مخاطر الشعبوية السورية

img

تقوم الشعبوية بنسج سرديتها الخاصة في مواجهة التحديات التي تواجه المجتمع، دون أن تفكر في عقلانية تلك السردية أو نتائجها السياسية والاجتماعية.

وهي حين تفعل ذلك، تلجأ إلى المخزون اللاشعوري عند الجماعة، أو لنقل إلى العقل الجمعي، الذي يتكون من مجموعة مشاعر غامضة، راسخة في مكان ما من الذاكرة الجمعية، وهو مكان يتمتع بحماية من الفحص، لكونه لا يظهر في مكوناته الأصلية بصورة متبلورة، ولا بمفاهيم محددة يمكن لمسها وتعريضها للعقل.

لنلاحظ أن المخزون اللاشعوري أو العقل الجمعي العربي-الإسلامي يميل باستمرار نحو المعايير المذهبية-الدينية، أما المعايير الأخرى، فهي حديثة وهشّة، تحاول الركوب على العقل الجمعي من فوقه، وليس من داخله إلى حدٍّ كبير.

ولكون الأمر كذلك، نجد أن الشعبوية تتمتع دائماً بقدرة على استعادة مركزها في المجتمع، حين تتراجع الثقافة لتصبح محصورة بالنخب المعزولة اجتماعياً وسياسياً.

ويصدق هذا الحال في المجتمعات المغلقة، كما يصدق في المجتمعات التي يسودها الاستبداد السياسي لفترة طويلة، هذا الاستبداد الذي يشكّل عائقاً حقيقياً أمام تفاعل النخب مع المجتمع، بحيث يمكن نقل الثقافة والوعي إلى عمق العقل الجمعي بصورة فعّالة.

ما يحدث اليوم في سورية هو أن المجتمع السوري خرج من حقبة طويلة من التصحر السياسي، الذي أنتج تصحّراً فكرياً أفسح الطريق أمام العقل الجمعي للتسيُّد، وهذا العقل لا ينتج سوى الشعبوية في حقل السياسة.

وأسوأ ما تفعله الشعبوية أنها تضع سدّاً أمام المحاكمات العقلانية، وبالتالي تعيق رؤية الذات رؤية نقدية، وتدفع إلى اعتبار الذات كائناً مقدساً، واعتبار الآخر غريباً وكياناً مغلقاً على الفهم.

هكذا تتضخم “أنا” المجتمع، أو بصورة أكثر صراحة “أنا” الجماعة، حتى لا تعود تقبل الآخر إلا باعتباره خارجها، وهو شعور يشبه إلى حدٍّ كبير الشعور القبلي. وفي الحقيقة، فإن الانقسام إلى مذاهب لا يجد تفسيره التاريخي سوى بكونه، بوجه من الوجوه، إسقاطاً للانقسام القبلي الأقدم والأكثر عراقة في حقل التدين.

ولعل ذلك يفسر لماذا تجمّعت الانقسامات المذهبية في بلاد الشام ولم تتجمع في مصر؟ بل كانت أحياناً تولد في مصر، لكنها تُصدَّر إلى بلاد الشام، بينما تبقى مصر كتلة مجتمعية واحدة مذهبياً إلى حدٍّ كبير.

ببساطة، لأن التأثيرات القبلية في بلاد الشام أكثر رسوخاً، وبالتالي، فإن المجتمعات هنا ذات قابلية طبيعية للانقسام العمودي، بخلاف المجتمع المصري.

ذلك مجرد استطراد، ولكي نعود إلى موضوعنا الأصلي، فإننا في سورية ما زلنا، إلى حدٍّ ما، نتعامل كقبائل تمذهبت أو كمذاهب تعي ذاتها وعياً قبلياً.

والنتيجة أن العقل الجمعي نراه اليوم ينسج سرديته في رؤية كل طرف للآخر بحرية وفعالية، بعيداً عن أي تفكير عقلاني.

فالأغلبية العربية السنّية لم تعد ترى في الأقليات سوى عائق ينبغي تجاوزه، والأقليات لم تعد ترى في الأغلبية سوى مشروع للهيمنة الشاملة، لا يترك أمامها سوى نافذة ضيقة للحياة.

هذه الرؤية المتبادلة أصبحت تشكل جذر أزمة سياسية لا يمكن تجاهلها، بل يجب فحصها ومعالجتها معالجة اجتماعية-سياسية، وليس بروح الغلبة.

ولعل المدخل إلى ذلك يكمن في اختراق السردية الشعبوية السائدة، التي نشأت على أنقاض التصحر السياسي-الفكري الذي ورثناه عن النظام البائد.

لكن ذلك يتطلب حواراً مجتمعياً حقيقياً، تتدخل فيه المفاهيم الثقافية والعقلانية.

حوار لا يُبنى من فوق، بل من تحت، من قواعد المجتمع، ولا يدور بين السلطة والمجتمع، بل داخل المجتمع نفسه.

ومثل هذا الحوار يتطلب أجواءً من الحرية والاستقلال.

وبدون تلك الحرية، لن يكون ممكناً إنجاز أي تقدم، أي أن الشعبوية ستنتصر في النهاية.

أما ماذا يعني انتصارها وإلى أين سنذهب، فلا أحد يعلم، لكن ما يمكن الجزم به هو أنها ستقودنا إلى مكان آخر لا يشابه آمالنا وأحلامنا، التي تفتحت بعد أن تنسّمنا الحرية بسقوط النظام البائد.


الكاتب معقل زهور عدي

معقل زهور عدي

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة