الحياة الرقمية.. وثقافة السطحية والاستهلاك المفرط

أدى طوفان خطابات المنشورات، والتغريدات، والصور والفيديوهات الومضات على الحياة الرقمية إلى ثقافة التسطيح والأكاذيب، والنظرات الخاطفة، والانطباعات، والآراء المرسلة، دونما عمق، أو معلومات تستند إليها، وإلى حالة هوسيّة من إطلاق الفتاوى الأخلاقية، أو السياسية، أو الدينية والمذهبية فائقة السرعة، دونما حد أدنى من التأنى والتبصر، ومراعاة خصوصية ثقافة وديانة ومذهبية الآخر المختلف ونظامه القيمي والأخلاقي ونظرته للعالم والوجود الإنساني، وسطوة حالة من اليقين الزائف، على بعض الجماهير الرقمية الغفيرة، وخاصة على الحياة الرقمية العربية وارتحالاً من حياتها الفعلية. ثقافة السطحية والأكاذيب، حملت فى أعطافها أنماط من استعراضات الذات عبر الصور والفيديوهات الطلقة، التى حلت بديلاً عن الذات الفعلية.
ثمة تركيز من الجموع الرقمية الغفيرة على الوقائع اليومية، والتعليق عليها من مشاهداتها، أو صورها، أو على تصرفات بعض الفنانين، والفنانات الخارجة عن المألوف، فى استعراضات نظام الزي، أو الأقوال المحمولة على السخرية، والسطحية، والتفاهة، والمعبرة عن ضحالة الثقافة، والوعي، أو السلوكيات الفعلية الفظة! أو قصص الطلاق والزواج لهم/هن وابناءهم.. إلخ.
تحولت الجموع الرقمية الغفيرة إلى سلطة إفتائية في كل القضايا، والمشكلات والأزمات، وهيمنة آراء التفاهة والأكاذيب على سلوكهم الرقمي، بقطع النظر عن مستويات تعليمهم، وانتماءاتهم الاجتماعية، بالنظر إلى ضحالة وسطحية عمليات التعليم، والتنشئة الاجتماعية والسياسية والدينية لهم، وتراجع الطلب على الثقافة، والمعرفة في الوعي الاجتماعي والسياسي المتخلف لهم. لا شك أن تجليات ثقافة السطحية والأكاذيب والادعاءات المسيطرة على الحياة الرقمية أدت إلى تراجع القراءة العميقة الورقية والرقمية -والاستثناءات محددة جداً-، ومن ثم إلى حالة اللامبالاة بأية كتابات ذات طبيعة علمية ومعرفية وفلسفية ولغوية وجمالية، ونقدية، لصالح ما سبق أن أطلقنا عليه النظرات والقراءات الومضيات فائقة السرعة، ومعها التعليقات الومضات، والتفضيلات، حتى وإن كانت النظرات لم تستوعب الكتابة الومضية على المنشورات، أو التغريدات، بل والصور، والفيديوهات فائقة السرعة، والإيجاز البصري، وهو ما يبدو في بعض الأحيان متناقضاً على ما تم التعليق عليه، سواء أكان من خلال اللغة المحتشمة، أو العارية والبذئية، أو الفتاوى الدينية الوضعية، أو استخدام نصوص أو سرديات دينية ماضوية موروثة لايعرفون سياقاتها ودلالتها الشرعية أو اللاهوتية، أو من خلال إحكام القيمة الأخلاقية، والقيمية المنفلتة عن مساراتها وسياقاتها ومواضعها!
أدت ظواهر السطحية، إلى هيمنة الأكاذيب والتفاهات، ومعها ثقافة الرداءة التي أدت إلى تراجع، ونهاية المثقفين النقديين الكبار، وأدوارهم السياسية والاجتماعية، ومعهم المتخصصين، والخبراء في عديد المجالات، سواء على الصحافة التقليدية، والقنوات الفضائية، التي باتت ترفض وتنبذ التحليل العميق، لصالح الآراء السريعة والسطحية التي تتماشى مع السياسة التحريرية، والإعلامية لكل صحيفة، أو قناة إخبارية، والجهات التابعة لها من دول، أو رجال أعمال في المنطقة العربية.
من الملاحظ أيضا أن الإغراق في الشؤون المحلية والإقليمية، ومشاكلها، أكثر من الانفتاح على القضايا العالمية السياسية والعلمية والتقنية والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية على تعددها، وتنوعها، ومساسها بالحياة الكونية للبشر أيا كانت انتماءاتهم الوطنية، والدينية والمذهبية والثقافية، والجيوسياسية!
ثمة نزعة عارمة على الحياة الرقمية في كل بلد عربي للتركيز على القضايا والوقائع السياسية والاجتماعية المحلية والمناطقية والشخصية، والأسرية والعائلية، والدينية والمذهبية، والعرقية، وقضايا النزاع على الهويات المتنازعة ومن ثم أصبحت تعبيرًا صارخاً عن عمق الأزمات الهيكلية في المجتمعات العربية.
من الشيق ملاحظة أن الأجيال الأكبر سناً والشابة -زد وألفا- باتت غالبيتهم تركز على المنافسات الكروية الداخلية، أو بين الفرق الأوروبية الكبرى، ومعها تحيزاتهم المفرطة لهم، ولبعض اللاعبين الكبار، والمدربين لهذه الفرق، وباتت كرة القدم تمثل الشغل الشاغل للجماهير الفعلية والرقمية الغفيرة، ومعها تحيزاتهم الكروية، ومنافساتها على الحياة الفعلية، والرقمية، وذلك كأحد أشكال المتعة الكروية وقضاء أوقات الفراغ وهو امر بات كونياً في مجتمعات تسودها ثقافة العمل والكفاءة والمسئولية، وعربياً باتت مساحة للانشغال عن المشاكل الكبرى والشخصية التي تواجه مجتمعات لاتسودها ثقافة العمل، وتواجهها مشكلات متفاقمة، ولا تجد حلاً لها!
هذه التحولات في الحياة الرقمية، وقوائم اهتماماتها المتغيرة في سرعة فائقة أدت إلى إحداث تسطيح في الآراء، والأفكار، والقضايا، وإلى حالة من اللا مبالاة بالمعرفة، وإلى تسليع السلوك الرقمي على الحياة الافتراضية، من خلال السعي نحو التفضيلات للمنشورات، والتغريدات، والصور، والفيديوهات فائقة السرعة Reels من خلال إعداد وصفات الطعام، من ثقافات المطابخ العربية – على تعددها وتنوعها – والآسيوية والإيطالية والفرنسية، وهو ما يساهم في تكثيف النزعة للاستهلاك المفرط! بقطع النظر عن مدى قدرة لجموع الغفيرة المالية المستهلكة لهذه الفيديوهات الطلقة في الدول المعسورة على إنجاز هذه الوصفات من الطعام!.
ثمة أيضا طوفان النزعة للعروض الحواسية، من أنظمة الزي والموضات للنجوم، والنجمات من كبار الفنانين العالميين، والعرب، التي تركز على بعض مساحات الأثارة. من ناحية أخرى بعض المواقع التي تبث صور ذات طابع آثاري، للفتيات والسيدات، على نحو يؤدي إلى ازدياد النزعة الحواسية الاستهلاكية لدى الجموع الغفيرة الرقمية، ويؤثر على سلوكها الحواسي وعلى علاقات الزواج، وخارجه، بين الرجال والنساء في المجتمعات العربية، ويساهم في التصدعات الأسرية، والتحرش،والأخطر تغييرات سريعة في منظومات القيم الاجتماعية والدينية في هذه البلدان.
انتقلت بعض الظواهر الاجتماعية الفعلية إلى الحياة الرقمية، ومنها قراءة الطالع، والتنبوء بأحداث المستقبل التي تناهض العقل العلمي، وتروج بعض من الخرافات التي ترتكز على بعض المكونات الميتافيزيقية في ثقافات المنطقة العربية الشعبية، والاختلاطات في الدروس التعليمية بين العقل العلمي، والعقل الميتاوضعي، في بعض المناهج المقررة، أو في درس المعلمين حول الدرس ممن يغلبُ عليهم هذا النمط من الثقافة الشعبية الميتاوضعية والخرافاتية، السائدة وسط العوام، وبعض المتعلمين.
كشفت الحياة الرقمية عن اهتمامات ثقافة الجموع الفعلية، والرقمية الغفيرة المقموعة في المجتمعات العربية، وعن تحول السلوك الاجتماعي والاستهلاكي المفرط دونما إنتاج، وعمل خلاق وتحوله إلى سلوك استهلاكي رقمي للصور، والفيديوهات، والمنشورات والتغريدات. ساعدت على ذلك الشركات الرقمية الكبرى التي توظف هذه الاهتمامات الاستهلاكية، في استثارتها وتحفيزها لكل الكتل الجماهيرية الرقمية الغفيرة، بحسب قوائم اهتماماتها وتفضيلاتها في كل التفاصيل، وبيعها للشركات الرأسمالية الكبرى التي توظف ثقافة السطحية والرداءة في إعادة تكييف قوائم الإنتاج، والخدمات، وترويجها رقميا وفعليًا.
من هنا تحولت الحياة الرقمية، إلي مجموعات بيانات ضخمة Big Data، ومعقدة يتم تحليلها، من خلال نظم تحليلية أكثر تعقيدًا، ويتم توظفيها في إعادة تجديد سياسات الإنتاج، والخدمات من الشركات الكبرى، بقطع النظر عن تكريسها لثقافة السطحية والتفاهة والاستهلاك المكثف، وفق مصالح الشركات الرأسمالية الوحشية.
من ناحية أخرى بالموازاة مع ثقافة الأكاذيب والسطحية، ثمة بعض من الايجابيات تتمثل في توظيف الحياة الرقمية في الكشف عن أشكال العنصرية، والتحرش والتنمر، وجرائم الإبادة الجماعية على نحو ما يتم من رصدها في الحياة الفعلية في الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة، وهو ما أدى إلى إنتاج سرديات مشهدية مرئية موازية للسرديات الإسرائيلية، والأمريكية والأوروبية الداعمة للإبادة الإسرائيلية.
السردية المرئية لوقائع الإبادة، والتهجير القسري والقتل الوحشي والتجويع، وتدمير البشر والحجر والمشافي ساهمت في بعض من اليقظة النسبية لدى طلاب الجامعات الشباب في الجامعات الكبرى وغيرها في أمريكا وأوروبا، وأيضا للقوى والجماعات المناهضة للحرب، وللمجازر الإسرائيلية، في دول أوروبية، وغيرها على خلاف انحيازات إدارتها السياسية، وحكوماتها لإسرائيل، وهو ما شكل يقظة للضمير الحر في هذه المجتمعات، حول القيم الإنسانية والأخلاقية للثقافة السياسية الليبرالية، التي انحسر القها عن بعض الطبقات السياسية الحاكمة وأحزابها السياسية، وتوظيفهم للحريات وحقوق الإنسان كسلاح للضغط على الأنظمة التسلطية، والاستبدادية في المنطقة وبعض دول جنوب العالم، وهو ما قامت بتعريته الحرب العدوانية الوحشية على قطاع غزة، وعدم إدانة الدولة العبرية، وحكومتها اليمنية المتشددة، وخطابها الاستعلائي التوراتي تجاه الشعب الفلسطيني، وكفاحه ومقاومته من أجل الحرية والاستقلال، وبناء دولته المستقلة على الأرض المحتلة بعد 5 يونيو 1937، وعاصمتها القدس الشرقية.