الثقافة والاندماج الوطني: المثال المصري التاريخي

أحد الأدوار التاريخية للثقافة، ولازالت أنها أحد محفزات التقدم في جمع المجالات التقنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في التجارب الأوروبية الحداثية، والتحديثية، وما بعدها، وحتى اللحظة التاريخية الراهنة، ومحمولات التحول نحو عالم الأناسة الربوتية، والثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي.
في عصر الحداثة، وما بعدها، والمابعديات ارتبطت الثقافة بالسياسة، والتعليم، والعقل النقدي، وثقافة الأسئلة، لا ثقافة الإجابات الجاهزة، بل وأثرت على العقل الديني النقلي، من خلال تجديد الفكر الديني الغربي البروتستانتي، والكاثوليكي مع المجمع الفاتيكاني الثاني، وقلة قليلة من لاهوتيي الأرثوذكسية الشرقية. في مصر، أثرت الثقافة على نحو ما في بعض مسارات التجديد في عقل بعض النبهاء من مشايخ الأزهر الشريف من محمد عبده إلى الشيخ محمود شلتوت، وعبدالمتعال الصعيدي، ومحمد عبدالله دراز، والأستاذ الأمام أحمد الطيب وآخرين. كان انفتاح بعض الأزهريين على الحياة الثقافية، وأسئلة عصرهم، محفزا لهم على تجديد الفكر الديني المصري، ومن داخل بنيات، وسرديات الإسلام التاريخية، والفقهية والتفسيرية والتأويلية!
كانت التجربة التاريخية المصرية، تمثل معمل تجارب المشروعات المصرية والعربية للتقدم، منذ منتصف القرن الثامن عشر، وبناء الدولة الحديثة على عهدي محمد علي باشا، وإسماعيل باشا، هذا المعمل التاريخي والسياسي المصري، شكل التجارب الملهمة لعالمنا العربي، منذ الحملة الفرنسية، حتى نهاية المرحلة شبه الليبرالية، وبعدها دولة نظام يوليو 1952 في مرحلته الناصرية، ودورها القيادي في حركة التحرر الوطني العربية، والعالم ثالثية.
كان التعليم المدني الحديث، وحركة البعثات إلى أوروبا، واستعارة منظومات القوانين الأوروبية – الإيطالية والفرنسية والبلجيكية على أيدي مانوري المحامي السكندري الإيطالي – المدخل الرئيس لبناء أنظمة الدولة الحديثة، وتكوين نخب جديدة وحديثة لإدارة مؤسسات الدولة، وبناء جيش وطني مع إبراهيم باشا.
كانت الثقافة المدنية الحديثة صنّو التعليم الحديث ومحركة له، ولمناهجه وتطويرها، وأيضا أدت إلى التخطيط العمراني النسبي، للمدن الكبرى، كالقاهرة والإسكندرية والمنصورة.. إلخ، التي تحولت بحكم الانفتاح الثقافي على أوروبا، والتعدد الثقافي الداخلي إلى مدن كوزموبوليتانية، تمثل مراكز للتفاعلات الثقافية والاجتماعية، التي ساهمت في دعم مفاهيم الحرية، والاستقلال الوطني، ودولة الدستور والقانون والحق.
الأهم أن الثقافة الحديثة، وشبه الحداثية والتعليم المدني ساهما في تشكيل الحركة القومية الحاملة لمطالب الاستقلال والدستور والحريات العامة، والشخصية والمساواة بين المصريين جميعاً. من هنا كانت الثقافة شبه الحداثية، وراء الحركة الجماهيرية العظمى عام 1919 التي شكلت علامة على الاندماج القومي المصري، وصعود بعض أبناء “الطبقة الوسطى”، وخاصة من المحامين، وغيرهم الذين قادوا وشاركوا بفعالية في هذا الحدث التاريخي المركزي في مسارات التغير السياسي والاجتماعي، وكان من نتائجها دستور 1923، والأهم بناء النموذج شبه الليبرالي، الذي ساهم في تطوير العمل السياسي والحزبي، وخاصة مع حزب الوفد الذي قاد الحركة الوطنية، وأيضا حزب الأحرار الدستوريين، الذي كان معقلاً لبعض المفكرين المصريين.
كان إنشاء الجامعة المصرية، والبعثات إلى أوروبا – ومن الأزهر أيضاً – نتاج للثقافة شبه الحداثية في المدن الكوزموبوليتانية، وهي محركات للسياسة، ونتاج لثقافة الحرية والمساواة، والقومية المصرية.
