لابدّ من نخب جديدة تقود عملية بناء سورية المستقبل

منذ أن فشلت القوى السياسية المنضوية تحت عنوان “القوى الوطنية الديمقراطية والعلمانية”، والتي كانت تمثل ما اصطلح على تسميته فئات النخبة في مجتمعنا، وتبوأت موقع القيادة في الثورة السورية العظيمة من خلال المجلس الوطني عام 2012، حيث انطلق الشباب الثوري آنذاك في الساحات السورية هاتفاً: “المجلس الوطني السوري يمثلني”
ومنذ أن تمكن أرباب الثورة المضادة من احتواء هذه القوى وجعلها مطية لأجنداتهم واستراتيجياتهم، وتمكنوا خلال أربعة عشر عاماً من منع الثورة من الانتصار، ودفع الشعب السوري إلى متاهات ومهاوي الذل والتهجير والتدمير والموت الذي لا يزال يحصد الأعداد المهولة من أبنائه، حتى بات خطر تقسيم الوطن قاب قوسين أو أدنى من طاولة القرارات الدولية المعبرة عن المصالح والصراعات التي تخوضها هذه الدول في المنطقة. والتي، بفضل الثورة السورية، ظهر الزيف المتمكن من سياساتها الخارجية، وانكشف وجهها الاستعماري الإبادي المتوحش، والمتمثل بـ”دراكولا العصر” نتنياهو، الذي ما زال حتى اليوم يقبض على خناق المنطقة برمتها.
منذ تلك اللحظة التاريخية، صدحت أصوات من صفوف ثوارنا تؤكد حاجة شعبنا إلى إنتاج قوى سياسية ونخب بديلة، قوى تمثل الشعب تمثيلاً حقيقياً، تنغمس في حيثيات حياته المتعددة الأوجه والمستويات، وتعبر تعبيراً دقيقاً عن متطلباته المعيشية والسياسية، وتكون صدًى مباشراً لتصوراته وأحلامه ورؤاه المستقبلية، ومساعداً أميناً في صون مرتكزات وجوده المتمثلة في السيادة والحرية في وطن واحد موحد، ومُمَكِّناً له من مواجهة كافة التحديات التي تعترض كيانيته المستقلة.
وإذا ما تأملنا المشهد الذي نعيشه اليوم بعد قلع العصابة الأسدية عن سدة السلطة، وما صدر من مواقف سياسية تم الإعلان عنها من قبل بعض الأطر السياسية التي أخذت تتفاعل مع تعقيدات وتساؤلات هذه المرحلة، التي عنونها السوريون جميعاً بمرحلة “التحرير والخلاص” من كابوس احتلال أسدي دام أكثر من نصف قرن، والتي تعبر عن نفسها بأنها قوى وطنية ديمقراطية علمانية، فإذا بها تتحالف فيما بينها وتعلن عن تشكيل كيان سياسي سمته “تماسك”، وتطالب من خلاله بإنشاء أربع كيانات إدارية سياسية في سبيل الإجابة عن تعقيدات المرحلة الراهنة في سورية المحررة مؤخراً.
وإذا أضفنا إلى هذا الكيان العلماني الديمقراطي “التماسكي” البيانَ الذي صدره الأستاذ المحامي عيسى إبراهيم، رئيس حركة الشعب في سورية في الآونة الأخيرة، والذي يطالب فيه أيضاً المجتمع الدولي أن يتدخل لينصف أحد مكونات الشعب السوري ويؤمن له الحماية الأممية في الطريق إلى إنشاء كيان خاص بهم أيضاً.
إذا تأملنا كل ذلك، نخلص إلى أنه لا بد من العودة للتأكيد على أن هذه النخب السياسية والثقافية التي لم تستطع ولم ترغب أن تعبر عن حقيقة وضمير شعبها ومجتمعها، ولم تتمكن من تمثُّل القيم الحقيقية للعلمانية والديمقراطية التي تتماهى مع بنية وحاجات وتطلعات مجتمعها وشعبها، سواء في مرحلة انطلاق الثورة عام 2011، أو في مرحلة الكنس التاريخي في الثامن من كانون الأول لعام 2024 لأسوأ طغمة عميلة احتلت سورية.
لا مفر، وفق منطق التاريخ الذي يعلمنا أنه آن الأوان للتفكير والعمل على تحفيز شعبنا وأمتنا لإنتاج نخب بديلة، نخب يتم استخلاصها من رحم هذه المجتمعات ومن جوف حراكاتها وصراعاتها وتفاعلاتها الحياتية والوجودية. وإن شعوبنا الحية، كما يعترف بها تاريخها، لا بد أنها قادرة على ذلك.