العقل الديني الوضعي وتحدي الذكاء الاصطناعي التوليدي

نظرة طائر على الحياة الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي العربية تستطيع أن تلتقط ظواهر دينية متناقضة، بين الجموع الرقمية الغفيرة. أولها: تحويل وسائل التواصل الاجتماعي إلى فضاءات للسجالات الدينية حول السرديات التاريخية للنصوص المقدسة، والفقهية واللاهوتية – المسيحية – والتوراتية، وإزاء أنماط التدين السائد في المجتمعات العربية، وذلك ارتحالاً من الحياة الدينية الفعلية إلى الحياة الرقمية، من خلال المنشورات، والتغريدات، والفيديوهات الطالقة الوجيزة جداً.
ثانيها: الخطابات الرقمية الدينية تحملُ في أعطافها نزوعاً لدى بعض الجموع الرقمية الغفيرة لبناء مكانة دينية من خلال اللغة الدفاعية عن التدين، أو اللغة الهجومية، والتداخل فيما بينهما في ذات الخطاب، في مواجهة خطابات أخرى، أو تأويلات مخالفة لما هو سائد في أنماط التدين الشعبي الشائعة ومحمولاتها من العادات، والحكايات الدينية، والأمثولات، والحكم الشعبية، وبعض الأساطير، وخاصة الشائعة في الأرياف، والبوادي، والصحراء، وهوامش المدن المرفهة وقيعانها.
ثالثها: بعض هذه الخطابات سياسية، وتهدف إلى الإسناد الديني لها، وشرعنتها في مواجهة السلطات السياسية والدينية الرسمية وسياستها الدينية. وبعضها الآخر ذو سمت دعوي لترويج بعض الأفكار الدينية الوضعية المؤدلجة في محاولة للذيوع وجذب التفضيلات.
رابعها: بعض الخطابات التدينية تحاول تحويل النقاشات، والأخبار، والقصص المتداولة حول بعض الفنانين والفنانات، والسياسيين، والجرائم العنيفة… إلخ، من حدودها في السلوك الاجتماعي، أو الإجرامي، إلى المجال الديني الوعظي، وتحويرها من محض أخبار، وأقوال، وأفعال يومية – أياً كانت – إلى سياقات تدينية، لإطلاق الأحكام الفقهية، أو الدينية الشعبية، والثنائيات المتضادة: الحلال والحرام، والمشروع واللا مشروع في الإدراك الديني الشعبي السائد.
خامسها: ثمة خطابات أخرى على الحياة الرقمية تتسم باللا أدرية، أو الإلحادية، التي تزايدت وتنامت خلال جيلي ألفا، وزد (Z). بعض هذه الخطابات وجد في الحياة الرقمية مجالاً واسعاً للتعبير عن مواقفهم اللا أدرية، والإلحادية إزاء الأديان والله – سبحانه وتعالى – والمقدس، والنبوات، والكتب المقدسة، والسرديات التاريخية المختلفة حولها، والتشكيك فيها، وفي أسانيدها، وفي مصدرها السماوي، وتكوينها التاريخي – وخاصة التوراة وغيرها – وأيضاً حول المعجزات، وغيرها من المرويات حولها.
كانت الخطابات اللا دينية المضادة محجوبة عن الظهور، والتعبير عنها في الحياة الفعلية خشية من اتهامها بالكفر والمروق، ومن الملاحقات القانونية، أو من مواقف المؤمنين بهذا الدين، أو ذاك، ومذاهبه تجاه المؤمنين بها! كان تداول هذه الخطابات يتم بين المعتقدين في اللا أدرية، أو الإلحاد، خلسة. بعض هذه الخطابات والمؤمنين بها كانت تظهر ظلالها في بعض الأعمال الأدبية، في مواربة، أو عبر إشارات، أو شخوص في الأعمال الروائية، أو المسرحية، أو النصوص الشعرية. في بعض القصائد، كانت ردود الفعل على هذه الإشارات الإلحادية، أو اللا أدرية، تتسم بالحدة الشديدة، والعنف، واللجوء إلى السلطة الدينية الرسمية في بعض البلدان العربية، طلباً لمنعها وتدخلها لمصادرتها، أو تقديم الشكاوى من بعضهم – رجال دين، أو محامين، أو مواطنين عاديين – إلى الجهات الأمنية، والنيابة العامة، طلباً لمنع هذه الأعمال الأدبية، وتحويل الكاتب أو بعض الفنانين إلى المحاكمة.
