آرام كرابيت وتجربة الاعتقال السياسي

img

صبية سورية مقيمة في سويسرا، أقدمت على عمل مشروع يتعلق بوطنها سوريا، إنها “لين نجم” الطالبة في الثالث الثانوي، طلبت مني أن أرد على أسئلتها حول تجربة الاعتقال السياسي، لتقدمها كمشروع لمدرستها.
كانت تكتب وتبكي، إلى أن انتهت منه، اليوم سلمت المشروع بعد طباعته باللغتين العربية والإنكليزية.

نص الحوار:

1 ـ هل شعرت بالتهديد عندما تم محو إسمك و استبداله برقم؟ كيف تعاملت مع لغة الخطاب الجديدة، ما كان أكثر فعل او نعت يثير غضبك ويهدد كرامتك وانسانيتك؟
ج1 ـ كان الإذلال في سجن تدمر ممنهجاً، يتناول السجان ضحيته، السجين ككتلة واحدة ويبدأ العمل عليه، يشتغل على تمزيقه من الداخل، يلغي أسمه ووجوده وإنسانيته، يحول جسده إلى مشروع سياسي، يحوله إلى شيء نافل لا قيمة له.
يشعر السجين أن أظافر الجلاد تنهش في لحمه ودمه، يأكل أحشاءه بلذة كبيرة،المسألة لا تتوقف على الرقم وحده، ربما هذا أقل شيء يمكن ذكره.
في كل ساعة أو أكثر، يدخل الحرس إلى المهجع، تكون رؤوسنا إلى الجدار منكسة، يدخلون بالعشرات يلتفوا حولنا وبأيديهم كرابيج، يضربون البعض على رأسه باليد، أو بالكبل على الظهر أو الرأس أو على الأرجل.
عندما يكون الإنسان على مسافة من الموت، يموت الغضب في داخله، يكون مستعداً لتحمل الألم، وتموت كرامته وإنسانية ،لا يفكر بأي شيء سوى أن يكون ثقلهم عليه أقل قسوة.
لم يكن السجان يستخدم الرقم، كنا أقل من رقم، ينادي أحدنا ابو الشحاطة الزرقاء أو ابو الجوارب الحمراء أو الكنزة الخضراء،إنعدام قيمة الإنسان شيء عادي في هذا السجن.
2 ـ هل هناك أي نواحٍ إنسانية تجعلك تحتفظ بهويتك كإنسان داخل سجن تدمر؟
ج2 ـ ربما قيمة الأشياء أكثر أهمية من الإنسان في هذا المغطس القذر، الهوية الإنسانية ميتة فيه، يتلوث الإنسان بمجرد أن يضع قدمه في أول المدخل،نحن كنّا أقل من الحيوان بكثير،إن فقدان الأحساس بالأمان شيء عادي في هذا المكان، الضرب اليومي.
في الساعة السابعة مساءً نضع الطماشة على أعيننا ونبدأ رحلة النوم ،السقف مفتوح، يطل الشرطي أو السجان علينا من أعلى السطح ويراقبنا ونحن نيام، ممنوع الحركة إلى اليمين أو اليسار او على الظهر، يجب أن يكون النوم على صفحة واحدة إحدى عشرة ساعة دون حركة، ممنوع دخول الحمام، وكل ساعتين يقف حارس من السجناء، عليه الوقوف على قدميه كالصنم، رأسه منكّساً، لا يتحرك، يراقب زملاءه في حال تحركوا أو نزلت الطماشة من على عين النائم. لا يسمح للسجين في الذهاب إلى المرحاض، وإذا رأى السجان أحدهم شخر يؤشر عليه، وفي الصباح يجلد عندما يفتح الباب.
3 ـ كيف يتعامل الجلادون مع المعتقلين؟ هل تعتقد ان الحراس والجلادين هم نوعاً ما أيضاً ضحية النظام الوحشي، كيف ولماذا؟
ج3 ـ يتعامل الجلاد مع المعتقل بمنتهى القسوة ،هناك أوامر من أعلى جهة في السلطة بالتعذيب الممنهج، وينفذ الجلاد الأوامر بدقة ولا مجال للتعاطف مع السجين.
الكثير من الجلادين أو الحراس ضحية نظام ديكتاتوري استبدادي فاسد، الجلاد الأول هو الرئيس، هو من يصدر الأوامر والتعليمات.
عندما يأتي سجان جديد إلى السجن، يجري تدريبه على التعذيب، صفع على الوجه، الضرب بالكبل على الظهر،هناك قالب من الحديد على مقاس القدم، في إحدى الباحات، عند العصر يجتمع السجانون القدماء، ويبدأون بالتدريب كي يتعلم السجان الجديد، وبعد أن يراقب هذا الجديد الطريقة التي يمارسونها يعطوه الكبل ويبدأ الضرب على القالب الحديدي، وعندما يدخلون الباحات، يُخرجون من كل مهجع سجين او اكثر ثم يبدأ التعذيب، ويشارك الجديد ممارسة التعذيب، في البدء تكون النفس رافضة، مع الممارسة اليومية يتحول إلى جلاد محترف.
كانت تصدمني دائماً جملة:” وطي رأسك في الأرض يا ذليل” لا ترفعه على الأطلاق. المكان بغيض وكريه،غابة مملوءة بوحوش واقفة،تريد أن تلتهم كل ما يقع بين يديها وفمها، شيء ثقيل يرزح فوق صدري في مكان موحش وبارد خُلق ليزحف إلى قدمي ويصعد إلى شفتي ووجهي،والصمت طائر ثقيل يرفرف هبوطاً فوقي

4 ـ هل التعذيب النفسي في بعض الحالات يؤثر في المعتقل ويؤلم أكثر من التعذيب الجسدي؟ وما هو هدفه؟
ج 4 ـ بالطبع إن التعذيب النفسي له دور هائل في إخضاع النفس البشرية وتدميرها من الداخل. عندما يتحرك السجان على السطح تتحرك في النفس حاسة الخوف، مع الوقت يتحول إلى رعب خاصة أثناء النوم، تبدأ الأذن تراقب أدق التفاصيل، يطرح السجين السؤال على نفسه: هل تحرك السجان فوق السطح؟ هل ذهب إلى المحرس؟ هل جاء فوق فتحة السقف؟ إنه فوقنا، إنه يراقبنا، الأن سيؤشر على أحدنا،القلب يدق، يعرق المرء، وعندما يدق الشرطي بقدمه على البيتون المسلح للسطح أو بعقب البارودة بقوة هائلة، تزداد دقات القلب سرعة، وإذا أشّر على واحد ما من النائمين، يدب الخوف في الجميع، ويتحول المكان إلى هلع دون صوت، لأن المهجع كله سيبقى متوتراً قلقاً خائفاً، لن يستطيعون النوم بعد ذلك، سيبقون في حالة تحفز حتى الصباح وهم مركونون في فراشهم دون حركة، تحت وصاية الجلاد إلى حين يفتح الباب ويعذب بالأكبال.

5 ـ هل طرق التعذيب المختلفة تؤثر بنفس الطريقة على المعتقل؟
ج5 ـ نعم. لا مصالحة أو هدنة مع الخوف،في أجواء التوتر والضغط والخوف من القادم وانعدام الأحساس بالحياة والأمان يتحول أحدنا إلى كتلة من الألم والترقب،نسأل أنفسنا: ما هي كمية الألم والضغط الذي سيمارس علينا؟ ما حجم التعذيب؟ عدد الأكبال الذي سيضربوننا، خمسين، مئة، مئة وخمسين؟ هل سيمزق جلد القدم؟ هل سنصاب بالغرغرينة؟ هل سنموت، ام نُشّوه،هل سيشلوننا؟ هل سنفقد أحد أعضاءنا كالعين او الأذن أو الخصيتين أو اصابع القدم؟
بالإضافة إلى أن أغلبنا أصبح لديه أمراض مزمنة كالسكري أو ضغط الدم، او الرمل في الكلية لأن المياه ملوثة، بالإضافة إلى أن الطعام سيء ومكرر وقليل، ولا يوجد تنفس في الباحة ولا يوجد زيارة الأهل لنا، ولا صلة لنا مع الحياة الخارجية اطلاقًا.
نجلس في مهجع مغلق، لا نرى ضوء الشمس ولا نخرج لنتنفس. يَمدوننا بثلاث صفحات من جريدة السلطة حوالي أربعة أيام في الأسبوع، نقراها بالتتابع لمعرفة ما يحدث حولنا من أمور سياسية على الصعيد العالمي.

6 ـ هل الذكريات وتذكُر هويتك السابقة تجعل الصمود والعيش أسهل ام أصعب لاختلاف ظروف الحياة؟ كيف لك ان تحافظ على الأمل في مكان خالي من الظروف الإنسانية؟
ج6 ـ النفس الإنسانية جبارة، بمجرد ان يشعر السجين أن السجان ابتعد عن فتحة السقف، يبدأ بالهرب من المكان، يصنع لنفسه عالم من الوهم، يصنع النساء الجميلات، يضع لهن خدود على مقاس حلمه وخياله، يتخيل نهودهن، مؤخراتهن، قاماتهن، يجامع أغلب نساء الأرض، يتذكر الحبيبة إذا كان لديه حبيبه، يحاورها، يعاتبها، يجامعها، يذهب معها في رحلة او نزهة، يصنع لنفسه عالم من ظلال وجمال، يسبح في فضاء المرأة ويسرح. يستعيد بدل الواقع عالم أخر يصنعه كما يريد ويرغب، يتذكر أكثر الأماكن الجميلة في حياته، أهله، زوجته، أولاده. هذا الخيال يمنح المرء توازن نفسي هائل، ومرات كثيرة تأتيه الحياة الخارجية في الأحلام بأشكال وألوان أجمل من الواقع بكثير.
لا يوجد إنسان طبيعي دون أمل، الأمل يمنح الإنسان طاقة إيجابية عظيمة، يركب على رأسه ويدخل مخه وظهره ويرقص ويغني، ينسى عالمه المر والصعب ويضع الخطط المزينة لتزيين حياته في المستقبل،أكاد أجزم أن الخيال والحلم والذكريات أجمل شيء يستعين به السجين لقضاء الأيام الصعبة والهروب منها.

