إشكالية الدولة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر (3-3) (*)

في ضرورة التجديد الإسلامي
للمشهد الجديد حسناته وسيئاته بالطبع، ولكن المؤكد أنه بحاجة إلى تفكير جديد يوصل إلى أدوات فهم وعمل جديدة، ويطرح أسئلة جديدة مختلفة، مثل: هل يتحول الإسلام إلى مكوّن لكل التيارات والاتجاهات والطبقات تتشارك فيه، ولا يقدم برنامجاً سياسياً وثقافياً واجتماعياً خاصاً به؟ بمعنى، هل يختفي الاتجاه الإسلامي كتيار مستقل، لنجد مثلاً تشكيلات يسارية إسلامية، وليبرالية إسلامية، وعلمانية إسلامية، وقومية إسلامية، ومحافظة إسلامية؟ لتتحول الإسلامية إلى مكوّن مشترك، أو تفقد خصوصيتها وتنتهي كظاهرة سياسية وإطار للتجمع والعمل.
إن هذه المقولات تتطلب من الحركات الإسلامية تبنّي جملة من الأفكار والممارسات بشكل صريح لا لبس فيه:
- أن تتحول إلى أحزاب سياسية لها برامجها وأهدافها ووسائلها وتنظيماتها، وأن تعزف عن وضعها الحالي، حيث تعتبر نفسها حركات دعوية تلبس أحياناً ثوباً سياسياً.
- أن تقبل إجراء قراءات نقدية وجدية معمقة للفقه الإسلامي وللتراث وللأحاديث النبوية وللأحداث التاريخية.
- أن تشرح ماذا يعني شعار “الإسلام هو الحل”. هل هو خلاص فردي أم حل سياسي أم اجتماعي أم ثقافي أم اقتصادي؟ وألا تبقيه شعاراً عاماً غير محدد المعالم والأهداف، باستثناء خاصيته الجاذبة للشعبوية التي تخلط بينه كشعار ديني وشعار سياسي.
- أن تشرح للناس معنى أنّ الإسلام هو المرجعية الأساس للدولة أو المرجعية الرئيسية، كما تشرح مضمون الدولة حسب مفهوم هذه الحركات ومعاييرها ووظائفها ومهماتها ودورها الاقتصادي والاجتماعي.
من هنا أهمية مشروع سياسي إسلامي جديد يحاول حل هذه المعضلة، عبر ما يسميه نظاماً ديمقراطياً في إطار المرجعية القيمية المقاصدية الإسلامية. فالنظام السياسي يقوم على أنّ الشعب هو مصدر السلطات، الأمر الذي يجيب بشكل حاسم على سؤال طالما أربك حركات أصولية طورت خطابها السياسي باتجاه قبول الديمقراطية. والمواطنة، وليس الدين، هي أساس العلاقة بين النظام السياسي والشعب.
وأهم ما في هذا المشروع أنه يساعد في طمأنة الخائفين من أن يقضي وصول حركة إسلامية إلى السلطة، في انتخابات حرة، على الديمقراطية في مهدها. ولذلك، فمن شأن مشروع النظام الديمقراطي في إطار مرجعية إسلامية أن ينقل الحوار حول حقيقة موقف الحركات الإسلامية تجاه الديمقراطية خطوات إلى الأمام. غير أنّ هذه الفكرة لا تزال في حاجة إلى عمل عليها، يجعلها أكثر وضوحاً ويزيل الالتباس الذي ما برح عالقاً بها. إنّ أهم ما ينبغي أن ينشغل به أصحاب فكرة النظام الديمقراطي ذي المرجعية الإسلامية هو بلورة هذه الفكرة، وتقديم رؤية واضحة غير ملتبسة لهذه المرجعية، بما في ذلك كيفية تجسيدها وآليات عملها.
المطلوب إذاً من الجماعات الإسلامية السياسية أن تكف عن الاستعمال الشعاراتي للإسلام، وأن تبدأ في صوغ النظرية الإسلامية السياسية الناضجة، ولن يكون ذلك إلا من خلال مجموعة من القراءات المعمقة التي يتم فيها استقراء جميع النصوص الأصلية للإسلام ذات العلاقة بالشأن السياسي، ومحاولة إمعان النظر فيها مع فهم الواقع المعاش بكل تعقيداته، ثم محاولة الخروج برؤية إسلامية سياسية ناضجة، واضحة المعالم ذات عمق شرعي ووعي سياسي، يمكن الانطلاق منها وجعلها قاعدة لخطط إصلاحية عملية.
مستقبل الإسلام السياسي
الواقع أنّ الظاهرة الإحيائية الإسلامية ما تزال قوية وفاعلة، ولا تتجه إلى الانحسار، والبارز في تيارها الرئيسي ثلاثة أمور: مغادرة العنف، والانتشار ضمن فئات شعبية واسعة، والاتجاه المتعمد خلال العقود الأخيرة للدخول في الدولة والنظام، أو الطلب القوي للمشاركة فيهما، بعد أن استتب لها الأمر في مؤسسات وجهات كثيرة في المجتمع الأهلي، وبعد أن سيطرت على “جدول أعمال” المتدينين، وصار لها نفوذ ثقافي بارز.
ولا شكَّ في أنّ مسائل مثل التعددية السياسية والحريات الفردية، والأقليات، والمرأة، أمور أساسية لدولنا ومجتمعاتنا. لكن لا يمكن الزعم أنّ الإسلاميين هم الذين يحولون دونها أو يقفون عقبة في طريقها، فهناك من جهة وعي عام محافظ يتجاوز الإسلاميين، وهناك من جهة ثانية التجربة السياسية العربية المعاصرة، التي وضعت الجميع في مواضع ومواطن لا تقدم أغلبها أي أنموذج نستطيع أن نطلب من الإسلاميين احتذاءه.
ورغم أنني من أنصار الدولة المدنية القائمة على أسس الديمقراطية الحديثة ومبادئها في الحرية والعدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان، دون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو الدين والعقيدة، إلا أنّ واقع صعود التيارات الإسلامية السياسية في سورية يفرض عليَّ، انطلاقاً من موضوعية قراءاتي للتحولات الاجتماعية والسياسية، ومن انخراطي في شجون الشأن السوري والعربي العام، ضرورة دراسة هذا الواقع والاهتمام بتطوراته الإيجابية والسلبية والمساهمة في ترشيدها، وفق أسس قانونية وسياسية واجتماعية واضحة المعالم والأهداف والوسائل.
ولاشك أنّ نشوء تيار إسلامي مدني، يؤمن بحيادية الدولة عن الأديان والأيديولوجيات، ودعم الدولة المدنية التي ترعى كل الأديان وتصون مقدساتها، وتضمن حقوق كل مكوّنات مجتمعنا، هو أمر بالغ الأهمية في زماننا الصعب الذي لابدَّ فيه من دعم مؤسسات الدولة المدنية القائمة على مبدأ المساواة في المواطنة، وهو أمر بالغ الحيوية والأهمية لتطوير المفاهيم الدينية، ولكن بشرط الإيمان بدنيوية الممارسة السياسية، ولوازم الدولة المدنية من الديمقراطية الحقيقية والتعددية وتداول السلطة، واستناد البرامج السياسية إلى أسس مدنية ومعايير عقلانية، بعيداً عن المزايدات الدينية والتدخل في حيوات الناس الشخصية.
(*) إعادة صياغة لورقة قُدمت في إطار ندوة “الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي.. تجارب واتجاهات” التي نظمها “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” – الدوحة، من 6-8 أكتوبر/تشرين الأول 2012.