لوحة منسية
من وحي الذكرى الثامنة لرحيل الرفيق عمر قشاش
حي البلاط.. حيث ولد وترعرع ونشأ الرفيق الفقيد عمر قشاش، هو أحد الاحياء الفرعية لحي قاضي عسكر الحي الشعبي التقليدي، الذي ترفده أحياء أخرى مجاورة في المدينة، وهي جميعها من الأحياء الشعبية المحافظة والملتزمة دينياً، وهي الصفات التي عرف بها الشعب الحلبي والتي شكلت السمة العامة لسكان مدينة حلب التي عرفت في الوسط السوري كمدينة صناعية وتجارية في الشمال السوري، وكمركز للطبقة العاملة والشغيلة المكافحة.
في هذا الفضاء الحلبي شق الرفيق عمر قشاش طريقه منذ اليفاعة فالشباب متنقلاً بين مهنة الحجارة والطباعة إلى أن استقر به المقام في مهنة الطباعة ومنها انطلق ليرسم مسارات حياته السياسية في الحزب الشيوعي السوري، ليشغل موقع عضو اللجنة المركزية وليكون نقابياً من الطراز الاول، مناضلاً جريئاً صلباً ملتزماً، مقداماً وشفافاً.
حيث استطاع وهو يحمل هذه السمات أن يخلق حوله دوائر اجتماعية شعبية ومهنية محبة رفعته إلى موقع رئيس نقابة عمال الطباعة المركزية.
هذه الصورة للرفيق عمر قشاش كثيراً ما تم الحديث عنها في الكثير من المقالات والكتابات التي تناولت سيرة الراحل، لكن مالم يتم تناوله هو دور البيئة الحلبية في كونها نموذجاً للبيئة المجتمعية والشعبية المحافظة التي كان لديها قابلية التفاعل وإمكانية التلقي وهضم الخطاب الماركسي الحداثوي الذي حمله الرفيق عمر قشاش والذي استقطب من خلاله العشرات بل المئات من الأصدقاء والمعجبين الذين انتسبوا عن طريقه إلى صفوف الحزب، وشكلوا حالة مؤثرة في الوسط الاجتماعي والسياسي أيضاً.
ما يعنينا هنا هو الإضاءة التي أطلقها الدكتور برهان غليون في كتابه الأخير، سؤال المصير حول نقطة انشغل بها الفكر الماركسي والتقًدمي عموماً، وهي تتعلق بالسؤال الذي كان ولازال مطروحاً طوال القرن المنصرم والذي يقول ما السبب الذي منع المجتمعات العربية من اللحاق بالفضاء الحداثوي الذي عم الكثير من المناطق في العالم، وقد ظهرت في الساحات الفكرية والثقافية الكثير من الأجوبة على هذا السؤال وانشغل العديد من المثقفين والمفكرين بها.
في أحد هذه الأجوبة وأهمها القول بأن الدين الإسلامي والموروث الفكري المرافق، هو من كان يشكل هذا العائق، وبسبب ذلك ظهر في فضائنا الفكري والثقافي ما يشبه الموجة للعمل على دراسة الموروث الإسلامي وتنقيته مما لحق به من تشويهات وأدلجات وتأويلات عبر التاريخ.
كانت تشكل وفق هذه المتابعات العوائق التي حالت دون الولوج إلى فضاءات الفكر الحداثوي وتطبيقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إلا أن ما قدمه برهان غليون في كتابه المذكور يضيء على السبب المركزي لهذه الحيلولة المتعلق بالاستعمار الكولونيالي نفسه وبالتالي بالجانب السياسي الخالص، وقد أضاء على الكثير من الأمثلة والوقائع التي تبرهن على ذلك.
وفي هذا السياق كانت تجربة الرفيق الراحل الحياتية في مستوياتها الاجتماعية والسياسية والنضالية تجربة عاصرناها وكنا شهود عيان على الكثير من مندرجاتها، حيث كانت الدوائر الاجتماعية والشعبية المحيطة به تنضح بالاحترام والحب والاقتناع، وكانت من الاتساع والشمول ما يؤكد ويكرس ما ذهب إليه غليون أي الفكرة التي تقول بحيوية وديناميكية الذهنية الشعبية السائدة وقابليتها لتمثل كل ما هو جديد وإن الدين في جوهره وحقيقته لم يكن عائقاً أو مانعاً وإنما الاستعمار الغربي الحديث والناعم بأدواته الفكرية والثقافية والإعلامية.
وهكذا كان عمر قشاش الشخصية الحلبية الماركسية والشيوعية، يشكل حالة حداثوية شقت طريقها النضالي والشعبي بكل أريحية ومقبولية وحب وانسجام، دون أي إعاقة أو مقاومة، بينما كان من يمثل الجانب السياسي من أذناب الغرب الصهيوني الإمبريالي الذي تعرى أخيراً بشكل فاضح، هو من كان يقاوم ويمنع ويعاقب ويقتل أمثال الرفيق عمر قشاش ورفاقه.
لروحه السلام والطمأنينة..