الديمقراطية وتجاوز السلطة الدينية في التجربة التركية (*)
يدفعني إلى إعادة نشر هذه المحاضرة التي أعددتها منذ 17 عاماً، مع إجراء بعض التعديلات، لربط الماضي المنظور بحاضرنا العربي البائس، الذي تمزقه الهويات والخصوصيات الثقافية من جهة، وتصاعد الاتجاهات الإسلامية المتطرفة من جهة ثانية.
تحتل العلاقة بين الديموقراطية والسلطة الدينية أهمية خاصة في منطقتنا العربية، وبالرغم من قِدم الإشكالية، وتعدد مناهج تناولها، إلا أنها تظل إحدى الإشكاليات التي تدفع باتجاه إعادة التفكير والتأويل، وفقاً لمقتضيات التطور السياسي والمجتمعي لبلداننا. وما يزيد من أهمية طرح الإشكالية – مجدداً – ما حملته التطورات من ” هيمنة ” لظاهرة الإسلام السياسي، واحتلالها مساحة واسعة من الفضاء العربي العام، وطغيان الحديث حولها، إلى درجة أعادت للأذهان إشكالية العلاقة بين الديموقراطية والسلطة الدينية.
إنّ الدولة، خلال التاريخين القديم والوسيط، كانت تتسم بوجهين متلازمين: وجه سياسي، يمثله الملك أو الإمبراطور أو القيصر أو الخليفة أو السلطان. ووجه ديني، يمثله رأس الدولة أيضاً ويساعده رجال المرجعية الدينية المعتمدة رسمياً. وبقي رجال الدين يلعبون دوراً في سلطة الدولة إلى وقت متأخر – نسبياً – في أوروبا.
وبطبيعة الحال كانت ثنائية السلطة/الدين أكثر ترابطاً في الخلافة العربية – الإسلامية، حيث الخليفة كان يمثل السلطتين الزمنية والدينية، وبقيت حتى سقوط السلطنة العثمانية.
لقد شكلت السلطنة العثمانية “مؤسسة دينية” تحت رعايتها، منذ عهد السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر. وفرض هذا النمط السلطاني للدولة التمييز بين السلطة الزمنية، ومهمات السلطة الدينية الموكلة لـ “العلماء” ثم لدار الإفتاء، وغدت السلطة الزمنية ذات السيادة والشوكة متحكمة بالسلطة الدينية. وبدءاً من القرن التاسع عشر، ومع الاصطدام بالتفوق الأوروبي، والتعرف على مؤسساته الديموقراطية، تبلورت رؤية إصلاحية خارج “المؤسسة الدينية السلطانية” حاولت توطين المفاهيم الغربية عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، واسترجاع مفاهيم المرحلة الأولى للإسلام، مؤكدة مع محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهما: إنّ السلطة السياسية في الإسلام سلطة مدنية، وإنّ الإسلام لا يعرف سلطة ثيوقراطية.
ومهما يكن من أمر الإخفاقات التاريخية، فإنّ التجربة التركية أعادت إلى الأذهان إمكانية التوافق بين الإسلام والحداثة من جهة، وإمكانية الديمقراطية وتجاوز السلطة الدينية من جهة أخرى. وفي الواقع، باستثناء تركيا التي اعتمدت العلمانية منذ صعود كمال أتاتورك إلى السلطة فأغلب دول المنطقة لا تزال تعيش بقايا المتلازمة الدينية/السلطوية السائدة منذ العصور الوسطى. أما تركيا، التي يحكمها حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي المتنور بقيادة رجب طيب أردوغان، فإنها تتجه باتجاه دولة المواطنة وتكريس دعائمها على الأرض. مما يجعل من تجربة الحزب أنموذجاً يستحق الدراسة والتأمل، خاصة في مجال دراسة “الديمقراطية وتجاوز السلطة الدينية”.
إنّ مشروع هذه القراءة يقوم: أولاً، على الفصل المنهجي بين ميداني العقيدة الدينية (العقائد والعبادات) والمنجز الحضاري للحداثة، بما هو تراكمات (المعاملات) حصلت عبر التاريخ في مجالي المجتمع والسياسة. وثانياً، على أنّ الدولة الدينية هي الدولة التي تقوم على أساس الحق الإلهي في الحكم، بزعم أنّ الحاكم مفوض من قبل الله في حكم الدولة، كما هو الشأن في الحضارات القديمة كالفراعنة وفارس القديمة وأوروبا في العصور الوسطى. وثالثاً، على أنّ الدولة المدنية هي الدولة التي يكون الحكم فيها للأمة، وهي صاحبة التفويض لمن تشاء، فكأن الأمة تحكم نفسها بنفسها، كما هو الشأن في النظم الديمقراطية الحديثة.
“عهد أردشير” والترابط بين الدين والمُلك
اعتمدت الآداب السلطانية الإسلامية، في صياغة تصوراتها السياسية، على ثلاث منظومات مرجعية كبرى: السياسة الفارسية – الساسانية، والحِكم اليونانية – الهلنستية، والتجربة العربية – الإسلامية. ومن بين النصوص التي تتغلغل في حنايا كتب التراث الإسلامي عن السلطة الدينية، نص منسوب إلى الملك المؤسس للدولة الساسانية، الملك أردشير، والمعروف بـ “عهد أردشير”، وهو نوع من ميثاق لبناء دولة تقوم على التوأمة بين الدين والمُلك. إنّ آراء أردشير في الدين والسياسة لم تبقَ في حيز التاريخ فحسب، بل اخترقت في دلالاتها ومعانيها الفقه السياسي الإسلامي برمته. وأضحى النص الفقهي الإسلامي، في باب الخلافة أو الإمارة، يتبنى هذه الآراء في وظيفة الدولة ومهماتها ” حراسة الدين “، وفي المقابل حماية الدين لها. وقد انعكست هذه الجدلية الوظيفية في سلوكيات العمل السياسي الإسلامي القديم بصيغ عديدة، كصيغة ” إمارة الاستيلاء ” التي شرعنها الفقهاء من باب ” الضرورات ” (الماوردي)، أو كصيغة ” العصبية المتغلبة ” التي تستقوي بالدعوة الدينية لتزداد قوة وبأسا (ابن خلدون).
فلنقرأ عهد أردشير: “واعلموا أنّ المُلك والدين أخوان توءمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، لأنّ الدين أسُّ المُلك وعماده، ثم صار المُلك حارس الدين، فلا بدَّ للمُلك من أسّه ولا بدَّ للدين من حارسه …”. إذن، هناك سلطتان: واحدة في الدين والأخرى في المُلك، يجب أن يتوحدا في شخص السلطان. على أنّ هذا “الوجوب” الذي تقتضيه مصلحة الحكم، والذي أدخلته الثقافة الإسلامية في نصوصها وأعرافها من خلال الاعتقاد الشائع بأنّ “الإسلام دين ودولة”، ولا ثنائية فيه، شكل مأساة التاريخ الإسلامي على امتداد مراحل فتنه وحروبه الأهلية، منذ ذاكرة “الفتنة الكبرى”، وحتى “فتن” العراق وسورية وإيران اليوم.
إنّ ما يميز التاريخ الإسلامى هو اتخاذ الصراع الاجتماعي والسياسي فيه صبغة دينية، ولعلَّ هذه الخاصية تعود إلى واقعة تأسيس النبي العربي الكريم لـ “دولة المدينة”. الأمر الذي أدى إلى تشابك الديني والدنيوي، وإلى دمج السلطة الزمنية والدينية معاً في السلطة السياسية. ولعلَّ ذلك هو الأصل التاريخي للمقولة التي شاعت “الإسلام دين ودولة”، وهى مقولة تتسم – رغم شيوعها – بالالتباس الشديد، إذ هي لا توضح ما إذا كانت التشريعات الدنيوية (المعاملات) – هي ذاتها – ديناً مقدساً وثابتاً وملزماً، أم أنها دنيوية بحتة متغيرة على شروط الزمان والمكان.