7 ـ ما هدف النظام من إعطاء مدير السجن صلاحيات واسعة، ما هدف مدير السجن بترقيم المساجين وهدف الجلادين من ابتكار طرق تعذيب جديدة وتطبيقها. بحيث ان أوقات الاكل والشرب والاستحمام تكون مقررة من قبل النظام،ما هدفه من كل ذاك؟

ج7 ـ قلت،أن التعذيب نهج في النظام الاستبدادي الديكتاتوري، هناك شخص واحد طويل جدًا، هو الحاكم، وبقية اعضاء المجتمع أقزام، يعطي الأوامر والأحكام، يلغي القانون ومؤسسات الدولة، ويصبح فوق الدستور والقانون، بل يصبح هو القانون والدستور.
يتم وضع حدود للتعذيب في مكتب اسمه:الأمن القومي، باشراف رئيس الجهمورية، وهذا التعذيب يختلف من حزب لأخر،الأحزاب التي لا تحمل السلاح في برامجها السياسية، يكون التعذيب لهذا الحزب سهلًا، قليل من العنف كالحرمان من الحرية، ويتدرج من حزب لأخر، هناك تعذيب فظيع تعرض له الأخوان المسلمين والبعث التابع للعراق والجواسيس، وهكذا.
لا يوجد ترقيم للأفراد، الترقيم جماعي،عندما يأتون لأخذ التفقد اليومي يسأل رئيس الشرطة، لرئيس المهجع بحضور جميع أفراد الشرطة، كم عدد الموقوفين لديك، رئيس المهجع يعطيه الجواب، ثم يعد الرؤوس الموجودة في كل مهجع على حدا.
إن التعذيب، يمثل أيديولوجية السلطة، شكل إدارتها للدولة، إن الدولة العسكرية الديكتاتورية تقمع السجناء، تشوههم من أجل أن تبقى مسيطرة على المجتمع وإخضاعه لمصلحتها،إنه يعطي إشارات للمجتمع ليمتثل لإرادتها، وإن لم يمتثل سيكون مصيره مثل السجناء الموجودين في السجن.
النوم في تدمر يتم بأمر والاستيقاط بأمر وفي أوقات محددة، وإحضار الطعام في أوقات كما يرونها.

8ــ لابدّ أن ظروف الاعتقال طوّرت نوعاً ما هويتك، فلقد محوا أو زادوا عليها بعض الجوانب، ما هي سمات هويتك كمعتقل داخل السجن؟ الي أي مدى يخرج السجن من داخل المعتقل لحظة خروجه من السجن، فماذا يحصل لهويتك كمعتقل؟ وهل لنا بأن نقول أن السجن هو نوعاً ما صراع او مواجهة بين هوية المعتقل، هويته السابقة و الجديدة؟
ج8 ـ ما أن يطأ المعتقل أرض الزنزانة حتى يبدأ تاريخ جديد له، يغادره الزمن الطبيعي القديم، ويستعاد عنه بزمن السجن، الانبهار بكمية القهر، الحيز الضيق، الجدران الأربع وحدها تحاصره في كل مكان، يشعر بالاختناق والقهر والضيق، ووحيد في مواجهة سلطة كاملة تريد نسفه وإنهاء حياته.
يموت الجمال داخل السجين، وكذلك البراءة والفرح، سيصبح مع الأيام شبه إنسان، حطام او شبح، يغادره الحزن والفرح، يشرب يومياً كمية هائلة من الإذلال وموات الشعور بالأمان، وأنه بين أيدي مجرمين، يريدون قتله وإلغاء وجوده،عدا التعذيب الطويل والسجن الطويل.
في بداية السجن كنت أحلم أنني في بيتي، وعندما أستيقظ من النوم أرى نفسي مقيداً، وحولي سجناء مثلي لا حول لهم ولا قوة.
أستطيع القول أن الإنسان الحالم بالجمال والحرية يموت في داخل السجين، ويتحول يومه إلى مكان كئيب.
يخرج السجين من السجن، بيد أن السجن يبقى في داخله أينما حل أو ذهب، لا يمكن أن يغادره، يعيش معه في بيته، في فراشه. أستطيع القول أنه يستوطنه، يبقى معه العمر كله، وأغلب السجناء لا يستطيعون إخراجه من داخلهم، إنه كالسرطان المعشعش في داخله.
الإنسان الطبيعي لا يشعر أن هناك واد عميق مملوء بالاضطراب في داخله، ولا يشعر بالغربة الداخلية مع نفسه ومع الأخرين، بينما السجين السابق أو أثناء السجن يشعر بالغربة الداخلية ويموت الإنسان الجميل داخله وتموت الحرية.


الكاتب هيئة التحرير

هيئة التحرير

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة