نهاية العالم الذي عرفناه!

“العالم كما عرفناه قد انتهى، والعالم الجديد تحكمه بشكل أقل قواعد راسخة، وبشكل أكبر اتفاقات وتحالفات”، هذا ما كتبه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في مقال نشرته صحيفة التلغراف البريطانية يوم السبت 5 أبريل 2025، رداً على فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسوماً جمركية بنسبة 10% على الواردات البريطانية إلى بلاده. ووصلت الحرب الجمركية التجارية لتشمل الحلفاء التاريخيين للولايات المتحدة من دول الاتحاد الأوروبي، اليابان، وكوريا الجنوبية، وكندا، وإسرائيل، ووصلت إلى مركز الحرب التجارية الصين الصاعدة بقوة إلى قمة العالم، وتم فرض رسوم جمركية وصلت إلى 145%، وواجهت الحكومة الصينية ذلك بقوة وصرامة! في ظل اضطراب الاقتصاد العالمي والبورصات وعالم – السندات… إلخ. وهو ما أدى إلى تأجيل ترامب فرض هذه الرسوم على الدول لفترة ثلاثة أشهر – 90 يوماً – للمفاوضات مع هذه الحكومات، وذلك بعد تعرض الرئيس ترامب لضغوط من قادة الأعمال ورؤساء المصارف الكبرى للتراجع عن التصعيد الكامل في الحرب الجمركية، وحتى يتم احتواء احتمالات انهيار سوق السندات، والركود الاقتصادي والتضخم الذي يخيم عالمياً، وداخل الأسواق الأمريكية. استمع ترامب وفقاً لـ “وول ستريت جورنال” إلى وزير الخزانة سكوت بيسنت، ووزير التجارة هوارد لوتينك، والرئيس التنفيذي لشركة “جي بي مورجان” تيشس جيمي ديمون، وهو ما أدى إلى قرار ترامب، خاصة أن أكثر من 75 دولة في مقدمتها اليابان طلبت التفاوض مع الحكومة الأمريكية لتخفيف الرسوم. وهو ما أعاد طرح مسألة العولمة ونهايتها: أم لا تزال سارية؟ خاصة في ظل عالم متغير على نحو مختلف عن مراحله السابقة في ظل الثورات الصناعية ما قبل الرابعة.
في ظل هذه الأجواء، يمكن تفهم ما ذهب إليه رئيس الوزراء البريطاني ستارمر: “لكننا لا نستطيع ببساطة أن نمسك بمشاعرنا القديمة في وقت يتغير العالم بهذه السرعة…” اعتبر ستارمر أن “العولمة كما كانت معهودة انتهت”.
كانت العولمة قد تراجعت نسبياً قبل السياسة الترامبية من خلال التوجهات الشعبوية واليمينية المحافظة والمتطرفة، ومحاولات العودة إلى مفهوم القوميات، وذلك كسياسة نكوصية إزاء بعض المهاجرين الأجانب وثقافاتهم وأديانهم ومذاهبهم وهوياتهم، وتمدد نسبي لكراهية الأجانب، والإسلاموفوبيا، وفشل بعض سياسات الاندماج الاجتماعي، وبروز بعض مثالب الليبرالية الغربية، من حيث عدم قبول بعض الطبقات الوسطى في فرنسا على سبيل المثال لبعض السياسات الاقتصادية التي باتت تثقل كاهل هذه الفئات، وهو ما أدى إلى حركة السترات الصفراء.
السياسة الأمريكية وفرض رسوم على الواردات من عديد دول العالم سيؤدي إلى بعض من ارتفاعات الأسعار للسلع المستوردة، وقد يؤدي إلى تخفيض الضرائب على الطبقة الوسطى الأمريكية، وإلى ركود في الاقتصاد العالمي، في ظل حرب اقتصادية مع الصين.
السؤال: هل تؤدي السياسة الجمركية الأمريكية الجديدة، وردود الأفعال من حكومات العالم التي تضررت، إلى العودة إلى مفهوم الدولة القومية التي كانت تعبيراً عن تطور حركة القوميات والرأسمالية، ثم توسعاتها الكبرى مع الثورة الصناعية الأولى والثانية، ثم الانتقال إلى العولمة مع الثورة الصناعية الثالثة؟ ما أثر الثورة الصناعية الرابعة على مفهوم الدولة القومية؟ خاصة في ظل عالم فائق السرعة والتحول، مع تغيرات كبرى يحدثها الذكاء الاصطناعي التوليدي وعالم الروبوتات على نحو متسارع جداً؟
تبدو الحرب التجارية والسياسة الجمركية لترامب وكأن العالم لم يعد كما كان؟ إلا أن المرجح في ظل انعكاساتها على الاقتصاد العالمي، من بعض الركود النسبي والاضطراب في الأسواق المالية، إلا أن ذلك جزءاً من النظرات الأولية للسياسة الأمريكية الجديدة، وردود الأفعال عليها بفرض رسوم جمركية مضادة على السلع الأمريكية. إلا أن إمعان النظر فيما وراء الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي التوليدي، ستشير إلى بعض المؤشرات التي ستجعل السياسة الجمركية الأمريكية، والسياسات المضادة لها من الدول التي فرضت عليها، تشير إلى مرحلية في مجال التأثير على صحوة القوميات والدولة القومية، وأن التطورات التقنية وعصر السرعة الفائقة ستؤدي خلال فترات زمنية وجيزة إلى انعكاساتها على مفهوم الدولة القومية والقوميات، ومن ثم ستفرض تحديات استثنائية غير مألوفة مع الدولة كمفهوم ومعنى متعالٍ عن سلطاتها، وعن أركانها ومكوناتها وأجهزتها المختلفة.
