الرأسمالية الرقمية والروبوتات والبيروقراطية

في مراحل الثورات الصناعية من الأولى إلى الثالثة، والحداثة وما بعدها، عديد من النظريات والمفاهيم الكبرى كانت في حالة استمرارية مع التغير، وحلول اصطلاحات محمولة على نظريات سياسية، وفلسفية، وسوسيولوجية، وقانونية، ومقاربات لتحليل التغيرات في مجالات الحياة، وخاصة مع التطورات التكنولوجية، والسياسية، والاقتصادية، وأثرها على أنماط الحياة المتغيرة. في ظل الثورة الصناعية الثالثة، والشروخ التي اعتُبرت الحداثة، والتحول إلى ما بعدها أو الحداثة الفائقة وفق تنظيرات زيجمونت باومان، كانت السيولة وبعض الاضطرابات سمة تغير في الحياة الدولية، وخاصة بعد انهيار الإمبراطورية الماركسية السوفيتية، وتراجع نسبي لدور وتأثيرات الفلسفة الماركسية، ومقارباتها المنهجية والتحليلية في دراسة التغيرات الكبرى في عالم ما بعد الحرب الباردة، وهيمنة الإمبراطورية الأمريكية على عالمنا المتغير.
ثمة بعض من التجديد النسبي في المقاربات الماركسية، وخاصة حول الدولة، والنيوليبرالية الوحشية في الاقتصاد الكوني، إلا أن طبيعة التغيرات التقنية، والعلمية، والسياسية، والثقافية في عمليات التحول إلى الثورة الصناعية الرابعة، أدت إلى وضع التراث الفلسفي، والسوسيولوجي، والقانوني، والسياسي التاريخي والمتطور من عصر الحداثة وما بعدها موضعاً للتساؤل حول مدى قدرة وكفاءة بعض الفلسفات، والنظريات، والمفاهيم، والاصطلاحات على تحليل ما يتم من عمليات تغير وتحول في أنظمة وأنماط الحياة الإنسانية في عصر السرعة الفائقة، والثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي التوليدي، وعالم الروبوتات التي باتت في حالة تمدد في كل أنظمة الحياة الإنسانية. والأهم، على مفهوم الدولة القومية، ونظرياتها الفلسفية الليبرالية والماركسية، وأركانها، ومكوناتها، وأجهزتها… إلخ، وخاصة في ظل تمدد الرأسمالية الرقمية الكونية، ودورها في تغيير العالم، وميزانياتها، وأرباحها الضخمة، وأثرها على مفهوم الدولة – في المنظورات الهيجلية وما بعدها، والماركسية ومقارباتها للدولة وعلاقاتها بالهيكل الطبقي.
لم تعد الدولة تمثل الإرادة العامة كفكرة مجردة خاضعة لجهازها البيروقراطي بوضعه وفق هيجل (أهم مؤسسات الدولة)، وذلك لأن الرأسمالية الرقمية الوحشية باتت لديها من السياسات والآليات القادرة على إحداث تغيرات في الأجهزة البيروقراطية، بل والسلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، على نحو ما يحدث نسبياً في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية فائقة التطور في عالمنا.
الرأسمالية الرقمية، وشركاتها العملاقة والكونية في عصر السرعة الفائقة، جعلت النظم السياسية الليبرالية التمثيلية، وغيرها تلهث وتحاول التكيف في هياكلها وراء التغيرات فائقة السرعة في مجال التطور الرقمي، والذكاء الاصطناعي التوليدي، والروبوتات في المجالات الاقتصادية، الصناعية، والاجتماعية، والسياسية، بل وفي انعكاساتها على بعض مكونات الثقافات الغربية، وغيرها في عالمنا.
ثمة تغيرات غير مألوفة في مفهوم الدولة في ظل الرأسمالية الرقمية، حيث تمارس تأثيراتها عبر شركاتها العملاقة على استقلالية وتجرد مفهوم الدولة بوصفها تعبيراً عن الإرادة العامة والقيم العامة الراقية لدى هيجل، والمسؤولية السياسية وفق مدارس التحديث الأمريكية، أو تعبيرها عن المصالح الطبقية المسيطرة، ومن ثم دورها في الضبط الاجتماعي، والتنظيم والهيمنة السياسية، والرمزية.
الرأسمالية الرقمية الكونية باتت مؤثرة على هياكل ومؤسسات الدولة والنظام السياسي في التسلح، والأجهزة البيروقراطية، والاستخبارات، والأمن الداخلي بكافة أنظمته، وأنظمة الرقابة الداخلية، وأيضاً في سياساتها في توظيف البيانات الضخمة (Big Data)، وتحليلها وبيعها للشركات الكبرى التي تنتج السلع، وتقدم الخدمات في كل أقاليم ودول العالم. الأهم أن هذه السياسات الرقمية تؤدي إلى توسيع مجالات حرية الاستهلاك، وتجديدها المستمر، وفي توليد رغبات ودوافع، وطلب على سلع وخدمات متغيرة، بقطع النظر عن الحاجة إليها من الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة، وهو ما جعلها تؤثر على تسليع الإنسان والحياة والشرط الإنساني الوجودي.
