الشعر والمقاومة
كان الشعر عالمياً جزءاً رئيساً في ثقافة المقاومة في مواجهة الغزو والإحتلال الأجنبي، والكولونيالي، ولم يكن يرتقي من محضُ الخيال الشعري، وتمجيد الجماعة فقط – أياً كانت – والوطنية الصاعدة ضد الكولونيالية، وإنما كان أكثر تعقيداً وتركيبا وينهلُ من تجربة أكثر عمقاً، تلهمها مفاهيم الحرية، والنزعة الإنسانية الرفيعة، المحمولة على المساواة بين البشر، وقيمة العدالة، ومعها روح وطنية فياضة. لم يكن الشعر المقاوم في إبعاده الإنسانوية محضُ خطاب شعاراتي، يرمي إلى شحذُ الهمم المقاومة للاحتلال، وتعبئتها، وانما كان يخاطب الوجود الإنساني، ويتجاوز الأنى، ومشاهده، وصوره وتجاربه، ليصل إلى معارج الحرية وصولا للاتحاد بها من هنا الشعر اللحظي والحدثي في زمن المقاومة، غالباً ما تتجاوزه تحولات الزمن.
التجربة الشعرية التي ترتقي من أفعال المقاومة الباسلة تحتاج إلى التفاعل العميق، إلى ما وراء اللحظي، وتتبلور من خلال عمق التجربة، وليس التفاعل المباشر والسانح من خلال الأخبار، والصور، والمشهديات المرئية، التي قد تمثل مثيرات لحظية وسريعة.
شعرية المقاومة الحديثة والمعاصرة خاطبت الإنسان الحر، أيا كان لونه، وعرقه، وقوميته، ولغته، وبلاده، لم يكن محضُ فيض حماسي وإنما خاطب الأحرار، في تخييلاته، ونسقه اللغوي ومجازاته وجمالياته، وجوهر الوجود الإنساني.
من هنا سكن ذاكرة الشعر الكوني بعضُ من الدواوين والقصائد التي خاطبت ما وراء حركات وأفعال وبطولات المقاومة في العقل والروح الإنسانية – أياً كان تاريخها ومكانها – في مواجهة أشكال الغزو والاحتلال، وخاصة الغربي الوحشي، وإمبراطورياته.
الشعر غالبه لعب وظيفة كفاحية في التعبئة وشحذ همم المقاومين، والقوى المساندة لهم من جماعاتهم، وشعوبهم! دور هام لاينكر . في مرحلة مابعد الكولونيالية الغربية، غالبا ما شكل شعر المقاومة جزءا من تاريخ كل شعب تحرر، وأحد تعبيرات عمليات تكوين هذه “الوطنيات” آيا كانت مواقعها على الخرائط الجيوسياسية، خاصة في دول جنوب العالم ما بعد الاستقلال.
الأهم في عالمنا العربي، كان الشعر أحد روافع الروح الوطنية، ليس فقط بوصفه ديوان العرب الأثير – قبل حضور الأجناس الأدبية الأخرى – وإنما لأنه شكل الخيال العربي، وكان ولايزال أبرز مكونات الثقافات العربية، ونسيج لغوي موحد وعابر لتعددياتها.
مثل شعر الوطنية، والمقاومة، موحداً داخل كل شعب عربي من ثم لا يزال يشكلُ جزءاً رئيسا، من المناهج التعليمية التي تدرس لطلاب مدارس التعليم العام، من الشعر العمودي إلى شعرية التفعيلة، ولا تزال شعرية النثر بعيدة عن هذه المناهج، لهيمنة الذائقة الكلاسيكية، والنقلية المحافظة على واضعي هذه المناهج.
لا شك أن هذه السياسة الأدبية لواضعي مناهج الأدب وشعر الوطنية، تكرس ذائقات تقليدية، ومباشرة في شعر المقاومة والوطنية على نحو تبدو معه ذات طابع “محلي”، دون الانفتاح على الإرث الكوني لشعر المقاومة –ذو المستويات الرفيعة، والتي تتجاوز الوطنيات إلى معارج الحرية والإنسانية في جوهرها الوجودي الذي يمسُ الشرط الإنساني ذاته والذي يتجاوز ثقافات العالم، وهذا يبدو مرجعه أيضا هشاشة وطنيات ما بعد الكولونيالية، وعمليات بناء الدولة الوطنية وخاصة في عالمنا العربي، التي لا تزال في طور التشكيل، لأنها مجتمعات لم تصل في شروطها الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية – إلى بلورة مفهوم القومية، لأنها لاتزال مجتمعات مجزأة داخلياً Fragmented Societies والاستثناء مصر والمغرب.
القصيدة العمودية، والتفعيلية وتخييلاتها ومجازاتها وأنساقها اللغوية، شكلتا مركز شعر المقاومة، ولا تزالان في بعض الثقافات العربية كالسودان، واليمن مع بعض التحولات إلي أنماط أخري على سيبل المثال، إلا أن شعرية المقاومة الفلسطينية، دارت تاريخيا بين ثنائية العمودية، والتفعيلية مع بعض الإستثناءات . كانت القصيدة العمودية، وموسيقاها، ومحمولها من الشحنات النفسية هي من قاومت النزوح القسري للاحتلال الصهيوني، ثم تطورات القصيدة مع عديدين من فدوى طوفان، إلى سميح القاسم ومحمود درويش، وآخرين.
قصيدة النثر – في ذراها – كانت أكثر تركيبا، وفلسفة، في بناءها، وأنساقها اللغوية، ومجازاتها، وتجاربها الشعرية، وتخييلاتها، وخاصة لدى كبار الموهوبين وليس المشهورين . من هنا استوعبت وتمثلت تطور بعضُ من الفكر الفلسفي والسوسيولوجي والسينمائي والتشكيلي الكوني، في عالم ما بعد الحداثة وما بعد بعدها، ومن ثم عكست وحملت وصاغت عالم من التشظيات، والمشهديات وصولا إلى عالم الرقمنة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي والمشهديات المرئية علي وسائل التواصل الاجتماعي.
في عصر ما بعد الحداثة، كانت المشهدية، والسعي للفردانية والتشظيات، وعالم التفاصيل تسيطر على القصيدة حول الأنا في سعيها لفهم وجودها، وعالمها، في ظل انهيار عالم السرديات والحكايات، والأساطير الكبرى التي سيطرت على عوالم ما قبل، وما بعد الحرب العالمية الثانية.
في ظل عوالم قصيدة النثر، غابت وغامت قصائد المقاومة إلا قليلاً، وذهبت تخييلاتها وأنساقها اللغوية في التركيز على الوجود الإنساني الفردي، وأسئلته، ومقاومة الذات من اجل وجودها في الحياة، وحماية فردانيتها وخصوصيتها أمام هيمنة وتغول ثقافة الجموع الغفيرة الفعلية.
السؤال الذي نطرحه هنا ما الذي أدى إلى التراجع النسبي لشعر المقاومة، حتى في بعضُ الشعر الفلسطيني ماقبل طوفان الأقصى ؟ مرجع ذلك عديد الأسباب نطرح بعضها فيما يلي:
أولها: نضج الشعر الفلسطيني فيما وراء الشعرية النضالية المباشرة وخاصة مع أجيال مابعد محمود درويش وسميح القاسم ومجايليهم، في أعقاب تحولات المسألة الفلسطينية السياسية مابعد اتفاقية اوسلو، واضطراب الواقع الفلسطيني السياسي، وصراعاته البينية، وخاصة في ظل الصراعات الداخلية، بين قادة منظمة التحرير وسيطرت قادة فتح، واتباعاهم، وزبائنهم، في مواجهة المنظمات الأخرى، ومنظمات حماس، والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية. هذا الصراع الفلسطيني البيني، أدى إلى هيمنة روح المقاومة الدينية نسبيا في تركيبة اجتماعية تقليدية في قطاع غزة، وهو ما أدى إلى تمدد سياجات دينية نسبياً على بعض من العقل والروح الشاعرة الفلسطينية، بالنظر إلى حدود العقل الديني النقلي، وتأثيره على أية شعرية تمتح من الطابع والروح الدينية في مخيلاتها، ومجازاتها، ونسقها اللغوي.
ثانيها: تراجع اهتمامات بعض الدول العربية ومجتمعاتها وجماعاتها الثقافية ونخبها السياسية بالمسألة الفلسطينية، وخاصة في ظل “اتفاقات أبراهام”، مع بعض الدول النفطية الثرية، في ظل التناقضات بين بعض السياسات العربية الرسمية، وبين الجماعات والأحزاب الدينية مثل الأخوان المسلمين، وحماس، وغيرها من الراديكاليات الدينية، والسلفيات الجهادية جزء منها، ومن ثم ظهور ما يطلق عليه محور المقاومة أو محور المساندة وما أثاره من تناقضات وخلافات مذهبية وسياسية ورفض بعضهم له. لا شك أن ذلك أثر على شعرية المقاومة، إلا أن ثقافة المقاومة أكثر اتساعاً وتركيبا من شعرية المقاومة على أهميتها.
ثالثها: أدت عملية طوفان الأقصى، وحرب الإبادة الإسرائيلية التوراتية الرمزية والوحشية، وسياسة تحطيم البشر والحجر إلى استثارة، وتحفيز لبعض الشعرية العربية، من الشعراء الفلسطينيين، والعرب، إلا أنها في غالبها شعرية حدثية ذات طابع مرتبط بحالة المشهدية المرئية التلفازية التقليدية، والأهم من مثيرات الم المشهدية المرئية الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يشكل عديد من المحفزات للخيال الشعري، ذو الطابع المباشر كنتاج لسطوة المرئيات الرقمية والمنشورات والتغريدات، ومن ثم اللغة الرقمية، إلا أن ذلك لم يؤد إلى شعرية للمقاومة إزاء حرب الإبادة مختلفة عن أنماط الشعرية العمودية، والتفعلية، وقصيدة النثر السابقة . لا تزال هذه الأنماط هي السائدة، ويبدو أننا إزاء قصيدة حدثية في غالبها، وترتبط مباشرة بوقائع الإبادة الوحشية، والمجاعة، والحصار، والدمار! القصيدة الحدثية لا يعني أنها غير مهمة، ولكن بعضها تمرينات، سوف تؤدي في بعضها ومع عمق تمثل الإبادة إلى ارتقاءها إلى ذروة قصائد الحرية، والإنسانية، مع اختمار ونضج التجربة إلى ما وراء المباشرة الحدثية، ومشاعرها المهتاجة، والغاضبة، والصاعدة من الألم الإنساني لسياسة وأفعال الإبادة، وسيول الدم، ومشهدية المعاناة التي تناسلت وصعدت من ثنايا الشهادة، ولغة الأطفال، والموت المقيم من الاحتلال الاستيطاني الذي لا يأبه بالإنسانية، ولا الشرعية الدولية، والقانون الدولي، والحرب، والدولي الإنساني. حالة هوسية من التطرف الديني التوارتي الأسطوري المفرط، يحرك نخب إسرائيلية وحشية النزعة، تحركها أساطيرها الدينية، والسياسية في مناهضة كل ما هو إنساني وتسيّد فوقه أساطيرها التوراتية والسياسية الوحشية. كل هذه الإبادة وجنونها المفرط ستؤدي إلى تراكمات في الروح الشاعرة، ومخيلاتها، ونسقها اللغوي، ومجازاتها لتصل في إسرائها اللغوي والمجازي إلى ذروة الوصال مع قيم الحرية والإنسانية والعدالة في شرطها ووجودها الإنساني، لتبقى جزءاً من تاريخ ثقافات وشعر عالمنا، وفي قلب ديوان العرب الأثير.
المصدر: الأهرام