سقط النظام، لكن الثورة لم تنتصر بعد

سقوط نظام طغمة الأسد كان الهدف الرئيسي للثورة السورية، والمرحلة الأولى التي تفتح الباب أمام السوريين للانتقال إلى المرحلة الثانية ومتابعة الطريق لتحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والحقوق، والوصول للدولة الوطنية الديمقراطية والسلطة التداولية، دولة القانون والمواطنة المتساوية، خروجاً من كل الانتماءات الضيقة والنزعات الجهوية والدينية والطائفية والإثنية، وتجاوزاً لها إلى الانتماء الوطني السوري الجامع.
لا أحد ينكر أن هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها في هيئة العمليات كان لها شرف إطلاق الرصاصة الأخيرة على جسد النظام البائد والمتهالك. لكن سقوطه بالطبع كان حصيلة تراكمية لنضالات وتضحيات وقهر ومعاناة غالبية السوريين طيلة أربعة عشر عاماً، وما كان للسياق الإقليمي والدولي من دور في تعجيل سقوطه بعد أن رُفعت عنه اليد التي كانت تحميه. وهذا لا يقودنا للتقليل من أهمية دور هيئة العمليات البطولي والكبير في ترحيل هذه اللوثة السرطانية من حاضر السوريين.
لكننا أيضاً علينا الانطلاق من الحقائق دون تزييف أو تجميل. هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها لم تكن يوماً، وخلال مسيرتها، قوى ثورية تحمل روح وخيارات وأهداف الثورة. فبعد مرور أكثر من أربعة أشهر من وجودها على رأس السلطة، لم تُعطِ أي مؤشرات حقيقية بأنها ستنتقل لإنجاز المرحلة الثانية من الثورة وتحقيق أهدافها، وتفكيك بنية الاستبداد وتخريب تربته كمقدمة لبناء حوامل وأسس الدولة الوطنية الديمقراطية. بل كل الدلائل تشير إلى أنها مشغولة بصناعة أنساق وحوامل لحكم شمولي جديد بجذره الديني والطائفي.
حتى الآن، لم تنفتح على السوريين الذين آمنوا بالثورة وحملوا أهدافها، ولم تُشركهم في صياغة التوجهات والخطوات التي تتعلق بمستقبل بلدهم، بل تعمل وفق مبدأ “مَن يحرر يُقرّر“! احتكار فعل التحرير لنفسها يعني تجاهلها لكل التكاليف العالية وتضحيات السوريين المتراكمة عبر عقود، والتي قادت لإهلاك النظام وإضعافه ونزع شرعيته وتموّته سريرياً. وللإنصاف والحقيقة، من قام بفعل وإنجاز التحرير هو الشعب السوري، دون إغفال إسهام السلطة الانتقالية فيه، والذي كان دوراً مفصلياً ومهماً في هذا السياق.
وبكل الأحوال، وبغض النظر عن الحجم والدور الذي قامت به وأدى إلى إسقاط النظام، هل يحق لها أن تُقرر عن السوريين؟ فماذا تغيّر إذا بقي قرار السوريين مُختطفاً؟ ذهب نظام كان يقرر عنهم، والآن أتت سلطة جديدة أعطت لنفسها حق التقرير عنهم أيضاً؟ مع الأسف، كل ما قامت به حتى الآن من خطوات وإجراءات هو شكلي وظاهري، تم ويتم بمعزل عن الإرادة الشعبية السورية وأهل الثورة. وهذه حقيقة عارية لا تحتاج لكثير من التبصّر لإدراكها.
من “مؤتمر النصر” الذي كان مغلقاً على الفصائل العسكرية المشاركة في هيئة العمليات، وجميعها من لون واحد، حيث خوّلت لنفسها نيابة عن السوريين وكل القوى الوطنية والثورية التي كانت جزءاً من الثورة، بتعيين رئيس الجمهورية، ثم انفردت بتشكيل الجيش. فكيف يستقيم تأسيس نواة جيش وطني سوري من فصائل لا تحمل العقيدة الوطنية السورية؟ المقاتلون الأجانب الذين انخرطوا في صفوف بعض التنظيمات الإسلامية المسلحة يحملون الفكر الجهادي والسلفي وإيديولوجيات تتناقض مع مفهوم الوطنية السورية ومع عقيدة الجيش الوطني. فهم لم يأتوا تعاطفاً مع السوريين بوصفهم مواطنين سوريين، بل لنصرة عقيدتهم العصبوية العابرة للحدود، وكل من يحملها ويتشارك معهم بها وينسجم معها. لذلك، لا تعنيهم الدولة الوطنية السورية بحدودها الثابتة.
ووجودهم في تراتبية الوظائف والمراكز القيادية في مفاصل مؤسسة الجيش، أو في أي مواقع قيادية في هرمية المؤسسات العامة، يضر بحاضر ومستقبل سورية والسوريين. فهم قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة. وفي الوقت نفسه، من الغريب والمستهجن استبعاد الجيش الحر السوري الأكاديمي المحترف، الذي انشق عناصره من ضباط وصف ضباط عن جيش النظام البائد على خلفية أهداف الثورة، وهو الأكثر خبرةً وقدرةً ووطنيةً وكفاءةً من العناصر الجهادية القادمة من خارج الحدود، لتأسيس نواة الجيش الوطني.
أما الإعلان الدستوري الذي يمتد لخمس سنوات، فهل تبقى سورية طوال هذه المدة تُدار استثنائياً بعقلية الفرد؟ العملية السياسية حسب القرار 2254 كانت مضبوطة زمنياً بمدة سنة ونصف لإنجاز مراحلها الثلاث. فما هي الغاية والحجج والمبررات الحقيقية والضرورات المقنعة لجعل مدة المرحلة الانتقالية تمتد لخمس سنوات؟ طبعاً، غير تلك التي قدمتها السلطة، فهي ضعيفة ولا تُقنع أحداً.
فكيف لما سُمي بـ “مؤتمر الحوار الوطني”، الذي أدارته السلطة ولم تتجاوز مدة انعقاده الحقيقية أكثر من خمس ساعات؟ أي مؤتمر هذا، وأي حوار بعد أكثر من نصف قرن من الاستبداد وثقله وما تركه من جراحات وندبات وتشوهات في العمارة المجتمعية السورية، لا يستغرق انعقاده أكثر من ساعات؟ أما كتابة دستور دائم، فهل يحتاج إلى خمس سنوات؟
ولماذا هذه المركزة الشديدة للقرار بيد رئيس الجمهورية خلال مدة سريان الإعلان الدستوري؟ فهو الذي يعين الوزراء ويقيلهم، وهو من يعين أعضاء المحكمة الدستورية، وهو الوحيد الذي يمكنه اقتراح تعديل الإعلان الدستوري، وهو الذي يعين أعضاء المجلس التشريعي أصالةً ونيابةً (ثلث الأعضاء يختارهم بإرادته المنفردة، والثلثين أيضاً بإرادته لكن من خلال لجنة يعينها لاختيار الأعضاء)، ولا يملك هذا المجلس أي حق رقابة على أداء الحكومة، وهو من يختار لجنة لكتابة الدستور!
رغم أن “مؤتمر النصر” لم يسمه بـ”الرئيس الانتقالي” (وهو التوصيف الصحيح والقانوني لوظيفته)، بل أطلق عليه ووصف وظيفته بـ”رئيس الجمهورية العربية السورية”، فهو من يتحكم بمفاصل العملية الانتقالية لخمس سنوات قادمة تغيب فيها إرادة السوريين، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار خلو الإعلان الدستوري من مصطلحي “الديمقراطية” و”التداول السلمي للسلطة”، وهما الحاملين الأساسيين للدولة الوطنية، إضافةً إلى حصر مصادر التشريع بالفقه الإسلامي.
فهذه المدة كافية لهندسة وبناء حوامل الدولة المستبدة برأسها الديني والطائفي، وليس التأسيس للدولة الوطنية الديمقراطية. لا يحق لهذه السلطة تغييب إرادة السوريين، ولا اعتبار سورية غنيمة فازت بها لتصنعها وتكيفها وفق عقيدتها الأيديولوجية التي تتناقض مع أهداف الثورة، ولا أن تفرض نموذجها عليها مستغلة الدين كأداة لتكريس سلطتها. فإدماج الدين في مشروع الدولة يعني الاستحواذ عليها وتحول السلطة إلى أداة قهر لتنميط المجتمع بلون واحد.
وتشكيل “مجلس الإفتاء” كان واضحاً أنه أتى في هذا السياق، وهو التأسيس لعصبية دينية لضبط المجال العام والتحكم به لتسهيل بناء حوامل وركائز الدولة الدينية. وهذا يمكننا أن نتلمسه في تصريح السيد نعيم عرق سوسي (عضو في مجلس الإفتاء) لـ”القدس العربي” في الأول من أبريل/نيسان، حيث ورد فيه:
“إن عمل المجلس ليس محصوراً في ما يتلقاه من أسئلة والإجابة عليها… من مهامنا مراقبة القوانين وقرارات الوزراء وغيرها من القرارات التي قد تصدر عن مسؤولين ويمكن أن تخالف الشريعة… والمجلس سيكون المصوب والمرشد والموجه للقرارات التي تصدر وفيها مخالفة للشريعة، سواء كانت في مسائل إدارية أو قضائية.”
وهذه إشارة واضحة وصريحة (لا لبس فيها) للتدخل بسلطة القضاء، بما يخالف ما جاء في الإعلان الدستوري!
وترافق هذا مع استحداث “الأمانة العامة للشؤون السياسية” وربطها بوزارة الخارجية للإشراف على إدارة النشاطات والفعاليات السياسية داخل الجمهورية العربية السورية، ومهمتها هي صياغة ورسم السياسات وكل ما يتعلق بالشأن السياسي. وهذا يعني تدخل هذه الأمانة في كل الأنشطة الشبابية والفكرية والمنتديات، والإشراف على عمل المؤسسات الحكومية والنقابات والاتحادات، حيث وزعت مكاتبها بالمحافظات لضبط المجال السياسي العام وحراك المجتمع. وهذا سيقود لفرض الوصاية والهيمنة عليها، بما يشبه ما كان يقوم به حزب البعث المنحل في الهيمنة على مؤسسات الدولة والتحكم فيها وبكل ما يتعلق بالشأن العام السياسي والفكري والنشاط المجتمعي.
وظيفة هذه الأمانة، حسبما ورد في قرار إنشائها المتزامن مع تشكيل مجلس الإفتاء، تكاملية معه لضبط المجال العام والتحكم بكل تفاصيل الحالة السورية، لتسهيل بناء أساسيات الدولة الدينية. وأتمنى أن أكون مخطئاً.
في مجتمع تُقدّس فيه العقائد، لا يعود بالمستطاع توجيه أي انتقاد للسلطة أو تغييرها، بسبب بنيتها العصبوية المغلقة التي لا تستجيب للتغيير. فهي لا تعدو أن تكون سلطة استبدادية قامعة تستند لشرعية القداسة، وليس للشرعية المجتمعية القابلة للانتقاد والتصويب والمراجعة.
سقوط نظام الأسد لا شك بأنه مفصَلٌ مهم في تاريخ سورية وحياة السوريين. فهو كتلة معتقة من الإجرام والوسخ الكوني، وطفرة إجرامية غير مسبوقة أتت من عصور الظلام السحيقة، النظام الأسوأ على الإطلاق عبر التاريخ. لكن لا يجب أن تأخذنا نشوة انهيار هذه اللوثة الإجرامية إلى الاعتقاد بأن الثورة انتصرت وحققت أهدافها.
