مفهوم الوطنية والانتماء في عالم متحول

واحدة من المشكلات الكبرى المتفاقمة في عالمنا العربي تتمثل في أزمات الانتماء الوطني التي ارتبطت بالدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية، في ظل مجتمعات انقسامية مجزأة – دينياً ومذهبياً، وعرقياً، وعائلياً وعشائرياً وقبائلياً، ومناطقياً – تجمع هذه المكونات الأساسية منطقة جيوسياسية محددة، تم تحديد مكوناتها وحدودها على نحو اصطناعي، بعد اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 في ظل الحكم الكولونيالي – الإدارة الفرنسية المباشرة، والبريطانية غير المباشرة – أدى بعض التعليم إلى تكوين نخب جديدة صغيرة نسبياً في إعدادها بجوار النخب التقليدية للمكونات الأساسية المختلفة، وتم توظيف بعضهم في الإدارات الاستعمارية. كان تركيز الإدارات الاستعمارية في العالم العربي على توظيف مجموعات من الموظفين داخل جهاز الإدارة، وتميزت نظم الإدارة غير المباشرة البريطانية بترك النخب المحلية لإدارة شؤون هذه البلدان اليومية والإدارية والقانونية من خلال بعض المؤسسات، إلا أنها ظلت لديها اليد العليا على الصعد الأمنية، والعسكرية، وفي بعض الأجهزة الإدارية.
الطابع الانقسامي في مكونات المجتمعات العربية، أدى إلى تشكيل ذاكرات تاريخية لكل جماعة من الجماعات التكوينية، وتاريخ مواز لتاريخ المجتمع في هذه البلدان التي كانت تحت سيطرة الحكم العثماني، ثم الاستعمار الغربي الفرنسي والبريطاني والإيطالي – في ليبيا وإسبانيا لبعض الأراضي المغربية – وذلك في موازاة مع تاريخهم المشترك وخطوطه الجماعية، وخاصة مع خضوع هذه المجتمعات ومكوناتها للاحتلال الكولونيالي.
ساهمت الحركات الوطنية الساعية للتحرر في تشكيل بعض الموحدات الجماعية العابرة لهذه المكونات الأساسية، ومع ذلك ظلت بعض الانتماءات لهذه المكونات – المرجعية لدي بعضهم – جزءاً أساسياً، من تشكيل قادة بعض حركات المقاومة للمحتل الأوروبي الغاشم.
في أعقاب الاستقلال عن الكولونياليات الأوروبية وعمليات بناء الدولة الوطنية، قام بعض أباء الاستقلال وأتباعهم، بالتركيز على دعم مواقعهم في بناء أجهزة الدولة – اعتماداً على أجهزة الإدارة الاستعمارية السابقة – على بعض ممن ينتمون إلى مكوناتهم الأساسية – الدينية والمذهبية والقبلية والعشائرية والعرقية، والمناطقية – في ظل الخطاب الإيديولوجي حول الوطنية والاستقلال، والمساواة، والكفاءة، ومعاداة الاستعمار، ورأسمالية الدولة الوطنية في عديد البلدان العربية.
ركزت السياسات الاقتصادية لغالب هذه الدول على العواصم والمدن الكبرى، في مشروعاتها الاقتصادية، وفي البناء، دون الاهتمام بعدالة توزيع السياسات التنموية على المناطق كافة الريفية، والحضرية، والبوادي والمناطق الصحراوية في هذه البلدان، بعض سياسات التنمية ركزت على المناطق التي جاء من أعطافها قادة الأستقلال، ومن ينتمون إليها في أجهزة الدولة البيروقراطية والعسكرية والأمنية، على نحو أدى إلى تهميش، وإقصاءات لبعض هذه المكونات الوطنية، ومرجع ذلك بعض التوجهات الأمنية والعسكرية التي ركزت على بعض المكونات دون الأخرى في بناء هذه الأجهزة، أو في تركيبة البيروقراطية بعد الاستقلال.
لا شك أن الخلل التوزيعي في سياسات التنمية أشكال رأسماليات الدولة الوطنية، وغياب العدالة التنموية، أدى إلى تكريس الإحساس الجمعي لبعض هذه المكونات الأساسية والمناطقية بالتهميش، على نحو أدى إلى فشل نسبي في سياسات التكامل الوطني، التي اعتمدت على سياسة بوتقة الصهر، وآليات القمع السلطوي لأجهزة الدولة الأمنية والاستخباراتية والعسكرية، في دعم السياسات غير العادلة في التنمية. الأخطر أن هذه الاتجاهات السياسية السلطوية والاستبدادية لم تتح لهذه المكونات الأساسية، أن تعبر عن مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجال العام المغلق، وتمثيلها داخل أجهزة الدولة، أو مؤسساتها السياسية السلطوية التي اعتمدت على الزبائنية السياسية في ظل موت السياسة في هذه النظم السياسية الشمولية والتسلطية.
لم تستطع الإيديولوجيات السياسية للنخب السياسية ما بعد الاستقلال أن تؤسس للجوامع السياسية والاجتماعية والثقافية الوطنية العابرة للمكونات والجماعات العرقية والدينية والمذهبية، والقبائلية.. إلخ، في هذه البلدان علي الرغم من صخب الشعارات التي يوزعها جهاز الدولة الإيديولوجي، من هنا كرست نخب ما بعد الاستقلال سياسات مضادة لمبادئ المواطنة والمساواة أمام القانون.
ظل القانون وأنظمته المتعددة تعبيراً عن مصالح الفئات الاجتماعية المسيطرة التي يعتمد عليها النظام السياسي الشمولي والتسلطي كقاعدة اجتماعية، في مواجة مصالح الأغلبيات الشعبية التي ينطق النظام باسمها وتعبيره الشعاريّ عنها في خطاباته السياسية الجوفاء وكلامها الساكت والخشبي. باتت دولة القانون والحق محض شعار شكلي، بالنظر إلى الانفصال بين القانون وسياسات التشريع، والتنمية، وتحول إلى آلة ضخمة لإنتاج التشريعات ذات الوظيفة الجنائية والعقابية، لاعتبارات أمنية واقتصادية محضة.
أدت هذه الظواهر، إلى ظهور وهيمنة بعض المجموعات الدينية والمذهبية والطائفية والعشائرية على مؤسسات الدولة وأجهزتها، على نحو كرس اللا مساواة، والإقصاءات، والتهميش السياسي والاجتماعي، وهو ما أثر سلبا على بناء مفهوم الوطنية في الوعي الاجتماعي الجمعي والسياسي المعتقل، وغياب المواطنة، في ثنايا وتفاصيل الحياة والتشريع وسياسة اللاسياسة، وهو ما أدى إلى تنشيط الثقافات الخاصة لكل مكون من مكونات المجتمعات الانقسامية العربية.
ساهمت هذه السياسات الدينية والمذهبية، في التوظيف السياسي والمذهبي للدين في التشويش على مفهوم الوطنية العابر للانتماءات الدينية والمذهبية والخلط بين مفاهيم الايمان الديني وبين مفاهيم الوطنية والانتماء بين الديني والوطني. أدى التوظيف السياسي للدين سلطويا، ومذهبياً وطائفيا إلى توظيفات مضادة من بعض الجماعات السياسية الإسلامية والطائفية – المسيحية في لبنان – في مواجهة مفهوم الوطنية لصالح الفكرة الإسلامية الجامعة – ودولة الخلافة والدولة الإسلامية – وهو ما ساهم في إضعاف الفكرة الوطنية، لدى قطاعات واسعة من الأغلبيات الشعبية، في ظل أنماط التدين الشعبي في المجتمعات العربية.
أدت هذه التغيرات إلى هيمنة حس ووعي اجتماعي جمعي لدى المكونات المهمشة – دينياً ومذهبياً وعرقياً وعشائرياً..الخ – بهوياتها الخاصة، وتاريخها المتمايز عن التاريخ الوطني نسبياً، ومن ثم إلى صراعات هوياتية ضارية، وإلى حالة من الحرب الهوياتية المتخيلة، بقطع النظر عن لا تاريخيتها، وتجاوزاتها عن المشركات العابرة لهذه المجموعات على الصعد الوطنية الجامعة، وخاصة في ظل الضعف والهشاشة الهيكلية للدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية، وعدم قدرة النخب السياسية المتعاقبة على بناء سياسات للتكامل الوطني حول هوية جامعة عابرة لمكوناتها الأساسية.
أدت تحولات ثقافة الإستهلاك المفرط بديلاً عن السياسة المعتقلة – وضعف مؤسسات وسياسات التنشئة الاجتماعية والسياسية السلطوية – إلى تفاقم أزمات الانتماء الوطني، لصالح عمليات التحول إلى الفردانية، والمصالح المرتبطة بها، في ظل غياب الحياة السياسية المفتوحة على التعدديات، والتعبير عنها، وتمثيلها لمصالحها في المؤسسات السياسية السلطوية، وفي ظل إغلاق المجال العام السياسي.
أدت سياسات التعليم، وإنشاء المدارس والجامعات الأجنبية الخاصة – لأبناء الميسورين، في غالبية البلدان العربية – إلى المزيد من الانقسامات، بين “المواطنين” والتمايز الاجتماعي بينهم، وهو ما أثر سلباً على الوحدة الوطنية، واللغة العربية كجامع مشترك بين الأجيال المختلفة من طلاب المدارس والجامعات الأجنبية الخاصة، وباتت تمثل مؤسسات لإنتاج التمايزات، والانقسامات “الطبقية”، والاجتماعية.
من ناحية أخرى أدت ثقافة الاستهلاك المفرط إلى تفكك في بعض الانتماءات الجماعية، إلى أنماط من التذري، والتشظي “الفردي”، وبعض من اللامبالاة النسبية بالقضايا الكبرى الوطنية، وفي ذات الوقت تزامن هذه التوجهات حول رغبات ودوافع الذاتيات “الفردية”، ومصالحها الاستهلاكية – أياً كانت قدراتها الاقتصادية علي الوفاء بمطالبها الاستهلاكية المفرطة – مع نهاية عالم السرديات الكبرى حول الإيديولوجيات السياسية الكبرى، والمفاهيم الوطنية ما بعد الاستقلال، وتفككها، وعدم تمثل الأجيال الشابة لها – جيل زد وألفا – في ظل الحياة الرقمية. من هنا باتت قضايا الانتماء الوطني، والوطنيات العربية المتعددة – التي لم تستكمل بعض شرائطها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدولية – لم تعد تشغل اهتمامات ومصالح هذه الأجيال وفي مواجهة تحدي انفجار مشكلات عديدة وطنية وطبقية وفردية، وايضاً على مستوى الوعي السياسي المأزوم وموت السياسة، والوعي الاجتماعي والثقافي المضطرب والمشوش!. لا شك أن هذه الوضعيات المأزومة، والوعي المشوش – في ظل ثقافة السطحية والرداءة الرقمية والفعلية – تحتاج إلى إعادة تأهيل مؤسسات التنشئة التعليمية، والسياسية، والثقافية في غالب البلدان العربية.