلاقات بين الدول في عصر العولمة. وفي وسع المرء – في هذا السياق – أن يلحظ سرعة التئام التنظيمات الإقليمية، وتسريع وتيرة عمل ما هو موجود منها في آن، وكذلك التمايز في تلك التنظيمات، من حيث عظم اقتصاداتها ودرجة تطورها السياسي. وأغلب الظن أنّ “الإقليمية الجديدة” ستكون عاملاً حاسماً في الصراعات السياسية المعاصرة، وفي إدارة المصالح الدولية، لأنّ تركز الثروات والأسواق في مجموعة تنطق بلسان واحد، وترى العالم من منظور واحد، سيجعل الأرض التي تنهض عليها تلك المجموعة صلبة وثابتة، وستكفل لها دوراً مهماً في قضايا العالم وقضاياها تحديداً.
تلك التحولات أصابت منطقتنا بقوة، ولها منها نصيب كبير، غير أنّ من يقود هذه ” الإقليمية الجديدة ” هي الدولة التركية، وليست إحدى الدول العربية. ولا يملك المرء إلا الإقرار بأنّ السياسة التركية قد حققت نجاحات كبيرة في هذا الشأن، وهي نجاحات بدت وكأنها مثل أحجار الدومينو، تتلو إحداها الأخرى وتتأثر بها، فتركيا قلبت صفحة قديمة من السياسة التركية وطوتها، نزولاً عند المتغيّرات الإقليمية والعالمية، ودشنت عهداً جديداً.
الهوامش
[1]– أوردها غسان غصن: المفهوم الاستراتيجي للشرق الأوسط بريطانياً وأمريكياً – صحيفة “السفير” اللبنانية – 16 أكتوبر/تشرين الأول 2000.
[2]– د. غسّان سلامة: الشرق الأوسط… صراعات اللاعبين ومصالحهم القديمة والحديثة من عودة تركيا وتمدد إيران إلى التقارب “الثقافي” العربي (النص كلمة ألقاها خلال مؤتمر “النفط والمال” الذي عُقد بلندن في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2009 ونظمته صحيفة “هيرالد تريبيون”) – صحيفة “الحياة” – لندن 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2009.
[3]– د. عبدالله، تركماني: التوازنات الجديدة في الشرق الأوسط وأبعادها في العالم العربي – مجلة “دراسات دولية” التونسية – العدد (77)، ديسمبر/كانون الأول 2000.
[4]– د. بكر مصباح تنيرة: تطور الصراع الاستراتيجي بين القوى الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط وأثره على مستقبل الوطن العربي – مجلة “شؤون عربية”، العدد (100)، جامعة الدول العربية – القاهرة – ديسمبر/كانون الأول 1999.
[5]– حسين العودات: نمو القوى الإقليمية – صحيفة “البيان” الإماراتية – 17 ديسمبر/كانون الأول 2008.
[6]– سمير كرم: نظرية الفراغ.. طبعة جديدة – صحيفة “السفير” اللبنانية – 6 مارس/آذار 2009.
[7]– د. خالد الحروب: منظمة الأمن الإقليمي: ما لها وما عليها – صحيفة “الحياة” – لندن 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2008.
[8]– د. مصطفى الفقي: النظام الإقليمي يزحف على النظام العربي! – صحيفة “الحياة” – لندن 17فبراير/شباط 2009.
[9]– د. محمد السعيد إدريس: الشرق الأوسط وتحديات بروز الإقليمية في النظام الدولي – صحيفة “أوان” الكويتية – 30 أكتوبر/تشرين الأول 2009.