الدولة والنيوليبرالية والديمقراطية والشعبويةبقلم: نبيل عبدالفتاح

بعض التصورات الشائعة لدى بعض الباحثين والأكاديميين في العالم العربي تتسم بالجمود في نظرتها للدولة ككيان رمزي متعالٍ عن مكوناتها والسلطات الثلاث وأجهزتها، وهو ما يمتد إلى مفهوم السيادة في عالم معولم متغير تخضع فيه لموازين القوة في النظام الدولي وفواعله وشركاته العابرة للدول والأسواق. هذا الجمود في الإدراك والوعي يعود إلى شيوع المقاربات الدستورية الشكلية والوصفية في النظر إلى مفهوم الدولة القومية الحديثة في الدرس الأكاديمي، ناهيك عن غياب بعض المتابعات النظرية والتطبيقية في النظريات السياسية المعاصرة عن تطور الدولة والسلطة والاقتصاد، والتكنولوجيات المتطورة، والرأسمالية في طورها النيوليبرالي، والقوى الاجتماعية والتغير الاجتماعي وتآكلات بعضها كالطبقات الوسطى في المجتمعات الأكثر تطوراً في عالمنا.
أدت الثورات الصناعية من الأولى إلى الرابعة إلى تأثيرات كبيرة في الدولة والسلطة ومفهوم السيادة، وعلى الديمقراطيات الليبرالية والثقافة السياسية الحاملة لها. من ثم أثرت على الحريات العامة، وخاصة مع ثورة الاستهلاك المكثف، وهو ما أدى إلى تغيرات كبرى في مفهوم الحريات العامة والشخصية، وتحولت حرية الاستهلاك الفعلي أو المأمول والمرغوب إلى الحرية المركزية التي كرست الفردية المفرطة، وإلى تشييء الإنسان، وإلى إزاحتها وتهميشها النسبي لبعض الحريات العامة لا سيما السياسية، بالنظر إلى أن هذه الحريات تمارس في إطار نظام الاستفتاءات العامة الذي يمارس في بعض الحالات والشروط، ونظام الانتخابات الرئاسية خلال سنوات ما بين خمس إلى ست سنوات في بعض الأنظمة الانتخابية. من ثم لا يمكن تغيير التركيبة الحكومية أو الاعتراض على بعض مشروعات القوانين من الجماعة الناخبة، أو على سياسة رئيس الجمهورية كما في النظام شبه الرئاسي الفرنسي أو الرئاسي الأمريكي، إلا بعد انتهاء المدد المحددة دستورياً وقانونياً لمدد الولاية الرئاسية.
من هنا تبدو إمكانيات التغيير السياسي من الجماعة الناخبة رهناً بانتهاء هذه المدد، لكي يمارس الفرد الناخب أو الجماعة الناخبة الحق في تغيير التركيبة الحكومية والبرلمانية أو رئيس الجمهورية.
الحريات السياسية الأخرى خضعت لمؤثرات طاغية تمثلت في الصحف والمجلات والقنوات التلفازية والفضائية الحكومية، والأهم الخاصة المملوكة لبعض الشركات الكبرى العاملة في مجال الإعلام، وتخضع لطبيعة المصالح الاقتصادية والسياسية لممولي هذه الشركات الضخمة، التي باتت مؤثرة على اتجاهات الرأي العام في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية، وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة وما بعدها.
قامت أجهزة الإعلام والصحف والمجلات بتوظيف المفاهيم الليبرالية والديمقراطية، كل وفق مصالحه على نحو كرس نسبياً بعض الفجوات بين هذه الحريات في الخطابات الإعلامية، وبين واقع السياجات الناعمة التي تؤطر ممارسة الفرد لها في الحياة العامة واليومية.
من هنا كان التأثير الطاغي لتوظيفات مفهوم الحريات السياسية والفردية لصالح الرأسمالية النيوليبرالية خاصة من قبل الشركات الرأسمالية الكبرى وأثرها على بعض الإدراك والوعي الفردي وشبه الجمعي، في السلوك السياسي والاجتماعي واليومي.
أدت هذه التوظيفات الرأسمالية للإعلام إلى تحول الحريات إلى تمثيل واستعراض إعلامي متلفز ومقروء ومسموع قبل الثورة الرقمية، وإلى هيمنة سياسات تسليع الحريات التي تسيطر عليها الشركات الإعلامية الضخمة، والمصالح الاقتصادية الكبرى لمموليها، وإلى سطوة الإعلان وشركات العلاقات العامة، لا سيما في الولايات المتحدة، ثم إلى أوروبا الغربية، وامتدت من مجالات السينما إلى السياسة والسياسيين نسبياً ومجالات ترويج الاستهلاك والخدمات.
