التصوف الفردي والجماعي بين الحرية والاتباعية
التصوف حالة تاريخية وتجارب روحانية، وأحد فضاءات الإسلام الرحبة، والمترعة بالتجارب المتعددة، وينطوي على أنماط مختلفة من الطقوسية، والروحانية، وعلى تفاوتات بين تصوف الكبار من العارفين بالله، والمؤسسين، واتباعهم من المريدين، وبين أولياء، وشيوخ، وأتباع، بين مساعي السعي نحو الوصول، والحلول، وبين أدعياء لم تكن لديهم مثل هذه التجارب الروحانية الفذة، وبين بعض من الجموع الغفيرة من الاتباع، لا يعدو تصوف بعضهم سوى بعض من الطقوس، وترداد بعض الأدعية، وبعض من الأناشيد المرقصة، وبعض من نظام للزي في بعض الجماعات، عليها بعض من العلامات المائزة للجماعة، ونظام بين الشيخ، والمريدين.
التصوف حالة جماعية بها بعض من الغموض المتمحل، والطقوسية، والعلامات، بين المرئي، واللا مرئي، وبها بعض من الاستعراضات الطقسية، والاهتزازات المرقصة، وبعض مفاهيم بعضهم، تنطوي على الجنوح الحاملُ بعض التجاوزات في اللغة والمجازات الواصفة لحالة بعضهم، ومعارجهم المتخيلة للوصول والاتحاد، على نحو مُثير.
هي حالة بها بعض من السحر الوجداني، واللغة الباطنية المجازية التي تصاول الشعرية العربية. أنساق لغوية صوفية متميزة، وعوالمها متجاوزة الإنساني واللغة الظاهرة الدينية الأصولية لأنها لغة باطنية في بنى العقيدة، والشريعة، والفقه في مذاهبه كافة، وفي بعض من المصادمات او التوترات معها، وفي تناقض مع الكلاميين من الفلاسفة المعتزلة والعقلانيين الإسلاميين الكبار!
لغة تمتح من الشعرية العربية البازخة لدى كبارها كبار المتصوفة المؤسسين، وموازية لها، في عوالمها، وتشبيهاتها واستعاراتها، وكناياتها.. الخ! في نصوص وتجاوز لها كما لدي أبو اليزيد البسطامي.
من هنا مقاربة التصوف تنطوي على مقاربات متعددة بحسب المداخل التي يريدها الباحث المتخصص، هل المقاربة التاريخية لكبار المتصوفة، أو حالات، وجماعات التصوف في مصر تاريخيا أم وضعية جماعات التصوف في مصر، وعلاقاتها بالجماعات الأخرى، في مصر والسودان والمغرب وليبيا، وبعض المجتمعات العربية؟
هل مدخله دراسة وتحليل الخطابات الصوفية لدى بعض الجماعات الصوفية، أو الخطاب الصوفي العام وسماته ومرجعياته لدى الشيوخ العارفين، ولدى الكبار المؤسسين للتصوف التاريخي؟ أم لدى مؤسسي هذه الجماعات ونسلهم، أو خلفاءهم من التابعين؟
هل مدخل درس نظام الجماعة الداخلي، وعلاقة الشيخ بالمريدين، ودرس السلوك الصوفي في الموالد، والأعياد الصوفية، وغيرها؛ أم مقاربة دوافع الانخراط في الجماعة الصوفية سوسيو- دينيًا؟
هل مدخل درس علاقة الحالة الصوفية مع التدين الشعبي، ومحمولاته، وخاصة في الريف، وبعض الحضر؟
هل مقاربة انخراط بعض الفنانين والكتاب في بعض الجماعات الصوفية، ومشايخها، ودوافعهم، ولماذا؟
* هل مدخل العلاقة بين التصوف والسياسة؟
* هل مدخل العلاقة بين الجماعات الصوفية، وجماعات الإسلام السياسي، والراديكالي، والحركة السلفية؟
* هل مقاربة التصوف بين الحرية الفردية، والضبط والاتباع داخل الجماعية المتصوفة؟
* هل مقاربة التصوف، والجوانب الطقوسية، والاستعراضات الاحتفالية المرقصة لدى بعضها، وأناشيدها، وابتهالاتها، وإيقاعاتها؟
* هل درس الطبقات الصوفية، ومراحلها، وصعودها من أسفل إلى حالة المعراج الصوفي، والحلول والاتحاد؟
* هل بحث العلاقة بين التصوف والموسيقي والغناء؟
* هل مقاربة العلاقة بين الشعر، والتصوف، ولدى أي من المتصوفة، وأيا من الشعراء العرب، وفي أي مرحلة تاريخية ومجتمع؟
* هل تحليل العلاقة بين التصوف والرواية والقصة القصيرة وخاصة في اللغة في الأدب المصري والعربي المعاصر.
* هل مقاربة سوسيو- سياسية حول النظام السياسي، والحركة الصوفية، وفي أي دولة ونظام، في السودان، أن في دولة المخزن في المغرب، في جنوب تونس، أم في ليبيا ثم المشرق العربي على سبيل المثال؟ هل هي علاقة توظيف سياسي، ما هو هذا التوظيف، وفي أي المستويات، وتجاه من؟ أو إزاء من؟
هل درس لعلاقة التصوف، ومدى توافقه أو تناقضه مع بعض المدارس الإسلامية مثل الأشعرية؟
* هل هي دراسة، وتحليل، العلاقة بين التصوف وبعض جماعاته بالمكان؟ الصعيد أم الدلتا؟ وفي أي المحافظات؟
* هل تحليل تداخل بعض الجماعات السياسية الدينية، والاحتفاء الشعبي المصري التاريخي والمستمر ببعض موالد كبار الشيوخ المتصوفة ويتداخلون فيها، كغطاءات للحضور الاجتماعي؟
* هل درس الخطاب الصوفي وعلاقته بالقيم الاجتماعية والسياسية؟
* هل مقاربة اقتصاديات التصوف، وتمويل احتفالياته، موالده، وهل يدعم المعسورين من الوسط الاجتماعي الذي تتمدد داخله بعض جماعاته؟ ما هو شكل الدعم، ومصادره؟ ما علاقة اقتصاد التصوف، والاقتصاد الرسمي، واللارسمي في الموالد الكبرى لكبار المتصوفة في مصر؟
وهل دراسة التصوف ووسائل التواصل الاجتماعي؟ السؤال الذي يطرح حول الأسئلة السالفة السرد لماذا كل هذه الأسئلة، وغيرها؟
هي أسئلة حول تعقيد ظواهر التدين الوضعي، وثمة تمايز واسع بين التدين الوضعي، والشعبي، وبين الدين؟، وأن الصوف ظواهره وجماعاته وطقوسه مركبة، وليست بالبساطة التي تتطلب الدرس التحليلي الأكاديمي، وليس في الجدل العام ومن ثم هل دراسة للتصوف والمذاهب الإسلامية لأهل الجماعة والشيعية و—- وغيرهم؟ ما علاقة الموالد الصوفية وبين الموالد المسيحية على نحو ما تم دراسة في توتر الحالة الدينية في مصر؟
الانطباعات المرسلة، وأحكام القوة الأخلاقية والسياسية ——–، أو خطاب التغريدات والمنشورات والفيديوهات الطلقة، وخطاب الصورة للمشايخ، أو بعض الكتاب والممثلين والمطربين وغيرهم بهدف إثبات حضورهم على وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف الترويج لهم، وبث صورة لإيمانهم!
من أهم إشكاليات التصوف وأسئلته هل تحول التصوف من دائرة الحرية الفردية وتجربتها الروحية في إعادة تحرير الروح من الآثام، في مساراتها، نحو الكشف والوصول، وبين التصوف كحالة جماعية داخل جماعة صوفية يحركها الشيخ العارف بالله، وفق المصطلح السائد ومن ثم التناقض، والتوترات بين حدي الحرية والاتباع.
تشكل الحالة الصوفية مثال على التناقضات بين التدين الفردي والتدين الجماعي والإيمان الفردي، وجذوره الباطنية إلى حالة إيمانية ترتكز على عمليات من التدرج في معارج التحرر الوجداني، من الشكلانية الطقوسية، وهيمنة طابعها النقلي الاتباعي على الممارسة الإيمانية والعقدية سعيا وراء حرية الروح، والذات من بعض القيود الوضعية، الاجتماعية والسياسية.
هي حالة وعمليات تحريرية للروح، والعقل الصوفي، من مثالبهم، وآثامهم وخروجهما على التدين الشعبي الوضعي للجموع الغفيرة، والجماعات المسيسة، ورجال الدين التابعين والداعمين للسلطان المتغلب – في فقه الجمهور – الذي يمثلُ سيفه أداة الحكم، وغالبا يتحرر بعضهم تاريخيا من سياجات الثنائيات الحلال والحرام والكفر والإيمان، والصالح والطالح، والخير والشر. نمط السلطان المتغلب بعضه تحرر تاريخيا من هذه الثنائيات الضدية ولم يأبه ببعضها !
من هنا كان كبار المتصوفة الكبار، ساعين لحرية إيمانهم وسعيهم عبر مدارجهم، وطبقاتهم في الانتقال من مرحلة لأخرى في طريقهم للكشف، والوصول والاتحاد، في معرفتهم الروحية لله عز وجل.
ثمة مصادر فكرية، وتجارب بعضها مستمد من التقاليد الهندية والفارسية، والباطنيات. لا شك أيضا بعض التفاعلات مع بعض كتابات ابن المقنع، والرواندي وسواهم، وبعض النزعة الاعتدالية. هذه السياقات السوسيو- ثقافية، والكلامية، والسياسية، حتى يمكن فهم عمق لهذه التجارب.
ازمة التناقضات بين التدين الفردي، والتصوف جزء منه، وبين التدين الجماعي الذي ارتبط بالدول الإسلامية الأموية، والعباسية، والفتوحات الإسلامية لبلدان، وثقافات قديمة في آسيا، والمنطقة العربية، أدت إلى تكريس مفهوم إسلام الجماعة، والجموع، على نحو أدى إلى هيمنة الاتباعية النقلية – وفق تعبير أدونيس – ونطق الولاة، والأمراء، ونمط السلطان المتغلب باسم هذه الجموع، والسيطرة عليهما، تحت حد سيفه.
من هنا يمكن فهم سعي كبار المتصوفة للتحرر من هذه الهندسات الدينية الوضعية التأويلية. في درس، وتحليل عمليات التحول الاجتماعي من تجارب المتصوفة الكبار الشخصية، إلى الجماعات الصوفية، وثنائية الشيخ، والمريد تاريخيًا. أدى ذلك إلى تحول التجربة الصوفية الشخصية المحمولة على الحرية، والمسارات الخاصة للوصول والتعرف الذاتي على الذات الإلهية تعالت وتقدست، إلى جماعة بها بعض من التنظيم بين الشيخ، والمريدين، ومن ثم بعض أنماط من الهيمنة الروحية والبطريركية الروحية، ومن ثم بعض من إتباعية روحية ونقلية من الشيخ لمريديه حتى مع بعض من حريتهم، وخاصة في ظل تنظيم الموالد، والاحتفاليات. بعض المشايخ، يتولون المشيخة الصوفية عن آباءهم المشايخ. من هنا تتقلص تجربة التصوف الشخصية، لصالح الخطاب الصوفي من المشايخ، وتأويلاتهم للمشايخ الذين انتقلت المشيخة الصوفية إليهم، عن هؤلاء المشايخ الأسلاف.
تحول التصوف من حالة روحانية “فردية” إلى ثنائية الشيخ/المريد، ثم الأتباع، والخلافة داخل الجماعة الصوفية. تحول التصوف إلى جزء من التدين الشعبي في المجتمعات العربية، والإسلامية، وتحول الجماعات الصوفية إلى حالة تصوف جماعية لدى بعض هذه الجماعات أو غالبها.
بعض الانفصال بين المتصوفة، لاسيما جموع المريدين، يساهم في إنتاج حالة من “الدروشة” التي تناهض العقل النقدي، بل وتحاصره مستوى التصوف الشعبي، وتكريس بعضُ من الميثولوجيا الشعبية، والخوارق لدى بعض المشايخ، وتشيع بين المريدين والأتباع.
من هنا تبدو دراسة الصوفية كحركة وجماعات، وفعل وتجربة فردية، وحالة جماعية من الأهمية بمكان عربياً.
المصدر: الأهرام