الذكاء الاصطناعي، والرقمنة، والروبوتات ستؤدي إلى تغيرات في أسواق العمل، والوظائف، والفرص داخل المجتمعات الأكثر تطوراً، وأيضاً في الدول المتوسطة، وذلك من خلال التطورات المتلاحقة في مجال الذكاء الاصطناعي، والروبوتات. والأخطر ليس فقط إزاحة الإنسان العامل من أسواق العمل على نحو تدريجي ومتسارع في عديد الوظائف، وإنما تمدد توظيفات الذكاء الاصطناعي في كافة مجالات الفكر والإبداع والتنشئة الاجتماعية والسياسية، والتعليم، والإنتاج الفني والسينمائي، وهدم بعض البُنى الفكرية والعلمية التي تشكلت تاريخياً. ومن ثم، سيؤدي ذلك إلى تأكل النظريات والمقولات الفلسفية والسياسية والقانونية لمفهوم الدولة القومية، والليبرالية، وعلاقة الفرد بها، ومعها مفاهيم المواطنة والمجتمع المدني، بل والبيروقراطية التي سيحل محلها تدريجياً الروبوتات، والذكاء الاصطناعي التوليدي مع الرقمنة داخلها في حال عدم تنظيم الذكاء الاصطناعي التوليدي والروبوتات ووظائفهم، ووضع معايير وضوابط لاستخداماتهم علمياً وقانونياً وسياسياً.
ثمة احتمالات لسيناريوهات أخرى لإمكانية خروج تطورات الذكاء الاصطناعي عن السيطرة من الشركات أو أجهزة الدولة من خلال المغامرات، والمحاولات الفردية من بعض الأفراد، وبعض المجموعات أو العصب الصغيرة من الأجيال الأصغر سناً، أو أجيال ما بعد جيلي آلفا، وزد (Z) التي قد لا تأبه بسيطرة أجهزة الدولة أو الشركات الرقمية العملاقة، في ظل إخضاع الذكاء الاصطناعي لأنظمة رقابة وسيطرة قانونية أو سياسية أو تقنية.
ثمة احتمال ثانٍ: في ظل هذه الأنظمة الرقابية، التطور فائق السرعة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي وأنظمته، والروبوتات، قد يؤدي إلى التطور الذاتي لهم، وردود أفعالهم على الأفعال الإنسانية، ومن ثم على الأنظمة الرقابية وسياسات السيطرة عليها.
في ظل هذا السيناريو المحتمل أو المتخيل حتى الآن، سنكون أمام تحول نوعي في مفهوم الدولة القومية، وفي مكوناتها وأركانها، وأدوار ووظائف سلطاتها الثلاث، ومفهوم الإرادة العامة، والنظم الليبرالية التمثيلية. أجهزة الدولة لن تقتصر فقط على العامل البشري في التخطيط، وإدارة هذه الأجهزة البيروقراطية، وإنما هناك أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، والروبوتات، وستؤدي أدوارها في التنظيم البيروقراطي، والتخطيط، والتفكير، والإدارة. ومن ثم، سيؤثر ذلك على مفهوم الدولة ذاته، وخاصة ركن الأمة/الشعب.
من ناحية أخرى، انعكاسات الإناسة الروبوتية على أنظمة الرقابة وإنتاجها، وتوالدها الذاتي، والأهم تأثيرات التحولات التقنية الذكية الكونية على مفهوم القومية، والدولة من خلال بناء القوة الجديد والمختلف نوعياً من الدول فائقة التطور على الدول الأخرى المتوسطة، والصغيرة، والفقيرة.
لا شك أن التطورات الروبوتية وأنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي ستؤدي إلى حالات من التهميش الإنساني، والاغتراب في علاقة الإنسان بالروبوتات، والذكاء الاصطناعي، وهو ما سوف يؤثر على العقل، والحواس، والمشاعر، وخاصة في ظل عشرات، بل مئات الملايين ممن سيفقدون أعمالهم ويخرجون للبطالة في المقبل من السنوات والعقود، وليست لديهم القدرة على التكيف وظيفياً ونفسياً وسوسيولوجياً مع التغيرات المتسارعة في المجالات الروبوتية، والعقل الذكي التوليدي وتطوراته فائقة السرعة.
لا شك أن هذه التغيرات المتلاحقة ستجعل الحياة كما يعرفها البشر لن تكون كما كانت في تاريخ البشرية وثقافاتها، وإنما ستجعل كافة المفاهيم غير قادرة على تفسير ما يحدث. ثمة عالم مختلف سيطرح أسئلة وجودية على الإنسان، والمعنى، والحياة، والقيم، والثقافة، والإبداع!
بعض مظاهر الاضطراب، واللايقين تسود مجتمعات العالم، ومعها الشعبوية، وبعض النكوص لبقايا القومية، وثقافة الكراهية، ومرجع ذلك رُهاب الخوف الذي يتمدد في اللاوعي الجمعي والفردي في العالم فائق التطور، لا سيما في الغرب الذي تسيطر عليه الرأسمالية الرقمية النيو-إمبريالية المتوحشة. وفي ذات الوقت، صعود الصين، وآسيا الناهضة في ظل ثقافات وقيم صينية وآسيوية مختلفة عن القيم الغربية، وهو ما سيؤدي إلى تفاعلات مختلفة عن المراحل السابقة في تطور عالمنا. ومن المرجح أن تؤثر الصراعات في مجالات الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي التوليدي في الثقافات الصينية والآسيوية، وهو ما سوف يشكل تحديات وعقبات مع الأجيال القادمة في هذه البلدان وثقافاتها.
المصدر: الأهرام