قراءة متمعنة في الفكر السياسي للطيب تيزيني (3-4)
الدولة الأمنية، رباعية الاستبداد، ثلاثية الفساد، الحطام العربي
3- الدولة الأمنية ومرتكزاتها
تعرّف موسوعة “ويكيبيديا” الدولة الأمنية بأنها “دولة تمارس فيها الحكومة إجراءات قمعية صارمة ضد المجتمع، تتحكم من خلالها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للشعب. وغالباً ما يتمُّ ذلك من خلال شرطة سرية، تعمل عادة خارج الحدود التي تفرضها الجمهورية الدستورية. في الدولة الأمنية عادة ما تظهر مظاهر الشمولية والرقابة الاجتماعية، وعادة ما لا يوجد ما يميّز بين القانون وممارسة السلطة السياسية من جانب السلطة التنفيذية”.
أما فقيدنا الطيب تيزيني فقد أسقط هذا التعريف العام على الواقع العربي، حيث قال إنّ مشروع الدولة الأمنية “بدأ مع مشروع الوحدة بين مصر وسورية، حيث كان الشرط الأول للانضمام إلى الوحدة إلغاء الأحزاب، بالتالي إلغاء الحياة السياسية”. واليوم ها نحن نعيش الحالة بامتياز فـ “الدولة الأمنية، في معظم أرجاء عالمنا العربي، صادرت السياسة والديمقراطية، وابتلعت كل القوى التي كانت تتطلع إلى بناء الأوطان. وفي طريق صعودها ابتلعت ثلاث مرجعيات: المرجعية السياسية، والمرجعية الثقافية، ثمَّ المجتمع ذاته”[1].
وكثيراً ما تحدث عن النظام الأمني، الذي رفع شعاره الشهير “يجب أن يَفْسُدَ مَنْ لم يَفْسُدْ بعدْ”، بحيث يصبح الجميع ملوثين، ومدانين وجاهزين تحت الطلب. وبذلك أضحى المجتمع برمته خصماً لهذا النظام، بعد أن تمَّ تحويله إلى أداة أو إلى قطيع، من خلال إعادة إنتاج الفساد والتخلّف، وتحويل المجتمع إلى حالة من “العقم التاريخي”، الذي لا يحدث إنتاجاً جديداً لبشر جديدين بآفاق جديدة. وبحيث “يظل هذا المجتمع سائراً في مسار واحد، فيعيش حالة من القنوط والتخلّف والقسوة، في الإجابة عن مشكلات راهنة، ليجفف كل ما يمكن أن يُنتج حالة جديدة من الإبداع في الاقتصاد أو السياسة أو الثقافة أو القضاء. وهي ترى أنّ هذه الحقول كلها يجب أن يسودها حالة من الجفاف والقصور التاريخيين، وحين ذلك تستطيع قيادة هذه الدولة الأمنية أن تبقى أبداً، فلا معارضة ولا رأي آخر”[2]، وبذلك لا تبقى فئة تكون الحامل الاجتماعي لعملية التغيير.
4- هفوات تيزيني تجاه المجتمع المدني والمعارضة السياسية في سورية
عندما بدأت فعاليات نشطاء المجتمع المدني، بعد توريث بشار الأسد وخطاب القسم الذي بشّر بإمكانية بداية مرحلة جديدة عنوانها الإصلاح، اعتبر تيزيني أنّ أولئك النشطاء “يقلبون أولويات العمل السياسي في سورية، فيجعلون المجتمعية المدنية منطلق الشأن العام ومآله، والدولة تعبيراً عنها في مستوى السياسة”، إذ اعتقد أنّ “الأولوية يجب أن تُعطى لبناء الدولة الوطنية التي ستبني المجتمع المدني، كما في تلك المنهجية الستالينية الساذجة”[3].
وفي تبريره لموقفه قال تيزيني: “عند الحديث عن المجتمع المدني، من الخطأ أن نطالب بإنجاز مثل هذا المجتمع بصورة سريعة في مجتمع يعاني من إشكال العلاقات الاجتماعية العشائرية والطائفية والإثنية، وإنّ دعاة المجتمع المدني كانوا يتحدثون عن مجتمع النخبة، في حين أنّ الأمر الأكثر حسماً في هذه المرحلة هو مَن المخوّل باكتشاف إشكالات الواقع والعمل عليها”، معتقداً أنّ ما نحتاجه هو “المجتمع السياسي والملف السياسي الثقافي”[4].
ومن مظاهر تناقض مواقفه بشأن المجتمع المدني أنه وقّع على بيان الألف من نشطاء المجتمع المدني، كما ساهم، في العام 2004، في تأسيس منظمة “سواسية” الحقوقية.
وعندما أُعلن عن إنشاء “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي”، في تشرين الأول/أكتوبر 2005، باعتباره ائتلافاً عريضاً لقوى سياسية سورية، اعتبر تيزيني أنّ الإعلان “جاء في مرحلة تاريخية يمكن القول عنها أنها الأكثر مناسبة لمثل هذا الإعلان، ومن ثمَّ فإنّ الشرط التاريخي لصدوره يفصح عن نفسه بوصفه حالة مناسبة جداً، مما يؤكد على مفهوم الوعي المطابق الذي جسده هذا الإعلان. المرحلة التي يمرُّ فيها الوضع السوري أصبحت تستلزم وجود حركة سياسية وثقافية نشطة، تجد مهماتها في الإجابة عمّا يحدث في سورية، والإجابة عن آفاق التحوّلات المحتملة سورياً وإقليمياً ودولياً”. ولكنه استدرك ليقول “إنّ وجود أخطاء في الإعلان إنما هو أمر طبيعي، إذا ما وُضع في سياق عدة عقود من سياسة الاستبداد الرباعي”. وعندما وضع يده على “أخطاء” الإعلان لم يكن موفقاً، إذ قال: “يفتقد الخط الناظم للفكر السياسي السوري، في نطاق كليته، وذلك على نحو جاءت فيه مسألتان اثنتان بصيغ مضخّمة أكثر من اللازم، هما: المسألة الإسلامية والمسألة الكردية”، وهنا بدا تيزيني أقرب إلى مزاج السلطة السورية، أكثر مما هو متفهم لضرورة جذب الطرفين، الإسلام السياسي وممثلي الأكراد، إلى العمل الوطني الديمقراطي العام. خاصة أنّ مأخذه تجسّد بقوله “كان مناسباً أن يميز(الإعلان) بين الإسلام كمعتقد ديني والإسلام كمنطلق سياسي لحركة سياسية سورية، تشتغل في نطاق ما يُطلَق عليه الإسلام السياسي. ومن ناحية أخرى كان التمثيل الكردي في الإعلان قد جاوز ما ينبغي أن يكون عليه، وذلك من موقع ملاحظة أنّ ما طالب به الإعلان إنما هو أكثر مما ينبغي أن يتحقق في إطار دولة جمهورية سورية موحدة”.
كما أخذ على الإعلان أنه لم يتناول “الصراع العربي الإسرائيلي، في إطار الصراع مع المشروع الأميركي الإسرائيلي العولمي”. وكذلك قوله إنّ الإعلان ” ترك مسألة العلاقة بين الداخل والخارج مفتوحة، على نحو قد يعطي الانطباع بأنّ أمراً ما، على هذا الصعيد، لا يوجد بوصفه عائقاً أمام الإصلاح الوطني الديمقراطي السوري”[5]. وهنا نرى أنّ فقيدنا تيزيني قد أخطأ البوصلة، ظناً منه أنّ الإصلاح كان على أبواب دمشق، مما يعكس نزعات رغبوية لدى المفكر، أكثر مما يعكس رؤية عميقة لبنية نظام الاستبداد.
الهوامش:
[1]– حوار داليا عاصم مع الطيّب تيزيني، المرجع السابق.
[2]– حوار عبير يونس مع الطيّب تيزيني، صحيفة “البيان”، دبي 10 نيسان/أبريل 2011.
[3]– ميشيل كيلو، الطـيّـب تـيـزيـنـي أو فـيـلسـوف الـعـصـر!، صحيفة “النهار”، بيروت 22 آب/أغسطس 2003.
[4]– حوار مفيد نجم مع الطيّب تيزيني، الملف السياسي لصحيفة “البيان”، دبي 25 تموز/يوليو 2003.
[5]– حوار أبيّ حسن مع المفكر السوري الطيّب تيزيني، حاوره في القاهرة، صحيفة “المستقبل”، بيروت 4 كانون الأول/ديسمبر 2005.