خضع المواطن الفرد للشبكات الإعلامية وسياجاتها الناعمة حول الحريات، وبات أسيراً لها في الأفكار السياسية والاجتماعية، والأهم في مجال الترويج للسلع والخدمات والاستهلاك المفرط، ومن ثم إلى تسليع السلوك الفردي والجماعي إلى حد ما.
أدى تطور الشركات الرأسمالية الكبرى والمصارف على المستوى الكوني/العولمي إلى التأثير على مفهوم السيادة، وذلك من خلال سياسات هذه الشركات الضخمة في استثماراتها العابرة للحدود والأسواق الإقليمية والوطنية من خلال أشكال معقدة من داخل الأنظمة القانونية للدول المختلفة، ولا سيما دول جنوب العالم، التي بات غالبها خاضعاً لشروط هذه الشركات والمصارف العابرة للحدود والأسواق، ومعها أيضاً المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي… إلخ.
على مستوى الدول الغربية الأكثر تطوراً، باتت هذه الشركات والمصارف الضخمة مؤثرة على سياسات الدول والأنظمة الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية، وتداخل تأثيرها على أداء البرلمانات والحكومات والأحزاب السياسية.
لا شك أن هذه التحولات في إدراك وهيمنة الشركات والمصارف الرأسمالية الضخمة أدت إلى انعكاسات سلبية على النظم الديمقراطية الليبرالية وتآكل بعض من مكوناتها، وفق عديد من الدراسات الغربية، ووصفها بعضهم مثل “ياشا مونك” في كتابه The People Vs Democracy بتآكل الديمقراطية الليبرالية وارتباط الديمقراطية بالليبرالية، في مسارها، وحدث بعض الانفصال بينهما، وصعود بعض الحكومات الليبرالية التي تسيطر عليها النخبوية والتكنقراطية والقضائية، وخاصة في أعقاب نهاية الحرب الباردة، ثم مع النيوليبرالية.
لا شك أن هيمنة حرية الاستهلاك المفرط ساعدت على حالة من التهميش الفردي، وتمدد الشعور بالتفاوتات الطبقية داخل المجتمعات الغربية الأكثر تطوراً، وخاصة مع القفزات التكنولوجية فائقة التطور والسرعة والمتلاحقة، وبروز مشكلات الاندماج الاجتماعي لمواطنين – من ذوي أصول غير أوروبية وأديان ومذاهب وأعراق مختلفة – عن غالبية مواطني هذه المجتمعات، وخاصة في أوروبا، وهو ما أدى إلى ظهور الاتجاهات اليمينية المتطرفة وكراهية الأجانب والإسلاموفوبيا، وهو ما أدى إلى شيوع الاتجاهات الشعبوية التي تنطق باسم مصالح الشعب والإرادة العامة باسم الأمة، وإنماء الشعور شبه الجماعي بكراهية النخب الحاكمة والزعامات السياسية ما بعد الحرب الباردة، التي يفتقر بعضها إلى الملكات والقدرات السياسية للنخب السياسية ما قبل وما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. تمثل مخاطر هذا النمط من الزعامات الشعبوية السياسية في محاولاتهم التشكيك في فاعلية النظام الديمقراطي الليبرالي من خلال محاولات المساس باستقلال القضاء وحرية الصحافة والإعلام، على نحو ما فعل ولا يزال دونالد ترامب بعد نجاحه في الانتخابات الرئاسية، ومضي أكثر من مائة يوم من حكمه، ويتم ذلك تحت مقولات “أمريكا أولاً” و”أمريكا عظيمة”.
ساعد على صخب الشعبوية وأزمة الدولة والنظام الديمقراطي الليبرالي أزمة المحكومية، وقابلية الأفراد للانضواء والمشاركة في المؤسسات السياسية والتفاعل معها، وهي ظاهرة بدأت في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، ولا تزال، وتتمثل في تراجع بعض نسب المشاركة في الانتخابات العامة، وعدم مشاركة بعض أقسام من الجماعات الناخبة في الاقتراع العام، وخاصة مع بعض من التآكل في بنيان الطبقات الوسطى، وازدياد نسب الضرائب وارتفاع بعض أسعار السلع والخدمات كالنفط والغاز.
كرست الشعبوية وأزمات الديمقراطيات الليبرالية تطور الرأسمالية النيوليبرالية، التي يعتبرها بعض الباحثين الغربيين مثل “ويندي براون” في كتابه في أنقاض النيوليبرالية أنها تمثل مشروعاً لتآكل الديمقراطية الليبرالية، وليست كما تصورها منظرو مدرسة شيكاغو فريدريش هايك وميلتون فريدمان كمشروع لتحرير الأسواق، وإنما هي مشروع لإعادة تشكيل الفرد والمجتمع والسيادة، وإنهاء ساهمت في إضعاف وتآكل الثقافة والقيم السياسية الديمقراطية، ومن ثم ساهمت في تفنيت وتفكيك نسبي للسلطة، وإعادة تشكيل الفرد كمشروع استثماري ذاتي (موقع أفكار عن نظريات العدالة على الفيسبوك)، ومن ثم خشوع غالب تفاصيل الحياة والأفراد إلى قانون السوق، ومن ثم تسليع كل شيء، ومن ثم الشعبوية كانت جزءاً من سياسات النيوليبرالية.
في هذا الصدد، لاحظ بعض الكتاب البارزين مثل “كوين سلوبوديان” (Quinn Slobodian) أن بعض المفكرين النيوليبراليين مثل موراي روثبورد وتشارلز موراي بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الكتلة الشيوعية السوفيتية ذهب بعضهم إلى أن تهديد الرأسمالية الغربية لم ينتهِ بنهاية الدول الشيوعية، وإنما بات يتمثل في الحركات الاجتماعية الجديدة مثل النسوية والحقوق المدنية والبيئة، ومن ثم ذهب بعضهم وفق “كوين سلوبوديان” بضرورة التحالف الجديد الذي يجمع بين النيوليبرالية والتفوق العرقي، وذلك على بعض المبادئ كما ورد في كتابه أبناء هايك: الجذور النيوليبرالية لليمين الشعبوي، وحدد هذه المبادئ فيما يلي:
- الطبيعة البشرية الموروثة، والاعتقاد في الفروق العرقية والذكاء موروثة على نحو يبرز التفاوتات الاجتماعية.
- الحدود الصارمة للدول الغربية، ورفض الهجرة حفاظاً على النقاء الثقافي والاقتصادي.
- المال الصلب، والدعوة للعودة إلى معيار الذهب أو العملات المشفرة كأداة لمواجهة السياسات الحكومية.
من ثم يذهب إلى أن حركات اليمين المتطرف ليست تمرداً على النيوليبرالية، وإنما هي تطور داخلي لها ويعيد تشكيلها بطرق تبرز التميز والتفاوتات بين الأفراد. (انظر ملخص وجيز جداً للكتاب على موقع: أفكار عن نظريات العدالة على فيسبوك).
ثمة من يرى من بعض الكتاب مثل “ماتياس سايدل” (Matias Saidel) في كتابه النيوليبرالية المعاد تحميلها: الحوكمة السلطوية وصعود اليمين المتطرف أن ثمة تقاطعاً بين النيوليبرالية والسلطوية، وأنها لم تعزز سياسات السوق الحرة، بل أدت إلى تمكين الأحزاب والجماعات اليمينية المتطرفة من خلال تحالفات وممارسات قمعية وخاصة بعد أزمة 2008، ومن ثم لم تعد محض إطار اقتصادي، وإنما تحولت إلى نظام حوكمة يعزز السلطوية والقومية العرقية والعنصرية مع الحفاظ على مبادئ السوق الحرة. في هذا الصدد، ذهب إلى إبراز أن النيوليبرالية تستخدم لفرض سياسات قمعية ضد الفئات الاجتماعية المهمشة مثل الأقليات العرقية والنساء من خلال تعزيز التنافسية كمعيار وحيد للنجاح. وأن القوى اليمينية المتطرفة استبدلت عداءها للشيوعية بالنسوية، ومعها أيضاً التحول الجنسي على نحو ما فعل ترامب، ويعتبر اليمين المتطرف والشعبوية أنهم يمثلون تهديداً للنظام الاجتماعي. من ثم يعتبر “سايدل” أن النيوليبرالية ليست سياسات اقتصادية فقط، وإنما مشروعاً سياسياً يعزز السلطوية ويقيد الديمقراطية. (انظر موقع أفكار عن العدالة سابق الذكر).
لا شك أن الشعبوية القومية المتطرفة والعرقية أثرت أيضاً وعلى نحو سلبي على الثقافة السياسية الليبرالية الديمقراطية ومؤسساتها وعلى الأفراد والحريات، وذلك لصالح خضوع الفرد أسيراً لحرية الاستهلاك المفرط وسياجاتها الناعمة وغوايتها وشبقها، ومن ثم تحول الفرد إلى سلعة في السوق، وهو ما سوف يزداد في ظل عدم تبلور اتجاهات سياسية مضادة للنيوليبرالية، وداعية لإصلاحات في المؤسسات السياسية على نحو ما حاوله بعضهم في حركة السترات الصفراء الفرنسية التي تشكلت على الحياة الرقمية، من عناصر تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وتظاهرت في جميع أنحاء فرنسا، ثم تراجعت. مشكلة قادة النيوليبرالية والشعبوية إنهم لا يبالون سوى بمصالحهم الخاصة وتعظيم الربحية، خاصة مع الشركات الرقمية الضخمة التي باتت تسيطر على المعلومات الضخمة والأسواق والشركات، بل وتؤثر على سياسات الدول والسلطات في الدول الأكثر تقدماً.
المصدر: الأهرام