هذا الاتجاه – أياً كانت مصادره: شخصية، أو حزبية، أو من جماعات سياسية دينية متشددة، أو سلفية – قام بتوظيف الأعمال الأدبية سياسياً ودينياً، أمام قواعدهم التنظيمية والبيئة الحاضنة لهذه الجماعات، للترويج لخطاباتهم الأيديولوجية حول الدين. هذا الاتجاه خلط، ولا يزال، بين الأعمال الأدبية وتخييلاتها، وشخوصها، وعوالمها، بين الخيال الأدبي، وبين الواقع الفعلي أو التاريخي، وذلك للهيمنة على العقل الإبداعي، على نحو ما ظهر مراراً وتكراراً في مصر، وبعض البلدان العربية. وصل الأمر إلى مراقبة الأغاني، على نحو ما حدث في لبنان ذات مرة.
الحياة الدينية الرقمية باتت مجالاً دينياً وسياسياً مفتوحاً على مصراعيه، سواء لشخصيات حقيقية، أو شخصيات مصطنعة لتمرير آرائها التكفيرية، أو التفسيقية للآخرين. امتدت السجالات والمجادلات بين المذاهب داخل ذات الدين حول العقائد والشخصيات، والرموز، والسرديات التاريخية المتعددة، وذلك في نزاعات تدور بين الدفاع والهجوم. الأخطر بين الأديان وبعضها بعضاً عبر خطابات المؤمنين بها، والمتطرفين دفاعاً عن أديانهم، وإثبات الاختلافات بين هذه الأديان، أو أولوية أو استعلاء كل دين على الأديان الأخرى!
بعض رجال الدين الرسميين، أو الوعاظ والدعاة غير الرسميين، اتخذ من الحياة الرقمية فضاءات للظهور والاستعراض، وخاصة بين دعاة الاستعراض، ومحاولة تقليد الوعظ الكاريزمي البروتستانتي السائد في بعض الكنائس الإنجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية!
حالة من التسونامي الرقمي الديني الوضعي توظف وسائل التواصل الاجتماعي في الاستعراض الديني، بعد تحول الحياة الدينية الرقمية إلى سوق ديني –محلي ووطني وإقليمي وعالمي– يمكن أن يحقق لهم مكانة وذيوعاً لبعض الفاعلين الدينيين الرقميين.
الملاحظ هنا أن توظيف الحياة الرقمية وأدواتها هو توظيف ديني أداتي، ومن ثم لم يؤثر على العقل الديني الوضعي النقلي، وجوهر وبنية خطاباته الدينية، وعمليات التفكير، ومناهجه في تحليل الظواهر الرقمية أو الفعلية الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والعلمية، والأدبية، والفنية، أو السرديات التاريخية –أيا كان مجالها: ديني، أو سياسي، أو اجتماعي، أو أسطوري!
أدت الشركات الرقمية الكونية الرأسمالية إلى ظواهر جديدة، منها تسليع التدين، ومعها الجموع الرقمية الغفيرة، والفاعلين الدينيين داخلها، وعبرها. بات التدين سلعة رقمية يتم تداولها واستهلاكها، إلا أن المتغير النوعي الجديد يتمثل في الذكاء الاصطناعي التوليدي، ودوره في المجال الديني، حيث بدأت مؤشرات دالة على دوره في أداء وظائف المؤسسات والسلطات الدينية – أياً كانت الديانات والمذاهب، والسرديات، والفقه والتفسير واللاهوت ومدارسه التاريخية والمعاصرة – حيث يقدم الآراء المختلفة في كل مسألة دينية عقدية، أو طقوسية وتاريخية، وعلى نحو مقارن، وأيضاً إبداء الرأي فيها، على نحو ما بدأ فعلاً. وفي المستقبل، سيستطيع أن يقدم آراء أكثر تبلوراً، ودقة، وتحليلاً حول العقائد الدينية المختلفة، والآراء الفقهية أو اللاهوتية المسيحية، أو التوراتية، أو البوذية، أو الكونفوشيوسية… إلخ، بل ويقدم الفتاوى، والردود على أسئلة السائلين من الجموع الرقمية الغفيرة. لا شك أن أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي ستتطور، وستؤثر على نحو كبير على الأجيال الشابة والقادمة، وخاصة الصبية والفتيات، بل وبعض الأطفال.