من هنا كانت الثقافة شبه الحداثية، مرجعًا للنخبة المصرية المثقفة، والسياسية في الاطلاع على بعض من الإنتاج المعرفي السياسي، والفلسفي، والأدبي الأوروبي – الفرنسي والبريطاني – على نحو أدركت النخبة السياسية، والثقافية أن الثقافة العالمة هي المحرك الاساس للسياسة ومؤسساتها، وأحزابها، وأيضاً للمجتمع وفئاته الاجتماعية المختلفة عبر بعض المثقفين والصحافة، من خلال تحريكها للتعليم وسياساته ومناهجه.
لم تكن الثقافة العالمة ومنتجي أفكارها وتنظيراتها من المفكرين المصريين – وعبر الآليات المختلفة – محضُ تابع للسياسة، وإنما كانت ذات استقلالية، وقدرات تحفيزية، ودينامية للسياسة، والعقل السياسي والديني والتعليمي في البلاد. كانت الثقافة ولا تزال في تجارب الدول فائقة التطور في شمال عالمنا هي أساس إنماء وتطوير الوعي الاجتماعي، والسياسي، والعلمي، وهي التي تشكل السلوك السياسي والاجتماعي والعلمي، لأنها هي حاملة الحريات الفردية والعامة، وهي مراكز إنذار مبكر للمخاطر على هذه الحريات، وعلى مستقبل هذه الدول والمجتمعات، على نحو حفز في الانتخابات البرلمانية الفرنسية الأخيرة، إلى استشعار الخطر من نتائج الجولة الأولى للانتخابات، وتقدم اليمين المتطرف، وأثره على أنماط الحياة الفرنسية، وتقاليدها وموروثها التاريخي، والمستمر.
من الشيق ملاحظة أن هذا الوعي الذي شكلته ثقافة الحريات الفرنسية، هو الذي أدى إلى استشعار الجماعة الناخبة مخاطر وصول اليمين المتطرف إلى موقع الأغلبية في البرلمان، والحكومة. من هنا تداعت الجماعة الناخبة الفرنسية للذهاب إلى صناديق الاقتراع، للحيلولة دون وصول اليمين المتطرف إلى سدة السلطة التشريعية والحكومة، حتى لا يؤدي ذلك إلى تفاقم مشاكل سياسة الاندماج الداخلي، وأزمات أخرى سياسية مع أوروبا، والعالم المضطرب!
هذا الإدراك والوعي شبه الجمعي، بالثقافة دورها المستقل في ترسيخ قيم الحرية والمساواة والإخاء الإنساني في التقاليد التاريخية للثورة الفرنسية، وتطورات الجمهورية الفرنسية من الأولي إلى الجمهورية الخامسة وتطوراتها، كان وراءه ثقافة الحرية ذات الاستقلالية، والمحركة للسياسة، والسلوك السياسي، والثقافة السياسية الفرنسية.
لا شك أن وعي غالب النخب المصرية بالدور المستقل للثقافة الحداثية، والتحديثية، كان المحرك للسياسة، والأحزاب، وسلطات الدولة والتمايز الوظيفي بينها، والرقابات المتبادلة، وحولها ومعها رقابة الصحافة الحرة المستقلة، والرأي العام في البلاد، وأن الثقافة والحرية محركان للحركة القومية المصرية ومعها الدستور، طريقاً للاستقلال الوطني من الكولونيالية البريطانية الغشوم.
كانت القومية المصرية أحد ثمار الثقافة شبه الحداثية ومراجعها الأوروبية – الفلسفية والتاريخية والأدبية والعلمية – وارتباط الثقافة العلمية، بالعلوم الإنسانية، ومن ثم كان بعض كبار أساتذة العلوم الطبيعية والعلمية مثقفين، وذلك لتأثير الثقافة الحداثية على تكوين النخب المصرية السياسية، وغيرها.
الأهم أن الثقافة التي حركت الروح القومية المصرية – مع التحولات شبه الرأسمالية – كانت أحد أبرز علامات ومحركات الاندماج القومي المصري، وأدت من خلال التفاعلات الاجتماعية إلى دمج المتمصرين من الأجانب، وأبناء الشام في التكوين الاجتماعي المصري، وثقافته، وخصوصياته، وذلك للدور الذي قام به الشوام في الحياة الثقافية والاجتماعية، والاقتصادية المصرية.
كانت الثقافة شبه الحداثية واستقلاليتها وراء الإرث السياسي والقيمي لمفاهيم الحرية والمساواة، والتعايش والاندماج القومي في المعمل السياسي والثقافي والاجتماعي التاريخي المصري، في المنطقة.(وللحديث بقية)
المصدر: الأهرام