مرجع ذلك في تقديرنا عديد اعتبارات يمكن طرحها فيما يلي:
- التغيرات في مفهوم الأمة والقومية، من خلال تطور القيم الليبرالية السياسية، وتوسع الأسواق الرأسمالية على المستويات الكونية، والشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، وتداخل الأيدي العاملة من عديد البلدان في إنتاج السلع ودلالة ذلك الرمزية.
- أدت موجات الهجرة الطوعية المتتالية – ثم القسرية – منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا إلى حضور مكونات ثقافية ولغوية من الجماعات المهاجرة داخل تشكيل المجتمعات الأوروبية الغربية، وذلك كأيدي عاملة بعد الحرب، وللدراسة، أو هروباً من بعض المجتمعات الاستبدادية والتسلطية – لاسيما العربية – أو من الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية، وبعضهم هروباً من القيود على الحرية الدينية، وخاصة من بعض الأقليات الدينية أو العرقية. هذه المكونات المهاجرة التي استقرت، ومعها سياسة لم شمل العائلات – ومثالها المهاجرين من العمالة التركية إلى ألمانيا الغربية لإعادة البناء – استصحبت معها معتقداتها الدينية وهوياتها وموروثاتها في حياتها في ظل الهجرة والحصول على جنسيات هذه الدول وتمسكهم بمحمولاتهم الدينية والهوياتية.
سياسة الإدماج الاجتماعي الأوروبية لم تستطع أن تحقق أهدافها، وساهمت في تهميش وإقصاءات للجماعات القادمة من الشرق الأوسط، وفي تمدد بعض الدعاة المتشددين مع المجموعات السلفية الإسلامية وجماعات راديكالية كداعش في فرنسا، وغيرها مثل الإخوان المسلمين – في بريطانيا – وهو ما أدى إلى حالة من الصراع الهوياتي بين هذه المجموعات وبين الهوية القومية داخل هذه البلدان، وأيضاً في شيوع بعض الاتجاهات اليمينية المتطرفة، ومعها الإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب “الأكزنوفوبيا”. من ثم أدى الصراع الهوياتي إلى عدم الاندماج النسبي ضمن القوميات في هذه البلدان، ومن ثم ساهم فشل سياسة الاندماج في بعض شروخ في مفهوم القومية الواحدة الذي سيطر على مفهوم الأمة والدولة القومية.
ساهمت ثورة الاستهلاك المفرط وهيمنة حرية الاستهلاك في تسليع وتشييء الإنسان في المجتمعات الغربية، وباتت الحرية المهيمنة على السلوك الاجتماعي على نحو أثر نسبياً على مركزية الحريات الأخرى. الأهم أن التطورات في السلوك الاستهلاكي المفرط في ظل الحريات الاقتصادية الرأسمالية الواسعة أدت إلى هيمنة الشركات الكبرى وتأثيرها على بعض من السلوك الاجتماعي، من خلال التغيرات المتلاحقة التي تجريها على سياساتها الإنتاجية، وإعادة تشكيل السلوك الاستهلاكي على نحو يتسم بالتغيرات فائقة السرعة، ومن ثم يؤثر التسليع وحرية الاستهلاك نسبياً على بعض الهويات الفردية والجماعية، وبعض المفاهيم الكبرى كالقومية والهوية والحرية والدولة، لاسيما أن الدولة لم تعد قادرة، ومعها الأنظمة الليبرالية السياسية، على إيجاد حلول لعديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، في ظل الأدوار المتعاظمة للشركات الرأسمالية الرقمية الكونية الكبرى، وخاصة في المجال الرقمي والذكاء الاصطناعي التوليدي.
- أدت الثورة الرقمية إلى المساهمة في شروخ بعض الهويات ومساءلتها من بعض الأفراد الرقميين، وبعض الجموع الرقمية الغفيرة، على مستوى المجتمعات الانقسامية في المنطقة العربية، وذلك من خلال تقديم سرديات متعارضة حول الأحداث التاريخية والانطباعات المرسلة والأكاذيب، على نحو يتناقض مع بعض السرديات التاريخية السلطوية المتغيرة مع صعود كل حاكم جديد، ومعه مواليه إلى سدة السلطة، على نحو ساهم في تشوش مفهوم الهوية بين الديني والتاريخي والسياسي المتغير.
- أدت الفردية والفرد في ظل ثورة الاستهلاك المفرط والمكثف إلى ارتباط المعنى الوجودي للفرد بالاستهلاك المكثف، ومن ثم لم يعد المعنى مستمداً من السرديات الكبرى على نحو ما ساد في عصر الحداثة، وأدت مرحلة ما بعد الحداثة إلى تفكيك بعض المفاهيم ونظريات الحداثة السياسية، وفي كل المجالات من الفلسفة إلى الفنون… إلخ. ويمكن القول إن مفهوم القومية وتشكلها التاريخي/ الاجتماعي/ السياسي قد خضع إلى بعض المراجعات، وتأثر وفق الشرط ما بعد الحداثي.
في ظل الحرب الباردة وحركات التحرر الوطني، تمدد مفهوم القوميات/الوطنيات في العالم الثالث آنذاك، وخاصة في المجتمعات الانقسامية، دون توافر شروطه التاريخية، وبات أحد أبرز مفاهيم الدولة ما بعد الكولونيالية، لكن على مستوى مجازات الخطاب السياسي، مع مفاهيم الدولة والسيادة والاستقلال والتحرر الوطني والقومية العربية في منطقتنا، وعدم الانحياز… إلخ.
في أعقاب انهيار الإمبراطورية الماركسية وسقوط حائط برلين، انتهى عالم الحرب الباردة إلى ما بعده، وصعدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى قمة النظام العالمي في ظل تطوراتها العلمية وتنامي قوتها الاقتصادية والتكنولوجية في كافة المجالات. على الجانب الآخر، كان صعود آسيا الناهضة مع الصين يشكل تحدياً اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً للإمبراطورية الأمريكية.
تمثل الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي التوليدي وعالم البروبوتات تحولاً نوعياً في مسارات التاريخ الإنساني، وستؤثر على علاقة الإنسان بالروبوتات والعقل الاصطناعي التوليدي، وأثر ذلك على مفهوم الدولة والنظم السياسية، بل وعلى الثقافة السياسية والآداب والفلسفة والفنون وعلم الاجتماع والأديان والأخلاق والقيم… إلخ.
من هنا تبدو بعض الخطابات الشعبوية والقومية، وكراهية الأجانب والإسلاموفوبيا من الجماعات والأحزاب اليمينية المتطرفة، هي جزء من رهاب الخوف الهوياتي وبقايا المفاهيم الحداثية وما بعدها.
ثمة حالة من ردات الفعل السوسيو-نفسية تجاه عمليات تشكل عالم مختلف، لم يألفه الإنسان، ولا يعرفه سوى في بعض سرديات الخيال العلمي والروائي والسينمائي!
تزداد توتراً حالة ردات الفعل إزاء ثورة الرقمنة والذكاء الاصطناعي التوليدي، مع السرعة الفائقة في التغيرات في هذين المجالين، ومن ثم يحدث النكوص إلى المفاهيم القومية والشعبوية، واستدعاء الصور النمطية للآخر الديني والثقافي والعرقي في الدول الأكثر تطوراً في عالمنا.
الدور المتنامي “للروبوتات” والذكاء الاصطناعي التوليدي وتطوراتهم فائقة السرعة سيؤدي إلى طرح أسئلة جديدة واستثنائية، في ظل منافسات ضارية بين الشركات الرأسمالية الرقمية الكبرى مع الصين، وغيرها من البلدان الناهضة في آسيا، وسيؤدي ذلك إلى انعكاسات كبرى في المجالات العسكرية والسياسية والاجتماعية، وعلى سياسات الدول والطبقات السياسية الحاكمة، ومدى قدرتها على الهيمنة على مجالات تطور الابتكارات المتسارعة للروبوتات والذكاء الاصطناعي التوليدي، وفي مجال الجينات والاستنساخ الحيواني والبشري – بعيداً عن رقابات السلطات السياسية الحاكمة. من ثم تشكل بعض هذه العلامات والاحتمالات أن عالمنا في طريقه لتغيرات كبرى ونوعية، ستمس الشرط الإنساني ذاته، وأيضاً شكل النظم الاجتماعية والدولتية ووظائفها وأدوارها، وسيختفي بعضها، وستولد أنظمة جديدة، وعالم سيكون العقل والوجود الإنساني تحت اختبارات بالغة الصعوبة، وسيعتمد على مدى قدرته على تحفيز ذكائه وخبراته لمحاولة تنظيم عالم وعقل الذكاء الاصطناعي التوليدي والروبوتي وأدواره في الحياة الإنسانية.
المصدر: الأهرام