هذا التحول في الذكاء الاصطناعي التوليدي بات يمثل تحدياً كبيراً للسلطات الدينية الرسمية، وللجماعات الدينية والسياسية – أياً كانت إيديولوجياتها الدينية الوضعية حول المقدس – وإزاء المؤسسات الدينية الوضعية اللاسماوية. في سياقات المستقبل المنظور، وتطور الذكاء الاصطناعي التوليدي، سيؤثر على فاعلية ووظيفة رجل الدين المتخصص، ومدى تأثيره على الوعي الديني للتابعين لهذه الديانة، أو تلك. من ثم، سيشكل تحدياً كبيراً على رجال الدين. يتطلب مواجهة هذا التحدي استيعاب هذه الصدمة الرقمية الهائلة، من خلال تجديد العقل الديني الوضعي النقلي، وقيام هذه المؤسسات بتجديد مناهج العلوم الدينية الموروثة، وفي تحرير الدين من بعض السرديات التاريخية الوضعية الضعيفة حول الدين والمذهب –أيا كان! تغيير المناهج التعليمية الدينية وإصلاحها يتطلب مقاربات مختلفة للسرديات الدينية النقلية الموروثة، وأيضاً لتحرير نظريات التفسير والتأويل الديني من القيود التي تحول دون إبداع تفسيرات تواجه أسئلة عصرنا المتغير، وفائق السرعة، والتغيرات الجيلية التي باتت تمثل تحولاً في إدراك الظواهر، والأفكار، والموروثات من خلال تفكيرها الرقمي، وسلوكها بين الرقمي والفعلي.
من هنا، لا بد من الانتقال من النقل إلى العقل، وخاصة أن العقل الرقمي ليس عقل الحداثة وفلسفاتها المتعددة، وإنما عقل مختلف، وسيمثل قطيعة معرفية مع مألوف العقل الحداثي ومواريثه السياسية والثقافية والاجتماعية، وتجاه الدين ومذاهبه –أيا كانت– والسياسة والثقافة… إلخ.
كانت اللوثرية والكالفينية ثورة في العقل الديني المسيحي، وأثرت على مسارات العقيدة المسيحية، والفكر الديني واللاهوتي، وعلى الكاثوليكية، على نحو ما حدث في مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني، ثم لاهوت التحرير الأمريكي اللاتيني، والأفريقي، والآسيوي – على نحو ما تجسد بعضه في فكر البابا فرنسيس – خورخي ماريو بيرجوليو – السادس والستون بعد المائتين.
من هنا، تشكل صدمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، وعالم الإناسة الروبوتية، ثم الروبوتات، تحدياً كبيراً على المسيحية الكاثوليكية، والبروتستانتية، وأيضاً الأرثوذكسية، وغيرها من الأديان والمذاهب.
من هنا، سيشكل التسونامي الرقمي، والذكاء الاصطناعي التوليدي، والروبوتات، تحدياً ضخماً ونوعياً للسلطات الدينية الإسلامية الرسمية، والجماعات الإسلامية السياسية والسلفية، وهو ما يحتاج إلى مقاربات تجديدية وإصلاحية للتعليم الديني، وللفكر الديني السائد، خاصة أن الحياة الدينية الرقمية في حالة من التغير فائق السرعة في ظواهرها التدينية، وذلك لمواجهة هذه التحديات الجديدة في عالمنا، والرأسمالية الرقمية الجديدة، وهو ما سوف نتناوله في المقال القادم.
المصدر: الأهرام