الاستبداد ليس رئيساً وسلطةً فقط، بل هو منظومة عنكبوتية وبنى متكاملة ومتشعبة تمتد بخيوطها لتشبك أدق تفاصيل المجتمع والحياة العامة والمؤسسات. الاستبداد يتوضع في الفكر والوعي والثقافة والعادات والتقاليد والسلوك. لن نهزم الاستبدال إلا إذا استطعنا خلق بنى مؤسساتية سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية وقانونية وفكرية تعكس وعي الثورة وخياراتها، وتعبّر عن أهدافها بخطاب حضاري وحداثوي يتجلى في السلوك والممارسة وأنماط التفكير التي تتناقض مع البنى الاستبدادية القائمة وطبيعة المؤسسات وطريقة بنائها والوظيفة التي تؤديها.
لن نطرد الاستبداد إلا بقدرتنا على خلق مؤسسات وطنية جديدة تقدم خطاباً جديداً، وثقافةً جديدة، ووعياً وسلوكاً مختلفاً في حوامله، يناهض ويناقض كل أشكال الاستبداد بكل صوره وتجلياته، وعياً قادراً على تخريب تربته وبيئته التي يعيش فيها وينمو. وهذا يتطلب توسيع مطارح هذا الوعي وترسيخه في كل مفاصل وتفاصيل المجتمع. المعركة الرئيسية ليست مع الحكام والسلطات فقط، بل هي معركة مفتوحة في مواجهة الظلم والتسلط والاستبداد والتخلف بمختلف أشكاله وتجلياته وتشوهاته وبناه ومرتكزاته. مما يجعل من سقوط النظام شرطاً لازماً وضرورياً ونقطة الانطلاق لمواصلة التغيير المنشود وتحقيق أهداف الثورة.
الوضع السوري مُربك وهش بكل تداخلاته الداخلية والإقليمية والدولية، وبعضها يستثمر في ضعف السلطة الحالية لفرض واقع وتنازلات منها وجرها لمعاهدات واتفاقات لا تملك إجازتها (كونها سلطة غير منتخبة) لتحقيق مصالحه. عليها أن تدرك أن قوتها، التي تُحصّن مواقفها في مواجهة هذه الأطماع، هي الانفتاح على المجتمع السوري والاستقواء بالسوريين.
مسؤولية السلطة الانتقالية الآن هي:
- تحقيق السلم المجتمعي وفتح مسار العدالة الانتقالية، ومحاسبة ومحاكمة كل المجرمين الملطخة أيديهم بالدم والوجع السوري بمحاكمات علنية وعادلة، فهي المعبر الوحيد لبلسمة الجروح وتعزيز ثقة السوريين بالدولة وسلطة القانون، وعودة التماسك واللحمة المجتمعية.
- تقديم خطاب وطني جامع وعابر للانتماءات الطائفية والدينية والإثنية، لضبط هذا الانفلات الغرائزي المدمر لخطاب التحريض الطائفي وخطاب الكراهية الذي قد ينزلق بالبلاد إلى أتون حرب طائفية تقوض الوجود السوري والدولة السورية برمتها.
- إعادة النظر في الإعلان الدستوري وفي كل الخطوات الصورية التي اتخذتها بمعزل عن الإرادة السورية.
- الانفتاح على المجتمع السوري وقواه الوطنية، والسعي لتمثيل حقيقي للسوريين بوصفهم أصحاب الحق والمصلحة الحقيقية في نجاح المرحلة الانتقالية والعبور إلى الدولة الوطنية.
وشرعيتها الوطنية تُقاس بمدى انتهاجها للسياسات التي تقود لتحقيق أهداف الثورة في الحرية والحقوق والكرامة، وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية، دولة القانون والمواطنة المتساوية.