نحن والمرحلة الجديدة من الثورة السورية

img

تيقن السوريون وكذلك معظم المراقبين لمسيرة الثورة السورية، خلال حوالي 14 عاماً، بأن الثورة يتيمة بكل ما تعنيه الكلمة. تكالبت عليها قوى الثورة المضادة المحلية والإقليمية والعالمية ووقفت عارية أمام وحشية عصابة الأسد المجرمة، وأمام تخاذل دولي وعربي مخيف، علماً أن الثورة بدأت شعبية سلمية ترفع شعارات وطنية سورية. لكن النظام وضع كل ثقله وإمكانياته الاستخباراتية لإجهاض الحراك الشعبي وتشويه صورته، بالتنسيق مع رعاته ومع من تحالف معه من روسيا إلى نظام الملالي الى القوى الدولية وفي مقدمتها إسرائيل ومن ورائهم الولايات المتحدة الامريكية كاتب السيناريو والمخرج.

ليس سهلاً على الفهم السريع وليس صدفة أن يقف المجتمع الدولي والإقليمي إلى جانب نظام مجرم قتل شعبه، فما سمعناه من دعم لثورة السوريين العادلة شيء وما رأيناه على ارض الواقع شيء مختلف بل ومناقض تمام.

تأكد السوريون بأن النظام السوري جزء من شبكة علاقات دولية تعكس صراعات كبيرة جيوسياسية واستراتيجية وحضارية تقودها القوى الغربية وتفرض سياساتها على من يتبعها في المنطقة مع شعوب المنطقة العربية والإسلامية وليس مع الأنظمة والنخب المتحكمة بالسلطة والثروة.

في الخطط الغربية يراد لهذه المنطقة أن يحكمها أشخاص ديكتاتوريون وأنظمة هزيلة تقمع شعوبها وتتبع للخارج. هذه هي إرادة بني صهيون التي تمثل رأس الحربة للسياسات الغربية في المنطقة.

يراد لهذه المنطقة ان تبقى متخلفة ضعيفة النمو يخيم فيها الجهل والخوف والقلق من المستقبل. ويراد لها أن تبقى في حالة حروب داخلية وبينية على أسس قومية ومذهبية ودينية.

المنطقة العربية والإسلامية عموماً غنية بالثروات الطبيعية والقدرات البشرية وفيها من الكثير من عوامل التوحد من تاريخ ولغة ودين وثقافة مشتركة. وأكثر ما يخشى الغرب نهوض شعوب المنطقة العربية والإسلامية وتحررها وتحقيق تقدم علمي وتكنولوجي واقتصادي حقيقي ينافس إسرائيل والغرب. فهم يرون في العرب والإسلام عدواً لهم.

لذلك جاؤوا بنظام الملالي في إيران بدلاً من شاه إيران العلماني الذي كان مخلصاً للغرب لدرجة أنه وصف بشرطي أمريكا في المنطقة، ومع ذلك مهدت الاستخبارات العالمية لنظام ديني أوتوقراطي يؤدي مهاماً أخطر من مهام شاه إيران، وهي بث النعرة الطائفية وتأسيس الميليشيات المسلحة في كل مكان وإشغال المنطقة بصراعات طائفية وقومية مسلحة بحجة زائفة ومتخلفة وهي الثأر لما جرى قبل ألف وخمسمائة سنة. هل يصدق هذا الأمر!

لذلك جلبت نفس القوى الاستخباراتية العالمية تنظيم داعش ومنظمة القاعدة إلى العراق وسوريا وهم يرفعون رايات سوداء تدعي أنها تمثل السنة زوراً وتحريفاً للواقع لأن سلوكهم إجرامي وبعيد كل البعد عن أبسط تعاليم الدين، ليقوموا بإبادة جماعية للسنة نفسها التي تشكل أكثرية المسلمين في العالم، ويجرون تغييراً ديموغرافياً، ويدعموا النظام السوري من خلال محاربة الثورة الشعبية.

أصل المخطط أمريكي غربي صهيوني وتشارك فيه إيران ونظام الأسد ودول وقوى أخرى، ويهدف للقضاء على الثورة من خلال تشويه سمعتها، علماً أن من قام بالثورة ليس لهم علاقة بالمتطرفين والمتشددين الذين ركبوا موجة الثورة هم ومعهم قوى أخرى طعنت الثورة في ظهرها وخاصة بعض قوى الإسلام السياسية والعسكرية.

ويجب أن نعترف بأن السوريين وصلوا لدرجة اليأس والإحباط الشديد بعد كل ما جرى من كوارث بحقهم، وهم يتساءلون عن أسباب وقوف العالم مع بقاء نظام المجرم الأسد وشبيحته.

صحيح ان هناك مصالح دولية اقتصادية وعسكرية وجيوسياسية واستراتيجية ولكن جوهرها حضاري معادي لشعوب المنطقة العربية والإسلامية.

لم يعد لدى السوريين ذرة من الثقة بالموقف الأمريكي والغربي عموماً، وزال الوهم عن حقيقة لا مبالاة العالم حيال قضية الشعب السوري وانتهاك حقوقه، وإبادته وتهجيره القسري، وطرد ملايين السوريين من منازلهم ليحل محلهم ميليشيات طائفية جلبتها إيران من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان. كما فقد السوريون الثقة بالدول التي كانت تصنف صديقة وشقيقة. وفقد الثقة بالنخب السياسية والعسكرية التي تتسلط على هياكل المعارضة ولا هم لها إلا الدفاع عن مصالحها الخاصة ومصالح رعاتها وضامنيها من دول وقوى أجنبية.

وصلنا إلى حالة مزرية وسورية مقسمة إلى مناطق تهيمن عليها سلطات الأمر الواقع المتشابهة فيما بينها من نظام إلى قسد إلى جبهة النصرة إلى حكومة مؤقتة وضعت نفسها بوجه الشعب السوري بدلاً من خدمة مصالحه ومطالبه.

ولكن الحقيقة الكبرى التي غابت عن بال الكثير من السوريين وغير السوريين وخاصة النخب التي تنظّر في أبراج عاجية وتنشر الأوهام بين الناس، بأن الشعب السوري هو من أشعل الثورة ضد أعتى الأنظمة ديكتاتورية ووحشية وقدم مليون شهيد وضحى بالغالي والرخيص لكي يحطم أصنام النظام ويهز كيانه ويكشف حقيقته الإجرامية، بحيث أصبح ضعيفاً هزيلاً، يتسلط على رقاب الشعب الفقير الجائع المحتاج لكل شيء من ماء وكهرباء وتدفئة ومدارس وعمل وأمان.

وهذا الشعب، الذي لا يعجب بعضهم، فقط هو القادر على إعطاء زخم للثورة من جديد. وهكذا حصل بالفعل في السويداء حيث انتفض أحرار وحرائر جبل العرب منذ أكثر من سنة رافضين الخنوع لنظام الأسد المجرم ومطالبين بدولة مدنية ديمقراطية ومتمسكين بالانتماء الوطني لسوريا الموحدة أرضاً وشعباً في ظل دولة القانون حيث يتساوى فيها المواطنون دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو المذهب أو الجنس.

كثير من النخب التنظيرية بدأت تروج للاستسلام والقبول بالأمر الواقع وبعضهم يفكر ببناء نخب جديدة وشعب جديد، وقد يستغرق الأمر 50 سنة، وهذا يعني قبول السوريين بالأمر الواقع وفي حضن الأسد المجرم. ولكنهم متوهمين ومخطئين. فالماء تكذب الغطاس. والحراك الشعبي في السويداء وفي شمال سوريا أثبتا أن السوريين قادرين على قلب المعادلة لصالحهم وانتزاع المبادرة مع ضخامة التحديات.

جاءت انتفاضة الأول من تموز في إعزاز وبقية المناطق الشمالية، والاحتجاجات في ادلب ضد تسلط وظلم الجولاني، وضد فتح المعابر في أبو الزندين وإدلب، لتثبت أن الحراك الشعبي عندما يقول كلمته تصمت الأقلام والتنظيرات.

بدلاً من العمل على إيجاد حل سياسي يحفظ كرامة السوريين وهم جديرين بها كبقية شعوب الأرض، سارعت دول عربية ومعهم تركيا للتطبيع مع النظام القاتل لشعبه. وسيستمر التطبيع ليشمل العدو الصهيوني المحتل الذي أباد قطاع غزة ليمهد للتطبيع مع العرب، فكلها سلسلة من الحلقات المترابطة لأن كاتب السيناريو والمخرج هو واحد، أمريكا. ولكنهم جميعاً ينسون أو يتناسون حقيقة أخرى وهي أنه لا يمكن خلق استقرار في سورية بوجود عائلة الأسد الفاسدة المجرمة.

واليوم يخرج إلى ساحات الكرامة حراك ثوري شعبي حقيقي يرفض التبعية لأحد، ويؤكد على ثوابت الثورة السورية وعلى الوحدة الوطنية واستقلال ووحدة سوريا أرضاً وشعباً، ويطالب بأن يكون الشعب هو من يقرر مصيره لا أن يتحدث باسمه أحد اختارته القوى الأجنبية المعادية ولا دول كشفت عن لا مبالاتها بمصير ومعاناة السوريين.

وبدأ الحراك يبحث عن بلورة حالة تنظيمية سياسية ديمقراطية، ومن واجبنا أن نقف الى جانب هذا الحراك ونمد له يد العون الأخوي الذي يحترم الرأي الاخر فلا فرق جوهري بين من هو في الداخل وفي الخارج، إذا كانت النية صادقة والقناعة عميقة بعدالة القضية، وإذا كان هناك تصميم على العمل من أجل انتصار قضية الحرية والديمقراطية في سوريا.

من واجب النخب والناشطين من أبناء الجاليات السورية في كل مكان أن تعلن صراحة عن دعمها للحراك الثوري الشعبي الوطني في السويداء والشمال وفي كل مناطق سوريا، من خلال الفعاليات الشعبية والإعلامية والسياسية ومن خلال تشكيل هيئات مهمتها تقديم كل الدعم الممكن للحراكات الشعبية في الداخل.

اليوم نحن أمام حقيقة ساطعة، وهي ضرورة الوقوف إلى جانب الحراكات الثورية الشعبية في سوريا والتلاحم معها وعدم تركها فريسة من جديد للنظام ولمن يعمل لصالحه من قوى داخلية وخارجية. فمصير الثورة السورية بكاملها على المحك.

تحية لثوار سوريا الذين يعملون ليلاً نهاراً لرفع صوت الشعب السوري الجريح المظلوم الى العالم، ويؤكدون بأن السوريين لن يتخلوا عن مطالبهم العادلة ولن يقبلوا بالتطبيع مع نظام الأسد ولن يتخلوا عن دماء شهداء الحرية والكرامة.


الكاتب الدكتور محمود الحمزة

الدكتور محمود الحمزة

أكاديمي وسياسي سوري

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة