نحن والغرب: الرؤى المتبادلة
نمطية السؤال والاجابات في مواجهة صور الأستشراق الكولونيالي والامبريالي
نحن والغرب، أحد أبرز القضايا المركزية التي طرحها بعض الفكر العربي النهضوي، والمعاصر على سجالاته، وانشغالاته، وهمومه منذ مطالع النهضة العربية المغدورة، وحتى تراكمات التخلف التاريخى المركب وتفاقمها في الحياة داخل المجتمعات العربية، وحول الدولة والسلطة، ونحن أمام تحولات استثنائية، ومشارف قطيعة مع تاريخنا وعالمنا كله، مع الثورة الصناعية الرابعة، وتطورها فائق السرعة.
نحن وهم، هل لا تزال الرؤى المتبادلة ساكنة أم اعترتها تغيرات كبرى؟ هذا السؤال وغيره من الأسئلة التى تتناسل من أصلابه، وما وراءه وحوله، قد يبدو محملا] بأرث من الإجابات المتعددة، ومعها بعض الثنائيات المتضادة، منذ صدمة الحداثة مع حملة نابليون بونابرت، ومع دولة محمد على وما بعده، ودولة المخزن في المغرب، ونسبياً مع أول دستور تونسى في العالم العربي 1861، في عهد محمد الصادق باي.
إشكالية نحن وهم، والرؤى المتبادلة طرحت نسبياً مع التقدم الغربى، ومدافع نابليون، والتنظيم العسكري، والمجمع العلمي، ونظام المحاكمة الجنائية – محاكمة سليمان الحلبي – وإلغاء السخرة، وسجلات المواليد والوفيات. ومع تداعيات الصدمة انفجر سؤال لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟ الذي أطلقه فيما يعد شكيب رسلان – وتناسلت الثنائيات الضدية، الدين والتقدم والتخلف، والنص والعصر، والأصالة والمعاصرة، والتقليدية والحداثة.
في ظل هذه الثنائيات الضدية، تشكلت مدارس الفكر والعمل السياسي، من المدرسة شبه الليبرالية، والإسلامية السياسية، والسلفية، والماركسية وتأويلاتها ومنظماتها السرية، وحركة القومية العربية. الثنائيات الضدية، وأسئلتها العامة والسائلة، كانت تدور حول الأسئلة التي تبدو بسيطة، ومعها بعض الإجابات العامة التي تجاوب على كل شيء، ولا تجاوب على شيء ما!
لم تكن ثمة رؤى متبادلة، سوى تشكل صور نمطية من كل طرف تجاه الآخر، حيث تسيطر الروئ الكولونيالية والاستشراقية، التي تحولت بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي، إلى روئ إمبريالية، ونمط من خبراء المنطقة.
الأخطر في هذا المسار التاريخي الطويل استمرارية السؤال بصياغات مختلفة، ومصطلحات تبدو مجازية، مع استمرارية غالب إجابات العابرة للمراحل التاريخية على الرغم من تعقد مشكلات تخلفنا التاريخي المركب على الصعد كافة على الرغم من التحولات الكبرى، والثورات الصناعية من الأولي إلى الثالثة، والرابعة، وقلة قليلة جداً من المفكرين العرب هي التي تابعت المتون والسرديات والنظريات والمفاهيم والآلات الاصطلاحية، والقطيعة المعرفية في مسارات الفكر الفلسفي والثقافات الغربية. كانت نظرتنا واحدية للغرب على الرغم من تعدد تاريخه، ومساراته، وثقافاته لأن الترجمات كانت مبتسرة للمتون الغربية، ومحدودة.
من المنظور العربي، كان الاستشراق المرتبط بالكولونيالية ينمط العالم العربي، والإسلام، وقلة هى من حاولت في دأب دراسة المنطقة، وتاريخها، وأديانها ومذاهبها على نحو ما فعلت المدرسة الألمانية والنمساوية.
كان الغرب ولا يزال يبدو واحداً في العقل العربي المسيطر مثل الغرب والإسلام في بعض العقل الغربي الاستشراقي والسياسي، كان الغرب الواحد في الإدراك العربي النخبوي، سائداً ولا يزال على الرغم من تعدده، وتعقد مجتمعاته وخصوصياتها وهوياتها، ونظمه الاجتماعية والسياسية، وأنماط إنتاجه وعلاقاته في إطار الرأسمالية الغربية فائقة التطور، وتم اختصارنا في الدين ومذاهبه على أهميته، أو في الحفريات الأثرية. ثمة قلة من أميز العقول العربية هم من تابعوا في أناة، وتعمق، لمجريات التغير والتحول في الغرب المتعدد من منظورات نقدية، وحاولت تفكيك أساطيره، وبعض أوهامه، ونزعت عنه سحره، ورهابُ الخوف منه لدى النخب السياسية والفكرية العربية المفتونة به والملتاعه والخائفة من عقابه.
السياقات السياسية، والثقافية، والاجتماعية المتغيرة فرضت أسئلة جديدة مع انهيار حائط برلين ومعه انهيار الإمبراطورية السوفييتية، ثم صدمة الحادي عشر من سبتمبر وما بعد، والقاعدة، وداعش والسلفات الجهادية، وتحولات في مواقع القوة الدولية، مع الإمبراطورية الأمريكية الإمبريالية، وسطوتها على دول حلف الأطلنطي “الناتو”، ثم صعود آسيا حول الصين، والهند وكوريا الجنوبية، وسنغافورة وماليزيا، وتحول الصراع الدولي من الشرق الأوسط إلى جنوب شرق آسيا قبل طوفان الأقصى. كل هذه التغييرات أدت إلى طرح أسئلة مغايرة لأسئلة محاولات النهضة العربية المجهضة.
تغير السياقات، وصعود اليمين المتطرف والإسلاموفوبيا والمواقف الداعمة لسياسة الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة، وتراجع أدوار فعالية وفاعلية الأحزاب والمؤسسات السياسية والحزبية نسبياً، والتمرد عليها من بعض الطبقات الوسطى في فرنسا، وبلجيكا على سبيل المثال، كشفت عن تآكل الجاذبية التاريخية للغرب في بعض نخب جنوب المتوسط.
الغرب متعدد، ومركب، ومعقد، وذو تواريخ متعددة وثقافات متغيرة، مع تحولات عالم المابعديات، والسرعة الفائقة، وثورة الاتصالات، التي أدت إلى تكريس مفهوم نهاية المثقف وأدواره، مع التخصصات الدقيقة، والأهم أثر ذلك على الفلسفات الغربية، وتطوراتها والفجوة بين مفاهيمها المعاصرة، وجذورها في الفلسفات والفلاسفة السابقين، خاصة مع السرعة الفائقة، وأيضاً مع دولة الاستهلاك المفرط، وحرية الاستهلاك الكثيفة التى احتوت معها بعض من الحريات الأخرى، وكسرت دلالاتها في أنظمة سياسية ليبرالية تمثيلية، وباتت تؤثر في مسارات المصارف، والشركات الكونية النشاطات والإنتاج السلعي والخدمات.
تراجع الغرب الأوروبى، مع هيمنة الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة في سياسات الإنتاج وعلاقاته، ونهاية مفهوم العمل التقليدي، وأثرها على فعالية الحريات العامة، والشخصية وتحولها إلى استهلاك مكثف وتمثيل واستعراضات، وهو ما أدى إلى تغير في مفاهيم الأنسنة والإنسانية، لصالح حرية الاستهلاك واللذات السريعة، ومن ثم إلى تراجع نسبي في الاهتمامات الغربية بالديمقراطية والحريات في مجتمعات العالم الأخرى، لاسيما العالم العربي الذي تحول غالبه يسراً وعسراً إلى دوائر الاستهلاك الجهنمية لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، أو لمن لا يستطيع، ولكنه مشفوف باستهلاك السلع والخدمات، على الرغم من الفجوات الطبقية الواسعة بين القلة من السراة، وغالبية المجتمع.
