المجتمع المدني والتحول الديمقراطي

img

يعتقد بعضهم أن مهمة التحول الديمقراطي هي مسألة محض سلطوية، فإما أن تكون السلطة ديكتاتورية أو تكون ديمقراطية، وحين تكون ديمقراطية، فذلك يستتبع إنجازها لمهمة التحول الديمقراطي. سوف يصطدم ذلك التفكير باستمرار بواقع أن السلطة لا تنجز تحولاً ديمقراطياً، وأقصى ما تستطيع فعله هو فتح الطريق أمام التحول الديمقراطي.

فالديمقراطية السياسية التي يتم اختزالها بالانتخابات والبرلمان المنبثق عنها كأساس لكل البناء الديمقراطي لن تكون سوى انعكاس للواقع الاجتماعي. وحين يكون المجتمع منقسماً بعمق إلى طوائف وأعراق وقبائل، فإن الانتخابات والبرلمان وما يخرج عنه لن يكون بعيداً عن تلك الانقسامات. وهكذا نكون قد أعدنا إنتاج العلاقات الاجتماعية ما قبل الوطنية بثياب جديدة. فهل يمكن القول عن ذلك إنه تحول ديمقراطي؟

فما هو الطريق للتحول الديمقراطي؟

بدايةً، ينبغي الاعتراف أن التحول الديمقراطي ليس مسألة سياسة موجهة نحو السلطة فقط. صحيح أن السياسة الموجهة نحو السلطة شرط ضروري، فكل سياسة لا بد أن تمر بالسلطة كهدف للنقد أو الاستبدال، لكن ذلك ليس سوى أحد أوجه الطريق للتحول الديمقراطي. أما الوجه الآخر، فهو العمل في عمق المجتمع ببناء روابط وآليات اجتماعية وفق أسس حداثية ووطنية، تحل بالتدريج محل الروابط البالية التي تقف سداً بوجه التحول الديمقراطي.

هنا نصل لمفهوم المجتمع المدني ودوره في التحول الديمقراطي.

المجتمع المدني: النشأة والتطور

الصفة المدنية للمجتمع المدني عائدة لأصله اليوناني؛ فهو مجتمع المواطنين الأحرار في المدينة اليونانية الديمقراطية (أثينا). ومجتمع المدينة هذا كان جزءاً نخبوياً من المجتمع اليوناني، فالعبيد والنساء لم يكونوا ضمن المجتمع المدني اليوناني، وهو مجتمع من يمتلك صفة المواطنة.

وقد نشأت المواطنة الأولى في اليونان، وكانت تمثل امتيازاً لطبقة محددة من الشعب، وهي طبقة المحاربين الذين برزوا في المعارك، فأُعطيت لهم الأملاك، واعترفت بهم الحكومة كنبلاء يستحقون التكريم، وهم وحدهم كان لهم حق التدخل في الأمور السياسية، وعقد الاجتماعات في الهيئة التي كانت أساس الديمقراطية اليونانية (مجلس المدينة) أو (CIVITAS).

من هنا بدأت مسيرة “المجتمع المدني”، لكن ذلك ليس سوى أصل تاريخي للمفهوم. أما التطور الأكبر لذلك المفهوم فقد حدث مع الثورة الفرنسية.

خلال الثورة الفرنسية عام 1789، وبفضل التمهيد الفكري لمفكري القرن الثامن عشر أمثال فولتير، وجان جاك روسو، ومونتسكيو، ودنيس ديدرو، جرى استعادة للديمقراطية اليونانية مع توسيع مفهومها بحيث لا تعود مقتصرة على طبقة اجتماعية كما كان الحال في الديمقراطية اليونانية (المقاتلون وملاك الأراضي)، بل بدفع من البورجوازية الصاعدة، تم إدخال الشعب كله في مفهوم المواطنة مع دخول مفاهيم مثل المساواة والمواطنة الشاملة والحرية والأخوة الإنسانية. هكذا تحول المجتمع المدني إلى المجتمع الذي يحكم نفسه بنفسه عبر آليات ديمقراطية (السيادة للشعب).

لم تعد السياسة تصنع في قصور الملوك ولا خلف الجدران المغلقة، لقد أصبحت السياسة شأناً اجتماعياً عاماً عبر آليات انتخاب ممثلي الشعب انتخاباً حراً ديمقراطياً.

هذا التحول الكبير الذي طرأ على مفهوم “المجتمع المدني” يعني تحول المجتمع من رعايا مجردين من أي سلاح قانوني في مواجهة الملوك والنبلاء ورجال الدين إلى مواطنين لهم الحق في صنع السياسة وحكم الدولة عبر ممثليهم المنتخبين.

يظهر ما سبق الطابع السياسي لمفهوم المجتمع المدني إبان أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر.

المجتمع المدني الحديث: بين السياسة والإقصاء

لكن ما حصل بعد ذلك، ومن خلال تكريس الطبقات البورجوازية هيمنتها على المجتمع، أن جرى عملية مراجعة لمفهوم المجتمع المدني بعد أن تم إقصاء شرائح واسعة من المجتمع عن السياسة. وإذا استحضرنا قليلاً صورة الانتخابات الأمريكية اليوم، نجد أن السياسة قد أصبحت في الواقع حكراً على أكثر الطبقات ثراءً في المجتمع والمرتبطين بالشركات العملاقة ارتباطاً مباشراً أو غير مباشر، وأن الهامش الذي يتم تركه للغالبية الساحقة من المجتمع هو هامش ضيق للغاية، فعليه أن يختار كل أربع سنوات بين الجمهوريين والديمقراطيين، والحقيقة أنهما ليسا سوى وجهين متكاملين لعملة واحدة.

لسنا هنا في معرض نقد النظام السياسي في الولايات المتحدة خاصة أو الغرب عموماً، فقط من أجل أن نقول إن مفهوم المجتمع المدني قد تمت مراجعته وجرى اختزاله نحو نشاطات اجتماعية محدودة تتقاطع مع السياسة ضمن مساحات ضيقة لا ترتقي للقدرة على تغيير النظام السياسي أو التدخل المؤثر جدياً في آليات اتخاذ القرارات السياسية.

المجتمع المدني في سوريا: من الإحياء إلى الثورة

ونأتي بعد ذلك لمفهوم المجتمع المدني الذي نشأ حديثاً في سوريا منذ إعلان “لجان إحياء المجتمع المدني” في أيلول من العام 2000 بعد موت حافظ الأسد.

في أواخر التسعينيات، كانت هناك رغبة مترددة لدى القيادات السياسية للنظام السوري في إعادة تجديد النظام السياسي وضخ دماء جديدة فيه، لجعله أكثر انسجاماً مع التغيرات الكبيرة التي حدثت في العالم، خاصة بانهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي وانهيار الأيديولوجية الاشتراكية التي كانت مصدر الإلهام للأحزاب الشيوعية والاشتراكية، ومنها حزب البعث الحاكم.

وفي حين كان إصلاح النظام يصطدم دائماً بصنميّة حافظ الأسد التي كانت أحد مرتكزات النظام، فإن موته منح الفرصة لخليفته لوضع مسألة تجديد النظام على الطاولة. وسواء كان ذلك مجرد مرحلة انتقالية عابرة لتقديم بشار نفسه للمجتمع السوري كإصلاحي، أو كان استمراراً للشعور السابق بضرورة إصلاح النظام، فالنتيجة أنه أُتيحت الفرصة لنخب سورية للتفكير في رمي حجر في مستنقع الحياة السياسية الذي كان راكداً منذ زمن طويل بعد حملات الاعتقالات القاسية المتكررة.

نشأت لجان إحياء المجتمع المدني بهدف محاولة إحياء الحياة السياسية خارج الأطر الحزبية، وعلى هامش فكرة الإصلاح والتجديد التي كانت الغطاء السياسي لتحويل النظام الجمهوري إلى نظام وراثي. فهي في توجهها نحو المجتمع تتوجه نحو السلطة من أجل إطلاق الحريات وإرساء مفاهيم مثل حقوق الإنسان والمواطنة والديمقراطية.

أقتبس من البيان المسمى بيان الألف (وقعه ألف مثقف)، وهو أول إعلان عن لجان إحياء المجتمع المدني:

“لذلك كله، تلح الحاجة اليوم إلى إحياء مؤسسات مجتمعية واجتماعية متحررة من هيمنة السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية التي منحت نفسها جميع الصلاحيات، ومتحررة من الروابط والعلاقات والبنى التقليدية، كالمذهبية والعشائرية والطائفية، ومستقلة عنها، وذلك لإعادة إنتاج السياسة في المجتمع بوصفها فاعليته الحرة الواعية والهادفة.”

أما ما هو المقصود بتلك المؤسسات الاجتماعية الحرة، فهي النقابات والبرلمان المنتخب والإعلام الحر والأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية الحرة، كما ورد في نص الإعلان لاحقاً.

مما سبق، نجد أن استعادة مفهوم المجتمع المدني سورياً كان يعني بالتحديد استعادة الحياة السياسية الحرة وفتح الطريق أمام التحول الديمقراطي الذي يمكن أن يأتي بالتشارك بين السلطة السياسية الحاكمة وبين النخب السورية التي تقدم للسلطة برنامج التحول وتساعدها لتنفيذه في المجتمع.

وبتعبير آخر، فإن مفهوم المجتمع المدني السوري السابق كان غارقاً في السياسة إلى حد أنه يكاد يتطابق في هدفه مع التحول الديمقراطي، سوى أن لجان إحياء المجتمع المدني كانت تفكر بالإصلاح التشاركي مع السلطة وليس بإسقاط السلطة.

المجتمع المدني أثناء الثورة السورية

نأتي الآن للتعديلات التي طرأت على ذلك المفهوم أثناء الثورة السورية وخلال الأعوام الأربعة عشر السابقة حتى إسقاط النظام.

يمكن النظر للتنسيقيات الثورية كإحدى إبداعات المجتمع المدني الواعدة، سوى أن النظام السوري المتوحش انقض عليها ووضعها على ذات تصنيف المعارضة المسلحة المعتبرة إرهاباً. وخلال السنوات الأولى، استطاع توجيه ضربة قاصمة لتلك التنسيقات بعد اغتيال قياداتها وكوادرها أو سجنهم وتعذيبهم وإجبارهم على الخروج من البلاد. وهكذا اختفى الطابع المدني للثورة مع سيطرة العمل المسلح.

وفي السنوات اللاحقة، ومع خروج مساحات واسعة من البلاد عن سيطرة النظام، أُتيحت الفرصة لعمل منظمات مدنية مثل “الخوذ البيضاء” والمنظمات النسوية والإغاثية، وبدأ التمويل والتدريب الأجنبيان يحتلان مكاناً هاماً في عمل تلك المنظمات.

شيئاً فشيئاً، بدأ يتشكل مفهوم معدل للمجتمع المدني يختلف في جوهره عن المفهوم الذي أطلقته لجان إحياء المجتمع المدني.

لكن محاولة متميزة جرت لإعادة ربط مفهوم المجتمع المدني بالسياسة من خلال تجمع مدنية الذي أطلقه رجل الأعمال السوري البارز أيمن أصفري من باريس في 5 و6 حزيران عام 2023، وجمع فيه 180 منظمة مدنية سورية، مما يدل على مدى توسع العمل المدني خلال الفترة من 2011 – 2023. ومن المؤسف أن تلك المحاولة الهامة وصلت لطريق مسدود، وذلك ليس أمراً مستغرباً في الواقع.

فجميع منظمات المجتمع المدني التي نشأت خلال تلك الفترة على أنقاض التنسيقيات كانت تمتلك مفهوماً للمجتمع المدني قائماً على الفصل بين ما هو سياسي وما هو مدني. وحين طُلب منها تعديل ذلك المفهوم بربط ما هو مدني بما هو سياسي، لم تكن جاهزة في وعيها وبنيتها التي أُسست من خلال ذلك الوعي على تحقيق القفزة التي طُلبت منها من خلال “تجمع مدنية”.

أزمة المفهوم: المجتمع المدني بين السياسة والتمويل الأجنبي

وفي ندوة جمعت عدداً من الناشطين والكتاب السوريين حول المجتمع المدني السوري – الدور والتحديات منذ أيام، ظهر بوضوح ما يمكن تسميته بـ أزمة مفهومية في المجتمع المدني. فاعتبر بعضهم الأحزاب السياسية خارج نطاق “المجتمع المدني”، وكان هناك تردد وتساؤلات فيما إذا كان يمكن النظر للنقابات كجزء من المجتمع المدني. وفي العموم، فقد كان واضحاً مدى التأثر بمفهوم معدل للمجتمع المدني قائم على استبعاد السياسة بصورة كلية أو جزئية بأحسن الأحوال.

يعود جزء من انتشار المفهوم المبتسر للمجتمع المدني إلى الظروف التي مرت بها الثورة السورية واندحار طابعها المدني. أما الجزء الآخر، فيعود لتسرب المفاهيم الغربية عن المجتمع المدني عبر التمويل والتدريب.

فالطبقات الحاكمة في الغرب استطاعت ترسيخ مفهوم للمجتمع المدني يقوم على إخصائه من السياسة وقصره على الأعمال التطوعية والإغاثية والحقوقية والإنسانية. وتلك كانت إحدى الأدوات الرئيسية في عزل الشعب عن السياسة وتأمين احتكار السلطة ضمن الطبقات البورجوازية المالية والاقتصادية المهيمنة.

وبالطبع، فقد كان من الضروري نقل ذات المفهوم للدول النامية أو التي تخوض صراعات داخلية من أجل تأمين إلحاقها الاقتصادي والسياسي.

الخاتمة: عودة المفهوم السياسي للمجتمع المدني

لقد كان مطلوباً في تجمع “مدنية” الخروج على الثقافة والوعي الذي تأسست عليه معظم تلك المنظمات من خلال التمويل والتدريب، وهنا تكمن المفارقة.

ما هو مطلوب الآن هو عودة مفهوم المجتمع المدني إلى كونه يشمل بصورة رئيسية إنتاج المجتمع لآليات تنظيمية حداثية وطنية تعيد دمج الأعمال التطوعية والإغاثية والحقوقية… إلخ بما هو سياسي، بما في ذلك النشاطات السياسية من تشكيل أحزاب ونقابات حرة ومنابر سياسية فكرية وتنظيم ندوات وتجمعات وحتى المظاهرات والاعتصامات. كل ذلك ينبغي النظر إليه كجهد متكامل على طريق التحول الديمقراطي، ومن أجل إيجاد آليات دفاعية للمجتمع بوجه تغول السلطة أيضاً.


الكاتب معقل زهور عدي

معقل زهور عدي

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة