الحداثة والثورة السورية لدى الرفيق الدكتور عبدالله تركماني
لا خلاف على أن الثورة السورية جاءت لتكون أداة صارمة في تعرية كل ماله علاقة بوجودنا كسوريين وعرب وكائنات إنسانية، حتى لأزعم أننا بحاجة إلى كم هائل من الجهد للتمكن من الإحاطة بكل الجوانب والأوجه والمفاصل التي أضاءت عليها هذه الثورة العظيمة.
وإذ أشير إلى ذلك فإنه لا يغيب عن الذهن والإجماع أيضاً، أن هذه الإحاطة حتى تكون مطابقة للواقع، لابد أن تصدر عن فكر حر حيادي مستقل غير مؤدلج أو غير تابع لأجندة تقيد الكثير من أصحاب هذا الفكر.
وجدير بالذكر أيضاً، ولكي تكون الإحاطة ملمة بشكل مطابق للواقع، لابد من التوقف عند أدق التفاصيل في هذا الواقع لكي تكون الصورة في أكمل أحوالها، كما يقول مفكرنا ياسين الحافظ.
وبناء على ما تقدم تأتي مقالة مقومات الحداثة في العالم العربي للرفيق تركماني تعبير صارخ عن أنها تجافي الواقع الذي نعيشه وعشناه وخاصة ذاك الذي لا زلنا نتعارك معه ونتصارع، منذ أحد عشر عاماً حتى الآن.
وهي بقيت كما هو حال الكثير من رؤى ونظر المفكرين أو المثقفين العرب والماركسيين تحديداً والذين ثبّتوا، بل وأبّدوا كبعض قوانين الطبيعة والفيزياء.
المفاهيم والنظريات المنتجة خارج فضاءاتنا المجتمعية الشرقية والشرق أوسطية وكذلك بعض المفاهيم الماركسية ليقيسوا عليها آليات تطور واقعنا ويصدروا أحكامهم بناء على هذه النظرة وهذه الرؤى.
والمقالة من ناحية أخرى تحتاج إلى أكثر من مقال للتعامل معها وتبيان مواطن اللبس وضعف التدقيق التي اعترتها، وهنا سأكتفي بهذه المقاربة التي يمكن أن يعقبها مقاربات أخرى لبعض الأفكار والمفاصل الأساسية فيها، فقد بدأت المقالة بالقول: “إن السياسات العربية كانت موسومة بسلبيات عديدة من أهمها: انعدام العقلانية وكذلك انعدام الديمقراطية”.
وتذهب في الأولى إلى أن مؤدى ذلك ليس سببه إلا لأن المجتمعات العربية لم تخض مرحلة عصر الأنوار الذي مرت به الشعوب الأوروبية ولا الثورات البرجوازية والديمقراطية، وتَمَكُن النخب السياسية الاستبدادية في الثانية من إدارة أمور بلادها بعقلية ضيقة جعل منها فئات معزولة عن مختلف فئات شعبها وشجعها ذلك على ارتجال قرارات لا تتفق مع مصالح شعبها وأمتها.
وتذكرنا هذه المقاربة بأفكار الماركسية الكلاسيكية التي كانت في مرحلة ما ولدى معظم الماركسيين العرب ترقى لمستوى القوانين العلمية الكيميائية والفيزيائية التي يعتبرونها أبدية الصحة وتشكل كذلك الحقيقة المطلقة.
كمقولة الحتمية التاريخية، التي اعتْبرت الأساس الحاسم لجميع المقاربات والتحليلات لكافة الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية، والتي يتم معايرة تطور المجتمعات البشرية الأخرى بالنسبة إليها ووفق منظورها.
ففي هذا الفضاء تم إنتاج الفكر الذي يقول بحتمية التطور الكوني وفق المنظور والنموذج الغربي، الذي أنتج الثورة البرجوازية والصناعية وأنتج عصر الأنوار، والدولة القومية، وبالتالي العقلانية والعلمانية وهكذا..
إن التأمل بما قدمته المقاربة يسمح لنا القول إن السلبيتان المذكورتان، أي انعدام العقلانية والديمقراطية في مجتمعاتنا السياسية، إنما مرده وفق مقاربة الرفيق عبد الله تركماني إلى عدم مرورنا بما مرت به المجتمعات الأوروبية لإنتاج ما أنتجته هذه المجتمعات من عقلانية وديمقراطية.
وإذا تجرأنا فطرحنا السؤال التالي: لماذا لم تمر مجتمعاتنا بما مرت به المجتمعات الأوروبية؟.
فسرعان ما يأتي الجواب لأننا مجتمعات متأخرة ومتخلفة في طبيعتها وبنيتها.
وجميعنا يذكر كم من الأفكار والمقاربات أُنتجت في سبيل وصف هذا التأخر الذي اعترانا تاريخياً!!.
وهذا ما يتيح لنا أيضاً أن نستنتج أن المراد قوله حسب هذه المقاربات أن العلّة الأزلية تكمن فينا نحن مجتمعات التأخر والتخلف ومجتمعات العالم الثالث، وليس في مواطن أخرى كتلك التي عرف عنها فيما بعد كالدور المؤثر والمؤخر لتطور مجتمعاتنا كما ثبت في نظرية المركز والأطراف للمفكر سمير أمين.
ألا تذكرنا هذه المصطلحات بالكم الهائل من الأحبار التي انداحت لكي تجعلها تستقر في وعينا وتشله وتقعده عن الفعل والإبداع والمبادرة لتغيير واقعه المأزوم!؟.
وفق هذه الخلاصة، وبالرغم من سقوط مفهوم الحتمية التاريخية وثبوت خطئه وخداعة القاتل، وبالرغم من سقوط الوطن الأم لهذا المفهوم، وانكشاف كم العذابات والآلام التي سببها، وبالرغم من بطلان صحة مركزية التطور الأوروبي الديماغوجية، فلازال بعضهم أمثال الرفيق عبدالله يتكئ على مثل هذه المفاهيم لنسج مقالاته والتعبير عن رؤاه وافكاره.
لقد أثبتت الثورة السورية العظيمة فساد هذه المنظومة الفكرية والمفاهيمية وأثبتت مواطن خطورتها على وعي شعوبنا وثقافتها وفكرها وثقتها بنفسها، والتي كان همها أن تثبّت لديها واقع العجز البنيوي التاريخي المرافق لها منذ بدء دفقات الحياة الأولى فيها حاجبة عنها ما هو أهم من جميع ذلك!!.
وهو الدور الاستعماري اللصوصي النهاب الذي تمارسه هذه المراكز والدوائر الغربية عليها والتي تعرت وإلى الأبد عندما داست وبكل قذارة القيم التي دفعنا دماً ووجوداً دفاعاً عنها وحلماً بها، في سبيل مصالحها واستمرار هيمنتها وتفوقها.
وإذا بهذه المراكز وبكل صفاقة تعلن للعالم أجمع أن القوة والقوة المتوحشة فقط، هي من يصنع التاريخ ويحرك قوانين تطور البشر.
وعليه نرى أنه قد آن لشعوبنا وأمتنا أن تلتقط كل المفاهيم التي تمجد السيادة والاستقلال والحرية وتقدس بناء الذات الخاصة بعيداً عن أي أيديولوجيا ملفقة بلبوس الفكر والعلم والفلسفة المستوردتان.