من الطائفة إلى الدولة

ثمّة فرق بين العصبية الطائفية القديمة في المشرق العربي، وبين العصبية الطائفية التي صعدت مع نهاية القرن التاسع عشر وصولًا إلى الزمن الراهن. فالعصبية الطائفية القديمة كانت نزعة اجتماعية هدفها الحفاظ على الطائفة من الذوبان في البحر الإسلامي (الطائفية المسيحية كمثال)، ولم يكن هدفها بناء كيان سياسي مستقل في ظل الدولة العثمانية القوية ذات الطابع الإسلامي. وينطبق ما هو شبيه بذلك على الطوائف الإسلامية من المذاهب الأخرى، سوى أنها لم تكن تتمتع باعتراف الدولة العثمانية الرسمي كما هو الحال مع الطائفة المسيحية، مع أن الدولة العثمانية كانت تمارس واقعيًّا براغماتية سياسية تجلّت باعتراف واقعي بالطوائف من المذاهب الإسلامية، بل والتعامل معها بشيء من التسامح كما في حالة الدروز.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى المواجهات التي جرت بين الدولة العثمانية وتلك الطائفة، قبل أن تقتنع الدولة العثمانية بترك الدروز وشأنهم مقابل درجة محدودة من الولاء للباب العالي. وحدث مثل ذلك مع العلويين بعد حملات ضدهم أسفرت عن بناء ذاكرة سلبية وعزلة عن المجتمع الشامي، لم يقطعها سوى تطور الاقتصاد مع نهاية القرن التاسع عشر، ومدّ الطرق الحديثة، ثم الانتداب الفرنسي الذي أغلق المرحلة العثمانية بصورة نهائية.
اتسمت عصبيات الأقليات الإسلامية بمخزون تاريخي إضافي وذكريات حملات العثمانيين العسكرية القاسية، لكن العصبية الطائفية المسيحية التي استطاعت لفترة طويلة بناء علاقة مستقرة مع المجتمع والدولة العثمانية، لم تسلم من حمولة ذكريات دموية جاءت بها أحداث الفتنة الطائفية الكبرى عام 1860، التي بدأت في لبنان ثم انتقلت ـ ويا للغرابة ـ إلى دمشق المعروفة بطبيعتها المتسامحة، وخلفت خمسة آلاف قتيل، وتحطيمًا ونهبًا وحرقًا لمئات المنازل في الأحياء المسيحية.
مع مطلع القرن العشرين، وخاصة مع الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية وانسحاب جيوشها من المشرق العربي، بدأت مرحلة جديدة مختلفة تمامًا من حياة العصبيات الطائفية؛ فقد أصبح متاحًا لها الخروج من العتمة إلى النور، لكنها بدت مترددة أمام مدّ الحركات القومية التي قدمت بديلًا عصريًّا للدولة والمواطنة. مع ذلك، فقد كانت العصبية الطائفية المارونية قد تبلورت مسبقًا من خلال علاقة متميزة مع الغرب، وفرنسا على وجه الخصوص، واختلطت بشعور بالتفوق الثقافي والحضاري، كما منحها دعم الغرب القوة لمواجهة مدّ الحركات القومية في بلاد الشام. وهكذا انتقلت بسرعة من الإيديولوجيا القومية العربية نحو الوطنية اللبنانية التي كانت الغطاء المناسب للعصبية الطائفية المارونية، بينما عانت العصبيات الطائفية الأخرى في بلاد الشام من التردد بين القومية العربية – التي اختلطت لاحقًا خلال العهد الفيصلي مع وطنية سورية ناشئة – وبين التعبير عن ذاتها بصورة شبه مستقلة.
وفي عهد الاستقلال وبناء الدولة السورية الأولى، بدأت العصبيات الطائفية تضعف في تعابيرها السياسية وتذوب في الدولة السورية، لكن ذلك لم يكن يعني ذوبان حضورها الاجتماعي بجذوره التاريخية العميقة.
نأتي إلى الحالة التي نحن عليها اليوم، بعد صعود غير عادي للعصبية الطائفية اعتبارًا من الستينات من القرن الماضي. وقبل ذلك وخلال الفترة الماضية، ينبغي أن نلاحظ أن انبعاث العصبية الطائفية ترافق مع الديكتاتورية العسكرية ونهاية المرحلة الديمقراطية، والتدخل الأمريكي في غزو العراق الذي منح الانقسام الطائفي بعدًا سياسيًّا ودستوريًّا، والثورة الإسلامية في إيران، وصعود الإسلام الجهادي السلفي.
لقد تكفّل كل عنصر من العناصر السابقة بالتكامل مع العناصر الأخرى وتبادل التأثير معها، بإنتاج فورة غير مسبوقة للعصبيات الطائفية، وضعت تلك العصبيات لأول مرة في تاريخ المشرق العربي الحديث في مقدمة التفاعلات السياسية الصانعة للأحداث، والتي ترسم مصائر الشعوب.
لكن ذلك لم يكن لصالح العصبية الطائفية على المدى الأبعد؛ فقد كشف بصورة فاقعة خواء تلك العصبية، ومدى تعارضها مع روح العصر، وكيف أنها تشكل قيدًا يعيد المجتمع إلى الوراء بدلًا من أن يخدم تقدمه وازدهاره.
وفي العراق كما في سورية ولبنان، لعبت الطائفية دور هدم وتمزيق المجتمع، وإفراغ الدولة من وظائفها وقوتها، وانتشار الفساد، مما أوصل تلك المجتمعات إلى حافة الانهيار.
وفي حالة حزب الله، فقد حاولت العصبية الطائفية التستر بالقضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل، في حين أنها كانت تقتات على لحم الدولة اللبنانية، وتُعمّق النظام الطائفي وتدفع به نحو الانفجار مع انهيار الدولة اللبنانية.
وفي نهاية المطاف، أظهرت العصبية الطائفية عقمها وتعارض مشروعها الطائفي مع الضرورات الأساسية لوجود الدولة التي تحفظ تماسك المجتمع وتضمن استمرار بقائه وتفتح آفاق تقدمه.
لقد ظهر واضحًا اليوم أن العصبية الطائفية لا تستطيع البقاء والحياة إلا بوجود الاستبداد والديكتاتورية والفساد، وأن وجودها مرتبط دائمًا بحبل سُرّي خارجي يجعلها تعمل لصالح دول خارجية، أو تكون مضطرة للخضوع لتلك الجهات، بغضّ النظر عن مصلحة مجتمعها ووطنها الذي تعيش فيه.
كما ظهر أيضًا أن تلك العصبية عاجزة عن حماية الأقلية التي تدّعي الدفاع عنها، وتأمين حياتها ومستقبلها بمعزل عن الفئات الاجتماعية الأخرى، وبالتضاد معها بدلًا من التوافق في دولة مواطنة تكون مظلة للجميع.
لذلك كله، فليس من المبالغة في شيء القول إن العصبية الطائفية قد استهلكت نفسها، وكشفت عن عيوبها الكامنة، وفقدت كل مصداقية أمام الأجيال الصاعدة، وهي قد دخلت طور الانحدار والاندثار مهما تخلل ذلك من آلام، وموتها هو أيضًا لحظة مخاض ولادة الدولة الوطنية؛ دولة الحق، والمواطنة المتساوية أمام القانون، دولة الحريات وكرامة الإنسان والديمقراطية.