الصراعات الهوياتية المتخيلة وأوهامها

أحد الظواهر السلبية في غالب الفكر العربي الحديث والمعاصر، هو سوء استخدام الآلة الاصطلاحية الغربية في ضبط معناها ودلالاتها، وسياقاتها المفاهيمية والنظرية، وتوظيفاتها، سواء في الدرس والبحث الأكاديمي، أو الكتب والمقالات العلمية والصحفية، وفي الإعلام المسموع والمرئي، وبات ذلك تعبيرًا عن ظاهرة الفوضى الاصطلاحية، والتشوش الفكري والعلمي، ومرجع ذلك عدم التخصص، ونقص الاطلاع على النظريات والمفاهيم في العلوم الاجتماعية، والفلسفة، والقانون، والاقتصاد، وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، والنظريات السياسية، والعلاقات الدولية، والسياسة الخارجية، والنظم السياسية… إلخ، وفي النظريات الأدبية والجمالية. تعود الفوضى إلى تراجع مستويات التعليم الجامعي، والترجمات الجزئية وبعضها مشوه لأصول الفكر الغربي وتطوراته المتسارعة، أو لجوء بعضهم إلى الترجمات غير الدقيقة، ثم استخدام الترجمة الآلية.
لا شك أن الفوضى الاصطلاحية ساهمت في تحفيز الصراعات بين من يُطلق عليهم مجازًا الأكاديميين، والمفكرين والمثقفين، والإعلاميين، ورجال السياسة من البيروقراط، ومن ثم تزايدت وتفاقمت هذه الفوضى العارمة مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، والانفجارات المتواصلة، وفائقة السرعة للمنشورات، والتغريدات، والصور، والفيديوهات الطلقة الوجيزة، والمحمولة بعضها على الأكاذيب السوداء، والمعلومات الخاطئة، والفتاوى الدينية والمذهبية، والطائفية، والآراء والانطباعات المرسلة، والرغبات الجامحة، وأحكام القيمة الأخلاقية أو اللاأخلاقية. كل تفاصيل الحياة باتت كاشفة عن الجماهير الرقمية الغفيرة، أيا كان مستوى تعليمها، أو تكوينها الثقافي، أو مستويات وعيها. عالم بات مكشوفًا بالرغبات، ومحاولات إثبات وجودهم الذاتي، والسعي لجذب واختطاف الاعتراف بوجودهم من الآخرين على الحياة الرقمية.
في ظل الثورة الرقمية، تفاقمت مشكلة المصطلحات التي يوظفها بعضهم في خطاباته الرقمية والفيديوهية دونما معرفة بمعناها، وتطوراتها، وأصولها النظرية، وهي ظاهرة وتجَلٍّ لإثبات أن الذوات والعقليات الرقمية لبعضهم على معرفة وثقافة، بينما يبين من استخدام المصطلح عدم المعرفة الفاضحة، والتي تُعرّي ذوات قائليها وكاتبيها.
مصطلح الهوية من بين المصطلحات التي باتت تُستخدم كثيرًا في سيولة وغموض شديد منذ عقد الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وحتى الآن، والذي تستخدمه بعض الجماعات الإسلامية السياسية، والراديكالية، والسلفية، وأيضًا بعض من ذوي الاتجاهات شبه الليبرالية من المصريين، وآخرين. بعضهم يستخدم مصطلح الهوية من منظور ديني أُحادي، وكأن الهوية ترتبط بالدين والمذهب فقط، ومن ثم تتحدد بالانتماء الديني والمذهبي فقط، ومن ثم هي تتحدد سلفًا، وأنها تحددت وتكاملت منذ الانتماء لهذا الدين والمذهب، وتمتد زمكانيًّا منذ نشأته كرسالة وعقيدة وطقوس وسرديات وضعية داخله وحوله، ومن ثم، الهوية الدينية والمذهبية تبدو في هذه الخطابات عابرة للزمان والمكان والثقافات والقيم، داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وتعلو على تعددياتها وثقافاتها وأنماط التدين الشعبي على اختلافها وتعددها جميعًا!
