قراءة متمعنة في الفكر السياسي للطيب تيزيني (2-4)
(الدولة الأمنية، رباعية الاستبداد، ثلاثية الفساد، الحطام العربي)
1- التحوّل من الثورة إلى النهضة
في أواسط تسعينيات القرن الماضي أعلن تيزيني أنّ مشروعه “من التراث إلى الثورة”، الذي اشتغل عليه منذ سبعينيات القرن، بات ” يعيش اختناقاً قاتلاً “، وشرع في إعادة النظر بما كتبه. وتعلق الأمر في التحوّلات التي أخذت تجتاح العالم، بدءاً من نهاية الحرب الباردة وانهيار المنظومة السوفياتية، إلى ثورة المعلومات والاتصالات، ونتائج حرب الخليج الثانية. فبالثورة “لن يتغيّر شيء حقيقي وعميق، بل مجرد قشور سطحية تتعلق بهيكل الحكومات، دون سياساتها، ستظل السلطة والقرار بيد مجموعة مغلقة، نخبوية ذات تمايز عن القاعدة الجماهيرية الكبيرة”[1]. ورأى أنّ مفهوم “النهضة والتنوير” بديلاً عن “مفهوم الثورة”، انطلاقاً من ثلاثة حوامل[2]: أولها، الحامل الاجتماعي، الذي يتأسس على كل الأطياف الاجتماعية العربية، والذي يمثل “الرهان الجديد على إحداث تحوّل عميق يفضي إلى مشروع للنهضة والتنوير”. وثانيهما، الحامل السياسي، المنبثق عن الحامل الاجتماعي، الممتد من أقصى اليمين الوطني والقومي الديمقراطي إلى أقصى اليسار الوطني والقومي الديمقراطي، بما في ذلك القوى الإسلامية، بعد إدراكها أهمية اندراجها في مشروع نهضة جديدة للأمة. وثالثها، الحامل الثقافي، الذي يقوم على التعددية الثقافية، ويتأسس على وجود كل القوى الثقافية التي أدركت أهمية الإقرار بالتعددية السياسية والثقافية. وهنا يعرّج على الحاجة إلى “إعادة النظر بالبنية السياسية في سورية”، لأنّ العمل الثقافي يبقى هزيلاً إذا لم يواكبه التأسيس السياسي، أي “استعادة المجتمع السياسي، باستعادة السياسة التي أُخرجت من المجتمع السوري”، انطلاقاً من أنّ “السياسة هي الفعل الهائل الذي ينتج تحوّلات كبرى”.
وفي سياق هذه الحوامل، استدرك تيزيني فقال[3]: القضية أصبحت مسألة وجود بعد أن كانت مسألة تقدم، إذ “أصبحنا أمام استحقاقات جديدة، خصوصاً مع نشأة النظام العولمي الجديد، الذي يعمل على اقتلاع العالم العربي، الذي لم ينجز ما كان مطروحاً على بساط البحث النهضوي سابقاً، فكيف ننجز الجديد ولم ننجز القديم بعد؟!”. وكان تيزيني يذكر دائماً أنه كتب إلى النظام السوري، بعد سقوط بغداد في العام 2003، أول بيان بعنوان “سارعوا وافتحوا أنتم قبل أن يفتح الغزاة”.
وعندما سئل عن احتمالات تكوين حركات جديدة، على غرار التي بدأت في عصر النهضة الأوروبية، أجاب “إنّ مشروع النهضة والتنمية مشروط بثلاثة عوامل كبرى هي: الإرادة وأقصد بها إرادة الناس، والوعي بالتاريخ، والفعل التاريخي”[4].
وفي سياق حديثه المتكرر عن أنّ الحامل الحقيقي لمشروع النهضة يتمثل “في الأمة كلها من أقصاها إلى أقصاها”، أكد أنّ “المسألة الدينية أُهملت إهمالاً مرعباً من جانب النخب الثقافية”، وأنّ “من المستحيل الوصول إلى أي فكر نهضوي تغييري حقيقي اليوم، من دون إعادة قراءة الفكر الديني، والدخول إلى روح الوسط الإيماني”[5]. ولم يكن تيزيني، صاحب “النص القرآني وإشكالية البنية والقراءة” متشائماً من حجم الفاتورة المنتظرة من صعود الإسلام السياسي، إذ قال “هناك إسلام رثٌّ غير محتمل، وآخر تنويري”[6]. ويعيد بداية هذا الصعود إلى سبعينيات القرن الماضي، مع فترة النفط السياسي التي “أحدثت تحوّلاً عميقاً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية العربية، ترافقت مع تفكك الفئات الوسطى ونشوء نمط متصاعد في القوة من المجتمع الاستهلاكي، ما أدى إلى أنّ 20% من المجتمع العربي أصبحوا يمتلكون 80% من الثروة، مما أوجد فئات واسعة من المهمّشين والمفقّرين الجدد، وإرغام الفئات الوسطى عن الانزياح من مواقعها والانضمام إلى الفقراء التقليديين، دون أن تستطيع الوصول إلى بناء جديد بينها وبينهم، يمكن من خلاله أن تنتج الثقافة والسياسة كما كانت تفعل في مواقعها السابقة، وهنا برز التيار الإسلامي الذي أخذ منحًى جديداً مختلفاً عمّا كان سائداً قبله من توجهات إسلامية على الصعيدين السياسي والثقافي، إذ كان الحديث السابق عن مشروع إسلامي تنويري ثقافي لا يطمح إلى إيجاد دولة إسلامية”[7]. ومن هنا تبرز، حسب تيزيني، أهمية خاصة لإخضاع هذا التيار الأصولي إلى دراسة نقدية على الصعيد السياسي والثقافي والتاريخي، وبالتالي فإنّ الضرورات، التي يعيشها العالم العربي، تفرض التفكير في إمكانية التعايش بين كل تيارات الأمة، طبقاً للآليات الديمقراطية.
ولكنه في مواضع عديدة من كتاباته حذّر من التطرف الإسلامي، الذي يستند إلى بنية أصولية مغلقة، على عكس الإيمان الشعبي الطيب والصحيح، تفادت أن يفسدها النظام الأمني، فراحت تحصد الثمار “بعد أن ازداد التأزم والشرخ بين الدولة الأمنية والمجتمع، الذي يشعر بأنه لم يعد لديه سلاح سوى التطرف”[8]. وهكذا، حسب تيزيني، فإنّ الإسلام تمت خوصصته من طرف قوى محافظة “استطاعت أن تملأ الفراغ الذي أعقب فشل المشاريع الأخرى المنافسة في الساحة الفكرية والسياسية”، إلى أن “تحوّل الإسلام من دين للشعب أو للمسلمين إلى دين للإسلاميين، الأمر الذي جعله صيغة من الأيديولوجيا، التي أقصت التديّن الشعبي وصادرته”[9].
وفي سورية، ظهرت الأصولية بقوة مع مرحلة “النفط السياسي”، وتحدد انتماؤها، الاقتصادي والاجتماعي، مع تحوّل المجتمع السوري إلى مجتمع العشرين والثمانين، وازدادت ظلامية “مع تعاظم سطوة الدولة الأمنية، بما يحكمها ويضبطها تحت حد الاستبداد الرباعي القائم على الاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام والمرجعية”[10].
2- في الديمقراطية والعلمانية
عندما سئل تيزيني عن تعريفه للعلمانية وعلاقتها بالديمقراطية والإسلام، قال “هي منظومة من الأفكار تؤسس لوجود البشر الذين يوجدون في مجتمعات قائمة على التعددية الدينية والإثنية والسياسية والطائفية، هي أكثر من أن تكون ناظماً لفكرة العلاقة بين الدولة والمجتمع، لأنها تدخل في خصوصيات كل هذه المسائل”. ولأننا تأثرنا بالعلمانية الأوروبية، بعد أن قطعت شوطاً متقدماً، ظهرت لنا وكأنها “حالة من الزندقة”. وتابع “علينا أن نأخذ المصطلح كما يدل عليه في وجوده الغربي، الذي لا يعني الإلحاد ولا يعني الزندقة، وإنما يعني منظومة من المفاهيم والمصطلحات والأفكار التي تضبط علاقة البشر بمنظوماتهم الطائفية الإثنية المذهبية السلطوية السياسية، وبالتالي لا تسيء لأحد ضمن هذا المنظور العمومي. نحن هنا نحتاج الديمقراطية معلمنة والعلمانية ديمقراطية، وبهذا المعنى نكون قد أسسنا لما هو قابل للتبنّي أو الاستلهام، سواء كان علمانياً أو أي فكرة يجري تداولها في الفكر العالمي”[11].
كما اعتبر أنّ شعار “الدين لله والوطن للجميع” التعبير المكثّف عن العلمانية، بمعنى “الفصل بين الدين والدولة”، وحسب تعبيره فإنّ هذا الشعار ينطوي على معنى التحوّل إلى “وجه مدني من الوطن المدني والدولة الوطنية”، أما الموقف العقيدي، أي الموقف من الله، فقد “اعتُبر شخصياً بقدر ما اعتُبر محترَماً ومصوناً”. وقد اتضح أنّ “الطائفية العقيدية الدينية يمكن تحويلها إلى نسق سياسي، من شأنه أن يسعّر الصراع الديني والإثني بين الأقليات والأكثرية”[12].
كما كتب عن أوهام الخطاب الديمقراطي “المجرّد” والعلماني “المضاد” للدين، وكشف عن الالتقاء في الرأي بين الأنظمة العربية، ذات التوجه الدولتي الأمني ومعظم القيادات الأصولية الإسلامية، حول مطلبي الديمقراطية والعلمانية. فقد “برزت الديمقراطية في المجتمع العربي المعاصر كردٍّ على ديكتاتورية الأنظمة السياسية العربية أولاً، وعلى ظلامية بعض التيارات الإسلامية ثانياً، وكدعوة إلى ربطها بالتنمية الاقتصادية والسوسيو ثقافية المستقلة ثالثاً، ورابعاً وأخيراً كمنظومة سياسية ثقافية تدعو إلى حقوق الإنسان والتعددية السياسية والثقافية وكذلك إلى العدالة الاجتماعية (الديمقراطية الاجتماعية). وقد جاء الخطاب الأصولوي والخطاب السلطوي كلاهما تسفيهاً للديمقراطية ” من حيث هي (منتج خارجي غربي) لا يتواءم مع (الخصوصية العربية)، حسب الخطاب الثاني في كثير من تجلياته العربية. ولا يتفق مع (مبادئ الإسلام الحنيف عامة ومبدأ الشورى خاصة)، حسب الخطاب الثاني”.
وعلى ذلك النحو تُعامل كذلك العلمانية، فهذه نظرية “أدخلها المتغربون العرب والمستشرقون – بحسب الخطاب الأصولوي وبعض فرقاء الخطاب القومي الإسلامي – إلى المجتمع العربي الإسلامي، لتتحول هنا إلى تيار غريب ومعزول ومنبوذ”[13].
إلى أن نصل إلى نقده لمحمد عابد الجابري، الذي دعا إلى الديمقراطية بمعزل عن العلمانية، ولكونه اعتبر الديمقراطية تنبع من القومية العربية نفسها كفكرة وكشعار، في حين أنّ الطيب تيزيني رأى “أنّ الديمقراطية حينما تطبق في مجتمع ما، فإنها تكون قد أتت استجابة موضوعية لهذا المجتمع، الذي لابدَّ أن يكون ذا علاقات اجتماعية اقتصادية وذا نظام سياسي وذا بنية ثقافية تهيئ لها وتعبّر عن شروط حضورها. ولذلك، فهي تأتي تعبيراً عن ضرورة اجتماعية تنطوي على الأخذ بمبدأي التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة”[14]. وجاء هذا الرأي لتيزيني ردّاً على الجابري الذي “يغطي وجهه في الرمال رغبة منه في اتقاء الحقيقة الواقعية”، حين يتحدث في وادٍ عن إمكانية تجاوز “العصبية الخلدونية” بالديمقراطية، دون تمثّل الهيكلية الاجتماعية لتجاوز هذه العصبية نحو نظام سياسي ديمقراطي.
كما انتقد ” سذاجة ” فهم الجابري، الذي نظر إلى “الليبرالية العربية” كونها مندمجة بـ “الأقلية المسيحية”، إذ قال “إنّ هذا النظر الجابري إلى العلمانية يضعنا وجهاً لوجه أمام التصوّر الأصولوي (السلفوي) لهذه الأخيرة. فهي، وفق ذلك، فكرة (غربية مُستجلبة) من الغرب الطامح – مع صنائعه في المجتمع العربي الإسلامي – إلى الإساءة للإسلام تاريخاً وراهناً”. ومما لفت تيزيني أنّ الجابري “وضع الدين مقابل العلمانية.. هكذا يكون قد صبَّ زيتاً على (نار) العواطف الدينية (الأصولوية) الراهنة المضادة للعلمانية، وأسهم – من ثمَّ – في نشر الجهل في هذا الحقل، والديماغوجية في أوساط المنظّرين للأصولية الإسلامية الراهنة”. وخلص تيزيني إلى القول “إنّ العلمانية لا يمكن أن تكون بديلاً عن الدين من حيث هو، وإنما هي البديل عن (الدين السياسي) أو الدين مسيّساً “[15].
وهكذا، يصل تيزيني إلى القول “يتبلور المشروع السوسيوسياسي البنائي للعلمانية في المجتمع العربي في إقصاء الصراعات، التي تفضي إلى الانتحار الذاتي، وفي تكريس الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطبقية والثقافية وتثميرها وجعلها الحاسمة في المجتمع المذكور، دون أن يكون ذلك المشروع بديلاً عن هذه الصراعات. ولا يخفى على الباحث أنّ كل الأقطار العربية الراهنة تفتقد هذه الصيغة الحاسمة من أشكال الصراع”[16]. وتتضح مخاطر “الانتحار الذاتي”، الذي تحدث عنه تيزيني، ودعوته إلى ضرورة العلمانية، عندما ندرك بروز الطائفية الدينية، بل “الأصولية الدينية”.
الهوامش
[1]– حوار ميادة الدمرداش مع الطيّب تيزيني، في القاهرة، صحيفة “الرأي العام”، الكويت 20/كانون الأول/ديسمبر2006.
[2]– حوار فاطمة عطفة مع المفكر السوري الطيّب تيزيني، صحيفة “الاتحاد”، أبو ظبي 7 و8 تشرين الأول/أكتوبر 2008.
[3]– حوار وحيد تاجا مع الطيّب تيزيني، موقع ” إسلام أون لاين”، 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2008.
[4]– حوار داليا عاصم مع الطيّب تيزيني، في الإسكندرية، صحيفة ” الشرق الأوسط “، لندن 7 كانون الثاني/يناير2007.
[5]– حوار إبراهيم العريس مع الطيّب تيزيني، صحيفة “الحياة”، لندن 17 نيسان/أبريل 2006.
[6]– حوار خليل صويلح مع الطيّب تيزيني، صحيفة “الأخبار”، بيروت 16 تشرين الأول/أكتوبر 2011.
[7]– حوار وحيد تاجا، المرجع السابق.
[8]– حوار داليا عاصم، المرجع السابق.
[9]– حوار إبراهيم العريس، المرجع السابق.
[10]– حوار راشد عيسى مع الطيّب تيزيني، صحيفة “النهار”، بيروت 1 نيسان/أبريل 2011.
[11]– حوار محمد ديبو مع الطيّب تيزيني، الموقع الإلكتروني “الأوان”، 2 نيسان/أبريل 2009.
[12]– د. الطيّب تيزيني، على طريق الوضوح المنهجي..، المرجع السابق، ص 53-54.
[13]– د. الطيّب تيزيني، من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي، دار الذاكرة – حمص ودار المجد – دمشق، ط1 1996، ص ص 269-270.
[14]– د. الطيّب تيزيني، من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي..، المرجع السابق، ص 271-272.
[15]– د. الطيّب تيزيني، من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي..، المرجع السابق، ص 275-276.
[16]– د. الطيّب تيزيني، من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي..، المرجع السابق، ص 283.