الغرب، أو المجتمعات الغربية المتغيرة، بدأت مع اليمين والشعبوية وعالم ما بعد الحقيقة، تحاول المفاصلة مع جنوب المتوسط واستبعاد بعض من حضوره الأقلوي على أراضيها، ومراقبة الحدود، وطرد موجات الهجرة غير الشرعية، ودعم الأنظمة التسلطية التي تواجه هذه الهجرة بقطع النظر عن مدى احترامها لحقوق الإنسان.
لم تعد الوظائف التبشيرية لحقوق الإنسان والقيم الليبرالية، تمثل ذات الأهمية والثقل في أثناء الحرب الباردة، وبعدها بقليل في أعقاب تفكك الإمبراطورية السوفييتية. قلة من المفكرين العرب البارزين هم من تعاملوا مع الغرب المتعدد من خلال المتابعة العميقة لمجريات مجتمعاته وأنظمته وسياساته، ومعارفه، والأهم الانتقال من المركزية الأوروبية والغربية، والمفهوم الشائع عن الغرب الواحد الجامع لتعددياته إلى نقد المركزية الأوروبية، والغربية، ونظامها الرأسمالي الإمبريالي من أنور عبدالملك، وسمير أمين، وعبدالله العروي، وإسماعيل صبري عبدالله، وفؤاد مرسي، والوظيف يوسف، وأدوارد سعيد، ومصطفى صفوان، وجورج قرم، وحسن حنفي، وصادق جلال العظم، وحسين مروة، والطيب تزيني، وذكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا، وأدونيس، وهشام جعيط، والسيد يسين، وبعض من المدرسة المصرية الفرنسية في علم النفس، وعبد الإله بلقزيز، ومحمد المعزوز، ومحمد السيد سعيد، وأحمد عبدالله رزة، وأنس مصطفى كامل.
هذه المقاربات النقدية للغرب المتعدد، الاستشراقي، وغيره كانت جزءاً من سياقات التحرر الوطني العالم ثالثية، وعدم الانحياز، من ناصر إلى نهرو وسوكارنو، وليبولد سنجور، وجوزيف بروز تيتو، وشواين لاي، والأهم أن هذه الفوائض التحررية امتدت وتطورت في نقد مابعد الكولونيالية النزعة النقدية للغرب المتعدد ضرورية نظراً لمسارات حياة الإنسانية المتعددة والمعقدة كلها، خاصة أن ثمة تحولات مع الثورة الصناعية الرابعة والإناسة الروبوتية – صنيعة الغرب، وشركاته الكونية الضخمة – وتأثيرها على الوجود والشرط الإنساني كله، لصالح تضخيم الربحية، والاعتصار والالتهام الوحشي لمصادر الثروات الطبيقية والبشرية وخاصة في دول الجنوب المتخلفة، من أجل الاستهلاك والتشيوه الإنساني.
في ظل مرحلة الإناسة الروبوتية، وفي طريقنا إلى ما بعد الإنسان ثمة انفجار لبعض النزعات اليمينية المتطرفة والشعبوية الداعمة لدولة الإبادة الجماعية، والتشدد إزاء الثقافات غير الغربية، وتحديداً العربية. من ثم نحتاج إلى تجديد النزعة الإنسانوية في الإسلام إسلام الحرية، والمساواة، والعدالة، والإخاء الإنساني.
العلاقة بين الإنسان، والروبوتات، تحتاج إلى تجديد هذه النزعة، في ظل هذه الثنائية الجديدة، وجعلها ثنائية للتكامل بديلاً من تحولها إلى ثنائية تضادات وصراعات، في ظل مؤشرات التحول الروبوتية من فاعل اجتماعي، وفكري، وعلمي، وطبي تحت السيطرة إلى فاعل مضاد ذو تفكير وردود أفعال على الفعل الإنساني.
لسنا في عالم ثنائية الإنسان/الآلة القديمة، على الرغم من دورها في الثورات الصناعية المتعددة، حتى الثالثة، في القيم والعلاقات الإنتاجية والاجتماعية والتوترات والثقافة والاستهلاك، والتشيوه الإنساني، بل وفي الطبيعة البشرية المتجددة.
نحن أمام مشارف مرحلة في التاريخ الإنساني جد مختلفة عما سبقها تماماً. من هنا تنفجر أسئلة مختلفة، ومعها مقاربات تحليلية مغايرة تماماً، من الإصطلاحات، والمفاهيم والنظريات، ومقارباتنا لهذا التحول الكبير.
لم تعد هذه الإشكاليات المختلفة قاصرة على الغرب، وإنما تمتد لتواجه الوجود الإنساني كله، وثقافاته المتعددة في شمال العالم وجنوبه ومن ثم لن يكون عالم الإناسة الروبوتية قاصراً على أمريكا والشمال، وإنما هناك عالم آسيا الناهضة، وإبداعاتها التقنية الهائلة حول الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية والهند. من ثم لن يعدو الغرب الأوروبي وصوره النمطية ملهما للأجيال الجديدة والتي لاتزال في طور الصبا والطفولة في المنطقة العربية، علي الرغم من أن وضعية التخلف والعسر الاقتصادي والقيود علي الحريات والتخلف الاقتصادي والاجتماعي، لايزال يشكل دوافع للهروب الي شمال المتوسط وأمريكا الشمالية، وأمل في السعي وراء الرزق والحياة الأفضل، أو التعلم لبعض النبهاء، إلا انه مع التطورات التقنية والصورة الصناعية الرابعة تتشكل وستتنامي دوافع اخري للانتقال لآسيا الناهضة، مع تمدد الاهتمام باللغة الصينية، والإنتاج التقني الصيني في المجالات التقنية والذكاء الاصطناعي التوليدي. سيحفز علي تراجع الاهتمام بالغرب مستقبلاً أزمات الاندماج الاجتماعي في مجتمعاته، وتزايد النزعة الشعبوية واليمين المتطرف، والإسلاموفوبيا، والدعم المستمر للاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ومحاولات أمريكا وإسرائيل وبعض الدول الغربية في تغيير الجغرافيا السياسية في منطقة الشرق الأوسط وتمدد الدولة الإسرائيلية وفق الخيال السياسي الديني التوراتي في الأراضي المحتلة والامتداد الي بلدان عربية أخرى، وفرض معادلات جديدة للقوة، والأخطر فوائض حرب الإبادة والتطهير العرقي في غزة والضفة الغربية، في المخيلات العربية. كل هذه السياسات الغربية وحرب الإبادة، ستظل جزءاً من ذاكرة الأجيال الجديدة والقادمة، على نحو سيكرّس بعض الصور السلبية، وأيضاً مع تراجع دور الدول الغربية في موازين القوي السياسية الدولية، والتقنية، وأيضاً صعود الثقافات الصينية والآسيوية.
ثمة ثقافات أخرى، وأديان ومذاهب وضعية وتاريخية عميقة الجذور علينا الانفتاح على هذه الأنظمة الدينية والمذهبية الآسيوية وثقافاتها، لنفهم من منظورات نقدية ما الذي يدور في عالمنا المتحول.
الأهم هو ضرورة الانفتاح على تيار التجديد في الفكر الدينى الإسلامى، واللاهوتي الأرثوذكسي والكاثوليكي والبروتستانتي في منابعهم الصافية، حتى نستطيع أن نشارك في إنتاج أسئلة جديدة، مع هذه الكتل الدينية والمذهبية الضخمة كونياً، ومع أسيا الناهضة وأديانها ومذاهبها وثقافاتها.
من هنا تبدو أهمية مقاربة البروفسير عبدالإله بلقزيز والبروفسير محمد المعزوز، في معرض القاهرة الدولي للكتاب حول الرؤي المتبادلة بين نحن وهم، وهما من أبرز المفكرين العرب النقديين المعاصرين، ومن سلالة قلة القلة ممن أبدعوا معرفياً – كل في تخصصه – وأثروا الثقافة العالمة، أو العليا، ووسموها بالسمت النقدي في مواجهة العقل النقلي الساكن في لغته واصطلاحاته منذ مطالع النهضة العربية وإلى الآن، العقل النقلي في تعدد منابعه الدينية وشبه الحداثية الذي أنتج اللغة الخشبية، أو الكلام الساكت وفق تعبير أشقائنا في السودان.
المصدر: الأهرام