وبذلك لم تبقَ سوى خطوة واحدة لنصل مع السيد قطب وأبي الأعلى المودودي إلى فكرة الحاكمية وأيديولوجيتها، التي برزت في النصف الثاني للقرن العشرين، وغدت حينها الشريعة عند الإسلاميين أساساً للمشروعية، وتحولت إلى أيديولوجيا نخبة بالتمام والكمال. وهكذا أبرزت “الرؤية الحاكمية” الافتراق بين الشريعة والجماعة، أو بين الإسلام بوصفه مثالاً والأمة بوصفها جماعة مؤمنة، وقضت على الحلول الوسط: فإما أن تكون الأمة خاضعة لتلك الأيديولوجيا فتثبت إيمانها، أو لا تكون كذلك. ثم تفاقمت أزمة المشروعية لتصل عند الإسلاميين التكفيريين إلى حدود التشكيك في الهوية الدينية والثقافية للمجتمعات الإسلامية.
كيف تعاطت الخبرة الغربية مع هذه الإشكالية
لعله من المفيد عند التعاطي مع هذه الإشكالية (الدين والديموقراطية) أن نتفحص، ولو قليلاً، كيف تعاطت الخبرة الغربية معها، وإلى أي السبل قد اهتدت. حيث كان الفكر الغربي من المهارة بحيث أدرك أهمية الدين في حياة الشعوب، ذلك أنه لم يقوَ أي نظام سياسي، مهما كانت درجة انفتاحه، على إخراج الدين من الحياة العامة للأفراد والمجتمعات، وما حدث هو ضرورة النظر إلى الدين بوصفه “أداة” تستهدف مصلحة البشر، وليس وسيلة لخنقهم بطقوس قد تفضي في النهاية إلى عكس ما أُريد لها.
وهكذا، لم تنشأ حركة الأنوار باعتبارها تياراً فلسفياً أو فكرياً مجرداً، بل وُلدِت وشقت طريقها في خضم صراع مع الواقع المعقد، وهو واقع سيطرت عليه قوتان رجعيتان: قوة الكهنوت الكنسي، وقوة النظم السياسية الاستبدادية. فليس من الصدفة إذن أن يكون أخطر سؤال طرحه مفكرو قرن الأنوار، وأبلغه أثراً في الأحداث التاريخية التي عرفها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر هو: من أين تستمد السلطة السياسية شرعيتها لتتحكم في رقاب الناس، ومصالح المجتمع؟ جاء الجواب فيما طرحه جان جاك روسو من نظريات في العقد الاجتماعي، كما أنّ إيمانويل كانت لم يقر أي تناقض بين الإيمان والعقل في فلسفته، وفي حياته، ولكنه قال عن مؤسسات الكهنوت الديني، وعن السلطة الاستبدادية: أنها مؤسسات تدوس بأرجلها حقوق البشر المقدسة.
النهضويون العرب والسلطة الدينية
أما النهضويون العرب فقد أدركوا من الدولة الحديثة “التنظيمات العثمانية” في القرن التاسع عشر، واقتصر وعيهم عند هذا الحد. فلم يتحدث أحد منهم عن “الدولة” بمفهومها العام، بل تحدثوا عن تطوير التنظيمات وحسب. ومن سوء فهم التاريخ أن يذهب البعض إلى دراسة الدولة كما لو أنها مفهوم منجز لدى النهضويين، صحيح أنهم قطعوا شوطاً في وعي الدولة، إذ ظهر لديهم إدراك لمسألة “الحريات العامة” والحرية السياسية: فمع الأفغاني والكواكبي ظهر، لأول مرة في تاريخ الإسلام كله، مفهوم “الاستبداد” وسلسلة من المفاهيم التابعة له (الحرية، والديمقراطية… إلخ) لم تكن قد وجدت في التراث الإسلامي حتى ذلك التاريخ. ومع الكواكبي ظهر مفهوم “المواطنة” التي تعتمد على الرابطة الجغرا – سياسية، وهو من أهم مفاهيم الدولة الحديثة، لكنّ التدقيق في تفاصيل هذا الإدراك للمواطنة يجعلنا نجزم بأنه لم يكن واضحاً كفاية. والأمر المهم في هذا السياق أنّ وعي مفهوم الأمة في كتابات الإصلاحيين بقي مستنداً إلى الرابطة الدينية، ولم نشهد تحولاً جدياً فيه، لهذا لم يكن ممكناً وقتها الخروج من نظام الخلافة، وأقصى حد بلغته التصورات في ذلك الوقت هو خلافة لا مركزية (الجامعة الإسلامية)، يقف على رأسها خليفة عربي (كما تصورها الأفغاني وطورها الكواكبي، واعتنقها لاحقاً رشيد رضا).
وفي الواقع، لم تتجاوز الإصلاحية الإسلامية إطار الدفاع عن مدنية السلطة والنظام السياسي من دون أن تصطدم بالدين، ولكنها ناهضت مبدأ السلطة الدينية، وأسقطت شرعيته، ونفته عن الإسلام كلياً، وقارعت الاستبداد الديني ورأت فيه أساساً مكيناً لتوليد الاستبداد السياسي. إذ قال الإمام الشيخ محمد عبده: ليس في الإسلام ما يسمى بـ ” السلطة الدينية “، إذ لم يدعُ الإسلام لأحد بعد الله سلطاناً على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه. وأضاف: إنّ الأمور الاعتقادية التعبدية يجب إرجاعها إلى القرآن والسنة، أما الإسلام، من حيث هو نظام سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، فإنه يظل قابلاً للتطوير والتكييف بتغيّر الأزمنة والأمكنة.
وفي العام 1925 أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، حيث أكد أنّ الخلافة ليست أصلاً من أصول الحكم في الإسلام، وإنما هي نظام أوجده المسلمون لإدارة الأحكام. ويمكن تركيز أطروحاته في ثلاث: أولاها، أنّ محمداً كان نبياً ولم يكن حاكماً أو ملكاً. وثانيتها، أنّ الإسلام/الدين لا يملك نظاماً محدداً للحكم باسم العقيدة. وثالثتها، أنّ الإمامة أو الخلافة أساسها الاختيار، وأنّ الشأن السياسي شأن اجتهادي المعتبر فيه إدراك المصالح، وليس التعبد.
تراجع الفكر النهضوي
ماذا بقي من أطروحات علي عبدالرازق بعد قرابة القرن؟
لم يبقَ منها سوى مسألة مدنية السلطة، لكنها حوصرت إلى الحدود القصوى. إذ إنّ العديد من الإسلاميين ما زالوا يقولون: إنّ السلطان أو الرئيس معصوم، وإنّ المرجعية أو أساس شرعية النظام السياسي ليس الجماعة أو الأمة، في نظرهم، بل الشريعة. وبحسب نظرية الحاكمية، فإنّ الأمير الإسلامي هو الذي يطبّق الشريعة، ويكون بذلك شبه معصوم، شأنه في ذلك شأن الولي الفقيه في إيران الإسلامية.
وكان علينا أن ننتظر ثمانينيات القرن الماضي لنرى ملامح مراجعة للأفكار والبرامج الإسلامية، باتجاه العودة إلى فكرة المشاركة والديموقراطية، إذ أعيد الاعتبار مجدداً لفكرة الشورى، ومعادلتها بالديموقراطية ومؤسساتها وآلياتها، ووصل ما انقطع مع التربة الفكرية للإصلاحية الإسلامية، بنفي فكرة الدولة الثيوقراطية و” المؤسسة الدينية “، وبإحياء فكرة الطابع المدني للسلطة في الإسلام، ومرجعية الأمة في الشأن العام، واحترام التنوع في الاجتماع السياسي الإسلامي، والتمسك بالديموقراطية كصيغة عصرية لتجربة مبدأ الشورى.
الإسلام السياسي التركي
من الضروري أن نبحث عن مصادر العلاقة المميزة بين الدين والسياسة في تركيا في خصوصية الإسلام التركي التوفيقي والمتأثر بالفرق الصوفية، وبأديان قارة آسيا، وأيضاً في العالم البلقاني، ومن خلال الماضي العثماني. وعلى النحو نفسه، من غير الممكن طرح المسألة الدينية بعبارات التعارض الثنائية، أي بوضع العلمانيين من جهة، والإسلاميين من جهة أخرى، إذ ثمة سلوكات هجينة مؤلفة من الموقفين على حد سواء، من دون الحديث عن خصوصية الأتراك الذين تكيّف عدد كبير منهم مع الحداثة.
هذه السلوكات كانت حاضرة في إدراك قادة حزب “العدالة والتنمية”، الذين كانوا جزءاً منها في بعض مراحلها، وإذ تعلموا دروسها، واستوعبوا شروط النجاح والاستمرار في الساحة السياسية، فإنهم حرصوا على أن يقدموا صيغة تصالحية بين الإسلام والعلمانية والديمقراطية، نجحت في استقطاب قطاع غير قليل من النخبة، وقطاع كبير من الجماهير، التي أعطتهم أصواتها وثقتها في الانتخابات البرلمانية والبلدية. وحين اعتبروا أنفسهم حزباً محافظاً وديمقراطياً، كان ذلك يعني مباشرة التزامهم باحترام القيم الأساسية في المجتمع التركي وفي مقدمتها الدين والعلمانية، وحين فعلوا ذلك فإنهم استعادوا الركن المغيب في الهوية السياسية التركية، وهو الإسلام الذي ذوبته العلمانية الكمالية في مشروعها المهيمن. وفي حدود السقف المتاح، فإنّ استدعاءهم للإسلام تم في الإطار الاجتماعي وليس السياسي، وبذلك فإنهم قدّموا المشروع الإصلاحي على الأيديولوجي، وهو ما يفسر تقليلهم من شأن معركة الحجاب التي افتعلها العلمانيون الغلاة، وانشغالهم عنها بمواجهة الأزمة الاقتصادية وتعزيز الحريات والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
إننا بصدد تجربة متميزة في المجتمع التركي، تقدم إسلاماً آخر غير إسلام الجمود والانغلاق. إنه إسلام متعايش مع العصر، منفتح على العالم، معترف بالحداثة، حريص على الهوية الإسلامية بلا تعصب وبلا إكراه وفرض، وبلا اغتيال للعقل، وبلا تكفير للمجتمع وللعالم. ومهما يكن من أمر فإنّ التجربة التركية أعادت إلى الأذهان – من جديد – إمكانية التوافق بين الإسلام والحداثة من جهة، وإمكانية الديمقراطية وتجاوز السلطة الدينية من جهة أخرى.
ويبدو ذلك الاعتدال الإسلامي واضحاً من خلال تيار التجديد الديني الرسمي، الذي يتخذ من العلم مناراً وهادياً في قضايا الإسلام وتنفيذ شرائعه، وقد شرحته رئاسة الشؤون الدينية في بيانها الصادر عن مجمع المفتيين في ختام اجتماعهم بتاريخ 13 يوليو/تموز 2000 بالقول “إنه نظرة جديدة للإسلام في إطار التجديد والحداثة من أجل فهم الإسلام على حقيقته ولتنفيذ شرائعه – أصولاً وفروعاً – باللغة التي يفهمها المؤمنون بها، مع فتح باب الاجتهاد وتفسير القرآن الكريم وفق مفهوم العصر وفي ضوء متطلبات المجتمعات الإسلامية، وفي إطار القيم الإسلامية في احترام حقوق الإنسان وحرية العقيدة والوجدان وحماية حقوق المرأة وإنقاذ الشباب من العادات والممارسات السيئة، وحل مشكلات المجتمع بالحوار والتسامح باحترام أسلوب كل فرد في الحياة في إطار الديموقراطية مع الاعتراف بالرأي الآخر، وإعادة النظر في كتب الفقه والحديث لتنقيتها من الشوائب والخرافات التي تتضمنها الأحاديث الموضوعة”.
معالم الأنموذج التركي
مع حزب “العدالة والتنمية” نكاد لا نميز فيه شيئاً مخالفاً لصفة الحزب العلماني، فبرنامجه برنامج انتخابي سياسي صرف لا وجود لمسحة دينية فيه، وهو يعلن التزامه الكامل بالعلمانية، وبفصل الدين عن الدولة، وذلك لا يعني فصل الدين عن المجتمع، لأنّ، كما يقول عبد الله غول “الخلط بين الدين والدولة يضيرهما معاً. فالمبدأ الديني محصن بطبيعته من أي تغيير، أما السياسة فتتغير باستمرار استجابة للواقع”.
وهكذا، تقدم لنا التجربة التركية، خاصة منذ وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى سدة الحكم في العام 2002، أنموذجاً عن إمكانية تجاوز السلطة الدينية، ومن أهم هذه المعالم:
1- حيادية الدولة عن الأديان والأيديولوجيات
نجح حزب “العدالة والتنمية” في التوفيق بين مبادئ الدولة التركية العلمانية التي أسسها كمال أتاتورك على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، وبين برامجه وأهدافه التي لا تدير ظهرها لتاريخ هذه الإمبراطورية ولا لثقافتها الإسلامية. إنه حزب لا يدعو لدستور إسلامي يعتمد الشريعة ولا يسعى لتطبيق الحدود الإسلامية، يطرح ديمقراطية علمانية لا تعادي الدين بل تستلهم قيمه الخيّرة، كبديل لديمقراطية علمانية أتاتوركية تقصي الإسلام وتضيّق عليه، أي تعديل التطرف العلماني دون الانزلاق للتطرف الأصولي، والعمل لمصالحة بين الدين والعلمانية.
2- الخيار الديموقراطي
حيث أعلن قادة الحزب التزامهم الكلي بقواعد التعددية السياسية، ولم يكتفوا بالتأكيد على مسألة الحريات بل أعلنوا عزمهم على حماية حقوق الإنسان، وعدم التدخل في الحياة الخاصة لمواطنيهم، أو التعسف بتغيير نمط حياتهم عن طريق سلطة الدولة، كما فعل غلاة العلمانية في تركيا وفي غيرها من البلاد فخانوا أول قاعدة في العلمانية وهي احترام حرية المعتقد وحق المواطنين في الاختيار.
3- نهاية “الإسلام السياسي”
إنّ حزب “العدالة والتنمية” التركي، المحسوب على الإسلام السياسي، قد تخفف من الحمولة الدينية في خطابه وبرامجه، حتى لم يتبقَ لديه من الإسلام السياسي شيئاً يُذكر سوى أصداء عامة خافتة تشكل خلفية أخلاقية، كما هو الحال عند الأحزاب الديمقراطية المسيحية الأوروبية.
وكي نجسد تأثير الأنموذج التركي في عالمنا العربي، يبدو علينا أن نرى مشروعاً تركياً يحاول فيه نظام علماني أن يستوعب المكون الديني في المجتمع ويدخله في معادلة النظام السياسي.
وهكذا، خلصتُ إلى أنّ العلاقة بين الدين والدولة تكمن في إحلال التناغم والانسجام بين الوسائل، التي تستخدمها الدولة المدنية لتأمين إدارة وضبط النشاطات المشتركة في المجتمع، والغائيات الخيّرة التي ينطوي عليها الدين. إن الدولة لا يمكنها أن تكون دينية، بل مدنية، تنتقي وسائلها وفق مقاييس المردودية والفاعلية، وتحتكم، في الوقت ذاته، إلى القيم والغائيات التي يؤمن بها المجتمع.
من هذا المنطلق، ينبغي تحديد دور الدين في السياسة. وبناء على هذا المعيار ينبغي أن يحصل الفرز بين معتدل ومتطرف، وبين التيار العقلاني والإنساني في الحركة الإسلامية والتيار المتشبث بمقولات العصور الوسطى حول السلطة الدينية، وهي مقولات تتناقض مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان والمواطن.
وليس المهم أن ننادي بالعلمانية أو أن نحاربها، لكنّ المهم هو إيجاد الطريقة المثلى التي تحترم تاريخنا العربي – الإسلامي وتراثه، ولا تتعارض في آن واحد مع ما تعارفت عليه المجتمعات الإنسانية من مبادئ وقيم تعزز سلامة الإنسان وتحترم كرامته وتحقق المساواة بين أفراده، بغض النظر عن أية اعتبارات موجودة، وتحقق له شروط حياة لائقة وكريمة وتحميه من كل استغلال وظلم وطغيان.
(*) – في الأصل ورقة قُدمت في إطار ندوة “الإسلام السياسي: الواقع والآفاق”، بدعوة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة الحسن الثاني – المحمدية – الدار البيضاء – المغرب، خلال يومي 13 و14 ديسمبر/كانون الأول 2006.