الدولة العربية وأزمات الاندماج الوطني

مشاكل الاندماج الداخلي في الدول العربية ما بعد الاستعمار الغربى لا تزال تمثل أحد أعقد مشاكل هذه المجتمعات الانقسامية بين مكوناتها المتعددة – الدينية والمذهبية والعرقية واللغوية والمناطقية، والقومية – ولم يستطع أياد الاستقلال وخلفاءهم إيجاد سياسات فعالة لإنتاج حالة من الوحدة الوطنية العابرة لهذه المكونات الأساسية، ومرجع ذلك عديد الأسباب، ومنها:
1- أن هياكل دولة ما بعد الاستقلال، وأنظمتها القانونية والإدارية، كانت جزءاً من نماذج الإدارة الاستعمارية – الحكم المباشر الفرنسي، وغير المباشر البريطاني – وهي أنظمة عكست الثقافة القانونية والإدارية، والأهم كانت جزءاً من منظورات “الأنثروبولجيا الكولونيالية” وخبرائها فى فهم مكونات هذه المجتمعات، والمكونات التي اعتمدت عليها الإدارة الاستعمارية فى إدارة شؤون هذه المستعمرات، وورثت الأنظمة الوطنية هذه التقاليد السياسية والإدارية ومحمولاتها من قلب المكونات العرقية، والعشائرية، والقبطية، والطائفية..الخ.
2- الهيمنة الرمزية لمفهوم الوطنيات فى إدراك أباد الاستقلال، وتحفيزاتهم الإيديولوجية مثل مفهوم القومية العربية لدى بعض قادة حزب البعث، فى العراق، وسوريا، وذلك كجامع وقناع سياسى فوق المكونات الدينية والطائفية والعشائرية الدينية والمذهبية، في مواجهة بعض المكونات الأخرى أياً كانت انتماءاتها الدينية والمذهبية، من خلال استراتيجيات بوتقة الصهر، اعتماداً على أجهزة الدولة القمعية “المشروعة” – الأمن والاستخبارات والجيش – لإنتاج موحدات وطنية عابرة للمكونات الأساسية، دون تمثلها سياسياً فى المؤسسات السياسية، وسلطات الدولة، على أساس المساواة الكاملة، ومبدأ المواطنة، وتكافؤ الفرص نظراً للطبيعة الشمولية، والتسلطية للنظام السياسي، التي تعتمد على التعبئة السياسية والاجتماعية، وقمع التعدديات السياسية، والثقافية، وتأميم الصراعات الاجتماعية لصالح النظام الحاكم!.
3- تضخم أجهزة الدولة البيروقراطية، وتناسلها وتمددها، فى ظل غياب أشكال مؤسسية تمثيلية تراقبها سياسياً، ومعها مصالحها الاجتماعية، التى فتحت الأواب واسعة أمام الفساد الإدارى، والسياسى، وعلى نحو أدى إلى فجوات بين هذه الأجهزة البيروقراطية، وبين المكونات الأساسية للمجتمعات العربية، وساهمت فى إضعاف قانون الدولة لصالح قوانين المكانة والنفوذ والفساد!
لا شك أن تضخم بيروقراطيات الدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية، وتمركزها حول عواصم الدول العربية، إلى إضعاف هياكل الحكم المحلى، والأشكال المختلفة اللامركزية الإداري، على نحو ترتب عليه تهميش المكونات المناطقية ومحمولاتها العشائرية والقبلية، والعرقية، والمذهبية، وهو ما انعكس على سياسات التنمية وتركيزها على بعض المناطق الحضرية دون الأخرى، وبعضها كان تعبيراً عن التحيزات السياسية للقادة السياسيين، ومثالها الساحل التونسى، وتهميش الوسط والجنوب تاريخياً، من عهد بورقيبة، وبن على، وقبائل الوسط الفعلي فى السودان دون بقية الجغرافيا العرقية والقبلية منذ الاستقلال، وبعد استقلال جنوب السودان.
4- أدت تراكمات سياسات الإقصاء والتهميش التنموي والسياسي للمكونات المجتمعية، إلى فشل سياسات الاندماج الوطني، وإن تشكل تمدد الهويات المتعددة للمكونات الاجتماعية الأساسية، في مواجهة مفهوم الوطنية ما بعد الاستقلال.
لا شك أن هذه الأسباب، وغيرها أدت إلى الانفجارات الهوياتية، وخاصة فى ظل تدين هذه الهويات ومذهبتها، وهو ما أدى إلى الصراعات الهوياتية الداخلية، وحفزت على تزايد النزاعات الداخلية، والمناطقية، على نحو أدى إلى حروب أهلية، أو نزاعات مسلحة قبل الربيع العربي وبعده!.
وهو ما برز فى الحرب الأهلية فى السودان بين الشمال والجنوب، وبين الوسط الفعلي وبين إقليم دارفور، وشرق السودان، وفى سوريا، والعراف بعد سقوط نظام حزب البعث.
لا شك أن ظواهر الفساد الإداري للدولة الوطنية ما بعد الاستقلال، أضعفت الانتماء الوطني الجامع، لصالح الانتماء إلى المكونات الأساسية الدينية والمذهبية، والقابلية والعشائرية والمناطقية، وهو ما ظهر بقوة فى أثناء الحروب الأهلية في سوريا، والعراق – مع تنظيم الدولة الإسلامية، والمنظمات الشيعية المسلحة – وفي ليبيا ما بعد القذافي، والحرب الأهلية والسودان بين الجيش، وقوات الدعم السريع!.
لا شك أيضاً أن الثورة الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي أدت إلى تحولها إلى مجالات عامة مفتوحة، تعبر هذه المكونات الدينية والمذهبية والعشائرية والعرقية واللغوية عن هوياتها، وثقافاتها، وتاريخها الخاص، وعن تصوراتها السياسية، ومصالحها داخل كل دولة عربية ومجتمعها الانقسامي – والاستثناء التاريخي المصري والمغربي – في مواجهة المجال العام السياسي المغلق، أو المحاصر بالقيود، والقمع بعد فشل الربيع العربى، ومراحل الانتقال السياسي!.
من الملاحظ أن ثورة وسائل التواصل الاجتماعى أدت أيضا إلى حالة عامة من التشظي، و”الفردية” فى ظل انهيار السرديات الكبرى الإيديولوجية، كالاشتراكية العربية، والقومية العربية، والسرديات اليسارية والماركسيةالتى سادت مع النظم السياسية الشمولية، والتسلطية والحزب والتنظيمات السياسية الواحدية التى كانت تشكل أحد أدوات هذه النظم والحكام في الهيمنة والتعبئة السياسية والاجتماعية وراء سياساتهم الداخلية والخارجية.
أدت التغيرات الجيلية، وخاصة جيلي زد وأيضاً – أبناء الثورة الرقمية – إلى تشكل إدراكات فردية، وخاصة لمفاهيم الوطن، والوطنية، والانتماء على نحو يختلف نسبياً عن الأجيال السابقة، وبقايا ثقافة التحرر الوطنى، وما بعد الكولونيالية، وانفتاح هذه الأجيال على قمم المصلحة الفردية، والنزاعات الذرائقية والدوافع نحو الهجرة إلى البلدان الأكثر تطوراً فى أوروبا، وأمريكا الشمالية – كندا والولايات المتحدة الأمريكية – بحثاً عن الفرص، أو سعياً لحياة أفضل، أو لاستكمال التعليم فى الجامعات الغربية! بل سعى بعضهم إلى مغامرات للهجرة غير الشرعية فى القوارب من جنوب المتوسط إلى شماله! من هنا تمثل التغيرات الجيلية أحد الأسباب المتغيرة فى هشاشة مفهوم الوطنيات، والانتماء الوطني في المرحلة الراهنة من الاضطراب، وتفاقم الأزمات، وموت السياسة فى العالم العربى، وخاصة دول العسر الاقتنصادى، حيث تبدو الفرص فى الحراك الاجتماعي لأعلى نادرة، أو محدودة فى ظل أزمات الطبقات الوسطى، والأغلبيات الشعبية التي تتكاثر، وتزايد معدلات الإفقار في هذه المجتمعات! لا شك أن العسر الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة في هذه المجتمعات ساهم في انسداد آفاق الارتقاء الاجتماعي، والأمل في المستقبل، في إقليم مضطرب على نحو أثر على مفهوم الانتماء الوطنى حول الدولة الوطنية، فى ظل اتساع الفجوات الاجتماعية بين الأثرياء، وبين الفئات الاجتماعية الوسطى والشعبية. خاصة أن الفئات الوسطى – وشرائحها المختلفة – كانت تشكل القاعدة الاجتماعية الداعمة للمفاهيم الوطنية بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربى، فى ظل اتساع قاعدتها، وأيضاً للتوسع في التعليم الجامعي، والعالي، ودورها في نسيج أجهزة الدولة المختلفة!.
يبدو أن تطورات الثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي، ونمو واتساع عالم الروبوتات في مجالات الحياة كافة، وما سوف يترتب على ذلك بات مؤثراً على المفاهيم السياسية التي شكلت مع القوميات، وتطور الرأسمالية الغربية، ووحدة الأسواق، وتمددها كونياً، وأيضاً مع الحداثة السياسية، وما بعد، والتي أصبحت موضعاً للمراجعات حتى داخل المجتمعات الغربية الأكثر تطوراً.
يبدو أن عمليات التحول داخل الثورة الصناعية الرابعة، أدت إلى نكوص نحو الشعبوية، واليمين المتطرف فى بعض الدول، وذلك إزاء فشل بعض أحزاب اليمين والوسط – في فرنسا مثلاً – وأيضا تجاه الأقليات العربية والمسلمة، ومشاكل اندماجها الداخلي، وهي ظواهر بات بعضها مؤثراً على بعض الهويات الدينية، وتدين مفهوم الهوية الوطنية فى المنطقة العربية لدى بعض الجماعات الإسلامية السياسية، كسلاح رمزي ضد مفهوم الوطنية ذو المحمول شبه الحداثي في التقاليد السلطوية العربية! لا شك أن ثورة وسائل التواصل الاجتماعى أدت إلى تحول الهويات الدينية والمذهبية إلى هويات رقمية متنازع عليها فى مواجهة الهويات الوطنية الجامعة!
يبدو أن حالة النزاعات الهوياتية الدينية والمذهبية ستشكل واحدة من أكثر التحديات تعقيداً للدول والأنظمة السياسية العربية فى الأجال القصيرة والمتوسطة والبعيدة فى عالم وإقليم مضطرب.
المصدر: الأهرام