أزمة العلاقة بين القبيلة والدولة المدنية!
النهار العربي: 2023/3/28
عند الشروع في محاولة البحث في موضوع القبيلة والدولة المدنية في المجتمعات العربية الحديثة بشكل موضوعي، يبرز لك عدد من الدراسات التي تعالج القضية في إطارها العام العربي، وخصوصاً الخليجي، إلا أن الكثير منها يعالج الظاهرة كمنظومة اجتماعية منفصلة عن تأثيرها في كل من الدولة والتنمية.
الباحث يجد أن التكوين القبلي يشكل تجمعاً بشرياً ومصلحياً في العديد من المجتمعات “الانتقالية”، والكثير من المجتمعات العربية من المحيط الى الخليج هي في هذه الحالة التطورية، وهي الانتقال من حالة القبيلة الى حالة الدولة. ولو دققنا لوجدنا أن “الروح القبلية” في المجتمعات العربية المعاصرة تزداد عند التفاعل بين القبلية ومظاهر الحداثة، كمثل زمن الانتخابات، وأيضاً في زمن الاصطفاف والتحيز الاجتماعي، وفي الأزمات الحادة الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، في أوقات تقاسم المصالح في المجتمع الواحد.
ورغم أن بلاداً مثل مصر يبدو فيها المجتمع المدني قديماً نسبياً، إلا أن ذلك فقط على السطح، وهي ليست بعيدة من التحزب القبلي في بعض مناطقها، وفي مواسم الانتخابات والأزمات تظهر العصبية “القبلية”، وقد أشار الى ذلك عالم الاجتماع المصري المرحوم سيد ياسين في بعض كتاباته، وبخاصة دراسته عن نتائج الانتخابات العامة في مصر عام 2005. كما أن التحزب (الطائفي\ شبه القبلي) مشاهد في تاريخ لبنان المعاصر، وما زال مؤثراً مع تنوع مظاهره المختلفة، ما أدى الى كارثة غلبة مصالح الدُويلة (الطائفة) على الدولة المدنية الجامعة. اما في سوريا فتكفي الإشارة الى أن الطائفة، وبخاصة نُخبتها، هي التي تحكم وتتحكم في كل مفاصل الدولة، حتى غدت الدولة “مزرعة” للطائفة واستُبيحت كل المحظورات حتى الثمالة الى درجة أن اضمحلت الدولة.
في ليبيا جزء من الإشكالية فيها أن “الدولة الليبية” لم تتكون، ظهرت في وقت فصير أيام الملكية، إلا أن الشجار والتناحر القبلي والمناطقي عطلا نضجها، وقد شجع النظام السابق على تفتت الدولة شرطاً لاستمراره، فذابت هياكل الدولة التي كانت مأمولة.
السودان مثال واضح لغلبة القبلية\ الطائفية على هياكل الدولة رغم ما يظهر من الحديث عن “مجتمع مدني”. انها مناطق وقوى وقبائل مسلحة!
تجذر تجمعات ما قبل الدولة في المناطق العربية (القبلية والطائفية والمناطقية) أساس تعطيل قيام الدولة المدنية الحديثة والتي نتج منها قصور تطبيقها للقانون، وغدت مصدراً للشقاق الاجتماعي الداخلي.
التحيز القبلي \ الطائفي يظهر بشكله السلبي في أوقات مفصلية من تطور المجتمعات، ونحن اليوم في هذا المنعطف بين الدولة وما بين ما قبل الدولة، فقد انتشرت في الآونة الأخيرة تجمعات “المفروض أنها مهنية” ولكنها متكئه على كتف القبيلة، كما حدث في بعض الانتخابات الطلابية في الكويت، كما تظهر أيضاً جلية في الانتخابات العامة تقريباً على الساحة العربية، ويزداد القبح عندما يتبرع أكاديمي المفروض أنه حصل على شيء من التدريب المنهجي المتوازن، في الخوض في هذا الملف الذي يؤكد، ليس التعصب ولكن العنصرية أيضاً! وتنتشر رايات القبائل في المناسبات العامة، كالأعياد الوطنية والمناسبات الدينية أو الاجتماعية.