الهوية الدينية والمذهبية بدت مع دولة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي أيضًا كجامع لمكونات الأقليات الدينية والمذهبية في العالم العربي إزاء المكون الأغلبي المسيطر دينيًّا وسياسيًّا على غيره من المكونات. يبدو أحد سمات التصورات المتخيلة واللاتاريخية المناهضة لمفهوم الهوية، على الرغم من أنها متخيلة، يتمثل في توظيفها وفق منظورات أغلَبية وسلطوية لتكريس الهيمنة الأيديولوجية والرمزية والسلطوية على بقية المكونات الأقَلوية، وهو ما أدى إلى بث وتحفيز الانقسامات والتذرّي الهوياتي في تطورات أنظمة ما بعد الاستقلال. ماكِري الصراعات الهوياتية أن الغالبية العظمى من المجتمعات العربية انقسامية، ودول حديثة الاستقلال، ولا تزال هشّة، وتعتمد على أجهزة القمع المادي، والرمزي، والديني/ المذهبي في السيطرة على مكوناتها الداخلية. غالب الدول العربية ما دون الدولة الأمة، توظف الدين كجامع لهوية المكون الأغلبي المتعدد والمنقسم داخل مجتمعاتها، وهو ما تفاقم في ظل فشل سياسات الاندماج، والتكامل الوطني داخلها منذ الاستقلال، وهو ما ظهر بينًا في الحروب الأهلية في سوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا.
تم توظيف مفهوم الهوية وفق التصورات الدينية والمذهبية من السلطات السياسية الاستبدادية والتسلطية الحاكمة، والدينية، والمذهبية التابعة، وأيضًا في مراحل الكفاح ضد الاستعمار كما في المثال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، ومن قبائل الوسط النيلي العربية ضد المكونات العرقية والقبلية الأفريقية في السودان بعد الاستقلال، وبعد انفصال الجنوب عن الشمال… إلخ.
من الملاحظ أن مفهوم الهوية ارتبط تاريخيًّا بنشأة الدولة الأمة، وحركة القوميات في أوروبا وتطور الرأسماليات الأوروبية والغربية. مصطلح الهوية يتسم بالتعقيد والتركيب، والتناقضات، والتغير والسيولة، ولا يقتصر فقط على المكون الديني، أو المكونات الثقافية والسياسية والعرقية، وفي ذات الوقت، المكونات الهوياتية ليست ساكنة وجامدة، وإنما متغيرة ودينامية، وهي تعبير عن متغيرات وتحولات سوسيو-ثقافية، واقتصادية وتكنولوجية لجماعة من الجماعات، وتشكل نظرتهم الجماعية إلى حد ما، وإدراكهم الجمعي لها، وإزاء الآخرين من الجماعات والشعوب الأخرى، ونظرتهم للعالم. الدين وتفسيراته وتأويلاته يمثل أحد المصادر والمكونات لمفهوم الهوية الدينامية ضمن مكونات أخرى، وخاصة في عالمنا العربي. من ثم، الهوية وفق لوى جاك دوري هي “جماع الصفات التي تطبع أي شعب، ونمط حياته ورؤيته للعالم”.
التوظيفات السوسيولوجية للمفهوم في الدراسات والبحوث تجلت في النصف الثاني من عقد الأربعينيات من القرن الماضي، وتم استعادته وتوظيفه من بعض الباحثين في تحليل بعض انعكاسات ونتائج صدمة هزيمة الخامس من يونيو 1967، وذلك على المجتمع المصري، وأصبح المفهوم يُوظَّف سياسيًّا، مع السياسات الدينية للسادات، وبعد اتفاقية كامب ديفيد، وذلك لتعبئة المصريين إزاء استبعاد مصر من الجامعة العربية ونقلها إلى تونس.
أدى طرد مصر من الجامعة العربية إلى جدل وسجال بين بعض المثقفين المصريين الكبار حول الهوية المصرية والعروبة، وعلى رأسهم توفيق الحكيم، وحسين فوزي، ولويس عوض، وحسين مؤنس، وآخرين. بعضهم لجأ إلى مفهوم القومية المصرية ضد القومية العربية التي كانت شعارًا أيديولوجيًا – لم تكتمل شرائطه السياسية والاقتصادية والاجتماعية – من الاتجاه شبه الليبرالي، وكأن ثمة تناقضًا بين مفهوم القومية المصرية والعروبة الثقافية. حاول بعضهم، ولأسبابهم الذاتية والفكرية، دعم الخطاب الساداتي في مواجهة العروبة، وكأن نظام اللغة العربية، والثقافات العربية ليست في تحولاتها جزءًا من مكونات الهوية المصرية وبُعدها العروبي الثقافي. بعضهم أيضًا اتخذ مفهوم المصرية لنقد التجربة والنظام الناصري، وكأن البُعد العربي في سياسات جمال عبد الناصر في دعم حركات التحرر الوطني العالم-ثالثية والعربية ضد القومية المصرية التي تشكلت منذ تطورات الحركة القومية الدستورية المعادية للاستعمار البريطاني. كانت السجالات جزءًا من حرب إعلامية وأيديولوجية على الهوية، إلا أن الغالبية الساحقة من المفكرين والمثقفين المصريين انتقدت بعض الأطروحات البسيطة والأحادية عن القومية المصرية التي طرحها بعضهم آنذاك.
مع العنف السياسي والاجتماعي من الجماعات الإسلامية السياسية والسلفية، والنزاعات الطائفية، ظهر اتجاه يتحدث عن قومية قبطية، لكنه محدود جدًّا، إلا أن ردود الأفعال على العنف ذو السند الديني والطائفي، أدت إلى تنامي بعض من التمركز حول الديانة والمذهب كسياسة للتماسك والاندماج مع المؤسسة الدينية والمذهبية، وتعاليمها وسردياتها، ومع دعوة بعضهم إلى تعليم اللغة القبطية.
بعض “المثقفين” والمتعلمين، على قلتهم، تماهوا مع بعض أفكار القومية المصرية، مع تمجيد للمرحلة شبه الليبرالية 1919 – 1923 – 1952، مع نسيان الاختلالات البنيوية التي أدت إلى انهيارها، وأيضًا إلى تراجع دور حزب الحركة الوطنية المصرية (الوفد)، وسيطرة الطبقة شبه الإقطاعية وشبه الرأسمالية على قيادة الحزب، وبروز بعض الأحزاب القبطية كتعبير عن تراجع الحزب في تعبيراته عن الطبقة الوسطى الناشئة بعد الانتفاضة الوطنية الكبرى عام 1919.
أدت السلطوية السياسية وتقلباتها السياسية إلى توظيف مفهوم “المصرية” في مواجهة العروبة وقتما تشاء وفي خلافاتها العربية، وإلى توظيف الإسلام سياسيًّا في سياساتها الدينية، وسياساتها الخارجية، وذلك على نحو ما فعل السادات في إنشاء منظمة وهمية للشعوب الإسلامية دعمًا للسياسات الأمريكية والسعودية تجاه الاتحاد السوفيتي السابق وتدخله في أفغانستان!
مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، وتدهور مستويات التعليم، واللغة العربية، أصبح التشظي، والتذرّي سمة الانطباعات المرسلة حول هوية مصر، والصراعات الهوياتية بين بعض المجموعات الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي، وميل بعضهم إلى نشر أوهامه ومتخيلاته الهوياتية، وأفكاره النمطية، على أنها تمثل هوية مصر الجامعة، والميل إلى التعميمات المفرطة، وتحيزاته الأيديولوجية والدينية والمذهبية.
يميل بعض الجموع الرقمية الغفيرة إلى إثارة المخاوف حول الهوية المصرية، لاستقبال مصر للاجئين العرب، وهي ظاهرة قديمة في مصر، ويشيع بعضهم رهابُ الخوف على الهوية! وكأن الهوية المصرية هشّة! وهو أمر مُثير للسخرية!
ظهر الموقف من البُعد العروبي في الهوية المصرية تجاه الموقف من طوفان الأقصى، وحق المقاومة الفلسطينية المشروعة في مواجهة الاحتلال غير المشروع للأراضي الفلسطينية بعد عدوان الخامس من يونيو 1967، وصمتُ كتل رقمية وفعلية عديدة تجاه الحق المشروع في مقاومة الاحتلال، والدفاع عن قيم الحرية والعدالة، والاستقلال لشعب تحت الاحتلال غير المشروع، وفق القرار الأممي 242 والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية.
مع بعض بوادر ورسائل سياسية إعلامية من بعض الإعلاميين في إقليم النفط حول الجامعة العربية وضرورة نقلها، وتعيين شخصيات غير مصرية كأمين عام لها، ثارت مسألة هوية مصر، ومحاولة نفي البُعد العروبي في القومية المصرية، بقطع النظر عن مضمون هذه الرسائل ودلالاتها! وخاصة أن بعضهم حوّل مسألة ضرورة إصلاح الجامعة وأدوارها وفعالياتها إلى مسألة الهوية!
الملاحظ أن مستوى الخطاب حول الهوية المصرية ذات البُعد الأحادي، واللاتاريخي، لدى بعض أشباه الليبراليين وبعض من أبناء الأقلية القبطية، يتسم بالسطحية، ودون مستوى السجالات التاريخية حول القومية المصرية وبعدها العروبي في المرحلة شبه الليبرالية ومرحلة السادات، بل وعدم الوعي بتحولات الهوية في عالم معولم وما بعده، ومن ثم نحن إزاء آراء شعبوية سطحية، دون وعي تاريخي، ومتابعات لتحولات مجتمعاتنا العربية، وعالمنا المتحول.
مسألة كاشفة عن تحول هوية مصر الراسخة والمتجددة والدينامية إلى صراعات هوياتية من بعضهم ترتكز على أوهام سياسية وانطباعات مرسلة، ولا سند لها من الواقع التاريخي والسوسيو-ثقافي، والسياسي ودينامياته.
المصدر: الأهرام