أحد أعضاء مجلس الأمة الكويتي “المنتخب من الناس” زار دولة جارة أخيراً، وذُكر الى أولى الأمر فيها أن قبيلته، قبل مئتي سنة، أرسلت فرسانها للدفاع عن بلاده! تلك فضيحة سياسية وفهم متدن للمواطنة الحديثة ولدور النائب في البرلمان، فهو بالتأكيد لم ينتخب حصراً من قبيلته، كما أنه لم يرسل الى تلك البلد مندوباً عن قبيلته. في هذه المجتمعات حتى (التجمعات التي من المفروض أن تكون مهنية) أصبحت “شللية” تبقى فيها “الرئاسات” تقريباً مدى الحياة!
التناقض بين جماعات ما قبل الدولة ومتطلبات الدولة الحديثة تناقض صارخ، وله تأثيرات مدمرة على الدولة وإدارتها وقدرتها على التنمية أو حتى الاستقرار، فحيح العلاقات ما قبل الدولة يفرز سمومه في المجتمع، وتظهر علاقات المحاباة التي هي نقيضة للإدارة الحديثة، وتتمثل المحاباة في التوظيف في الإدارة العامة من دون أن يكون ذلك الشخص له تأهيل أو استحقاق علمي أو مهني، فتفسد الإدارة وتتلكأ أعمال الدولة وتتدهور خطط التنمية وتفارق الكفاءة القرارات المصيرية للناس.
الاقتراب من هذا الملف يفرض علينا البحث عن أسبابه، وهي أسباب متنوعة كلها تصب في النهاية في ضعف التوجه لبناء الدولة المدنية الحديثة، وأحد أهم أسباب الظاهرة هو الاعتماد على نظام الريعية بأشكالها المختلفة في الاقتصاد الوطني، والتقاعس عن تبني نظام اقتصادي انتاجي مبني على الكفاءة.
بعض السلطات السياسية إما أنها غير قادرة، أو غير راغبة، في تجاوز هذا المحذور وربما غير واعية مخاطره. وفي بعض الأوقات يُستخدم من قوى ترى أن لها مصالح في عدم تطوير الإدارة العامة وتشجيع بقاء الأمر على حاله. المخاطر من توجه كهذا تفوق المصالح الفئوية الضيقة والآنية، وتعرض أمن البلاد الى مغامرات، فبمجرد أن يشعر المواطن بأن حقوقه غير مكفولة وأن التنافس الطبيعي غير موجود، وأن المساواة منعدمة، يسحب ولاءه جهراً أو سراً من الدولة التي يعيش فيها ويلجأ الى فئته أو قبيلته أو طائفته، بالتالي تصبح الزبائنية هي التي تحمي المواطن حتى من تطبيق القانون (إنْ وجد).
أن تكون لفئة من المجتمع امتيازات في السلطة وفي الخدمات فقط بسبب القرابة وصدفة الميلاد، يؤدي الى شيوع عدم المساواة، والضرب بالقانون عرض الحائط، وتمييز أناس في المجتمع فوق أناس آخرين مهمشين.
مجمل ما تقدم هو الحزمة التي تعطل التنمية وتسد آفاق الابتكار، وتقف حجر عثرة أمام ترقي السلم الاجتماعي وتناقض كل القيم التي تقول إن الناس سواسية!
الأوطان التي علقت في وسط السلم، لا هي الى الدولة انتمت، ولا في القبيلة بقيت، ستبقى هناك في وسط السلم، وتتكاثر حولها السلبيات، وتنتعش المحسوبيات، ويضرب عرض الحائط بالقانون، ويزيد الفساد وتخور قوة الأوطان ومنعتها.