اللامركزية الإدارية الجغرافية الموسّعة في سورية المستقبل

img

نشرت هذه المادة في موقع الحوار المتمدن-العدد: 6974 – 30/7/2021

عبد الله تركماني

 

لأسباب تاريخية وسياسية وجغرافية عديدة، أصبحت سورية موطناً لعدد كبير من الأطياف المتعايشة جنباً إلى جنب، مما أثّر بشكل كبير في فرص تحسين علاقاتها ببعضها، والوصول إلى مرحلة الشعب بمفهومه السياسي الحديث. ولكن بقيت هذه الأطياف – عملياً – وبغض النظر عن الصورة الكاذبة التي كان يقدمها نظام آل الأسد، في حالة من التفكك والانغلاق على الهوية ما قبل الوطنية، فبقي الشعور الوطني السوري الجامع ضعيفاً.

أولاً: عوائق تقسيم سورية

وسط تقاسم النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية يجري الحديث عن تقسيم سورية إلى دويلات، غير أنّ هذا الحديث تعترضه عوائق عديدة، منها: أنه في ظل توازنات سياسية – عسكرية غير مستقرة، وفي ظل احتمالات تغيير مواقف القوى الخارجية في الموضوع السوري، وفي ظل عدم وجود قرارات دولية حول مستقبل سورية. وإرادة الشعب السوري، الذي اتخذ على عاتقه مهمة إبقاء سورية موحدة بعد رحيل نظام آل الأسد. خاصة في ظل عوامل أبرزها التداخلات السكانية، من حيث توزع الانتماءات القومية والدينية والطائفية على غالبية المحافظات السورية، وكذلك الروابط والمشتركات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتداخلة للسوريين.

ولكن، في ظلّ صراع الهُويات القائم اليوم، وكذلك المقتلة التي عصفت بسورية، أصبح السوريون في حاجة ملحّة إلى عقد اجتماعي جديد، ينقلهم إلى الحالة الوطنية الجامعة.

إنّ تقسيم الأمر الواقع الحاصل اليوم، لا يمكن أن يتحوّل إلى تقسيم سياسي يؤسس لكيانات جديدة. ولكن قد يكون خيار اللامركزية الإدارية الجغرافية الموسّعة متاحا، في حال حصل التوافق بين السوريين، خلافاً لخيار التقسيم الذي تقف دونه كثير من العوامل السياسية والميدانية والجغرافية والاقتصادية.

ثانيًا: تحديات فيدرالية PYD

لعلَّ أول متحقق لمحاولات تقسيم سورية، حدث في الشمال السوري، مع تشكيل كانتونات الإدارة الذاتية، التي فرضها حزب الاتحاد الديمقراطي(PYD) ، حين أرسى دعائم ما يشبه دويلة، تحت مسمى ” غرب كردستان “، وشكّل قوات عسكرية، دعاها ” قوات حماية الشعب “، وشكّل أيضاً شرطة معروفة باسم ” أساييش “، لعبت دوراً كبيراً في ملاحقة وقمع الناشطين الأكراد المختلفين مع ما يطرحه الحزب وتوجهاته، وممارساته.

ولعلَّ طرح حزب الاتحاد الديمقراطي لموضوع الفيدرالية، وقبلها الإدارة الذاتية، جعله موضع تساؤل، امتد إلى تناول علاقته بعامة الأكراد، وبالأحزاب الكردية، ولم يقف عند التباس الخطوات الانفرادية التي قام بها منذ قيام الثورة السورية، حيث أثيرت شكوك عن وجود علاقة بينه وبين سلطة آل الأسد، منذ سحب النظام قواته وأجهزته من المناطق ذات الغالبية الكردية، وتركها في عهدة مسلحي هذا الحزب.

حقيقة الأمر، أنّ التحديات التي تواجه قيام دولة كردية في شمال سورية، لا تقف عند عتبة الظروف الإقليمية والدولية فقط، فثمة عوامل تخص الحالة الكردية هناك، من المساحة الجغرافية الضيقة وامتدادها على طول الشريط الحدودي مع تركيا، على شكل ثلاث مناطق منفصلة، تخترقها مناطق ذات أغلبية عربية.

وعليه، يمكن وضع تصريحات بعض السياسيين الكرد، حول مشروع الدولة المستقلة والتهديد بالسعي إلى الاستقلال وتقرير المصير، ضمن خانة الاستثمار في عواطف القاعدة الشعبية الكردية، واستخدام هذه المطالب كأداة تفاوضية للحفاظ على شرعية محلية.

ثم أنّ المشروع الفيدرالي في شمال سورية ربما سيولّد نزاعاً جديداً بين مكوّناته لا يستطيع أحد التنبؤ بنتائجه، خاصة أنّ للمشروع حدوداً جغرافية قد تتسبب في نزاعات شبيهة بالنزاعات التي واجهها إقليم كردستان العراق مع حكومة المركز.

سورية، بخلاف العراق، لا تسمح طبيعتها الجغرافية، وتداخل مكوّناتها، بالقسمة وفق هذا التصوّر الذي يُراد الاسترشاد به، أو استنساخه، إذ لا يستطيع أيّ مكوّن الانفصال عن غيره، خاصة أنّ المكوّنات العرقية والدينية والمذهبية في سورية، ليس لها جغرافيا محدّدة، وليس لها أغلبية بشرية إلا في أماكن محدودة، غير مؤهلة لأن تكون أقاليم فيدرالية قائمة بذاتها.

وفوق كل ذلك فإنّ الحديث عن فيديرالية وديموقراطية لا يستقيم مع وجود حزب مهيمن يفرض سطوته الأحادية بالقوة المسلحة، لأنّ هذا سيكون نموذجاً لحزب بعث آخر. أما في حال أخرى، أي في حال حسم الأكراد الأمر باعتبارهم غير سوريين، أي أكراد يريدون انتزاع دولتهم القومية، ومن ضمن ذلك ما يعتبرونه أرضهم الخاصة من سورية، في هذه الظروف الصعبة والدقيقة، فهذا شأن آخر، ويخشى أن هذا سيضعهم في مشكلة أخرى، وإزاء حروب أهلية أخرى، ووقوداً لمآرب دولية وإقليمية، بغض النظر عن رأينا بمظلومية الأكراد التاريخية، وعدالة أو مشروعية حقهم في دولة قومية، في أراضيهم المتوزعة بين إيران وتركيا والعراق وسورية.

إنّ توزّع الأكراد الديموغرافي على قسم كبير من الجغرافيا السورية، خاصة في مدينتي دمشق وحلب، واختلاطهم الكثيف في مناطق الجزيرة السورية وشرق نهر الفرات بالعرب وغيرهم من القوميات الأخرى، يجعل الخيار الوطني السوري خياراً مفروضاً موضوعياً بقوة الجغرافيا والديموغرافيا.

ثالثًا: نحو عقد وطني جديد

إنّ الأمر يتطلب بلورة عقد وطني جديد، وهذا يستدعي أن يتناول الحل السياسي القادم المسائل الأساسية كافة، التي تهم جميع المكوّنات السورية، من خلال انخراط الجميع في عملية صياغة هذا العقد، مع توفير الضمانات لإنجاحه وتثبيت نتائجه وحماية هذه النتائج.

مما يستوجب الانخراط في إنتاج نظرة سورية راهنة إلى سائر القضايا السورية، وما يعنيه هذا من ضرورة الانتقال من الصراع القومي إلى الحوار الوطني، الهادف إلى بناء الدولة الوطنية الحديثة، دولة كل مواطنيها المتساوين في الحقوق والواجبات.

وفي هذا السياق فإنّ وحدة القوى الديمقراطية العربية والكردية ضرورية، لنيل حقوقهم كاملة في مرحلة ما بعد الاستبداد، بدعم من جميع الأطياف الديمقراطية التي ستشترك في بناء النظام الجديد، سيجعل من الاستحالة تجاوز حقوق كل الأطياف.

لهذا تبدو الحاجة ملحّة الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى تنظيم وإطلاق حوار وطني واسع، يقوم به سوريون أحرار، يمتد ليشمل البلد بأكمله، ويفضي إلى عقد اجتماعي جديد. وإنه لأمر بديهي أنّ استعادة الدولة أولاً، وإرساء الدولة الوطنية الحديثة، والمجتمع الديمقراطي التعددي ثانياً، يشكلان حجر الزاوية في العقد الاجتماعي المأمول.

وهكذا، يخطئ من يعتقد بأنّ الرفض والإدانة للفيديرالية والعودة للتهديد بأساليب القهر والقسر يمكنها حماية وحدة البلاد، فالطريق المجربة للحفاظ على اللحمة الوطنية هي حين تنظم حياة السوريين قوانين لا تميّز بينهم ويتلمسون بأنهم بشر متساوون في الحقوق والواجبات، طريق لا يمكن أن تنهض إلا بنقد الماضي المكتظ بكل أنواع الظلم والاضطهاد، والاعتراف بأنّ النظام المركزي بنسخته الشمولية ذهب إلى غير رجعة. ما يعني ضرورة إعادة النظر بأفكارنا القديمة، وبشعاراتنا عن التعايش والتعددية، استناداً إلى أنّ وحدة الوطن ومعالجة تنوعه القومي والديني، لا يمكنهما أن تتحققا بصيغة عادلة إلا على قاعدة الديموقراطية ودولة المواطنة.

رابعًا: اللامركزية الإدارية الجغرافية الموسّعة لسورية المستقبل

إنّ الخيار ليس بين المركزية الطاغية، أو التقسيم، أو الفيدراليات الطائفية والقومية، بل هو بين هذا كله وبين نظام ديمقراطي حقيقي، تُضمَن فيه صلاحيات الحكومة المركزية، في المجالات الكبرى كالخارجية والدفاع والعملة وإدارة الموارد الاقتصادية الرئيسية، حكومة قادرة على حل القضايا المعلقة والشائكة. إنه أيضاً النظام الذي يضمن، في الوقت نفسه، أوسع الصلاحيات للمحافظات والمناطق والنواحي والبلدات.

وفي الواقع، تتطلب العقلانية التعامل مع الجدل السوري الجاري بشأن حدود النظام اللامركزي من زاويتين مهمتين: أولاهما، على أنه يقدم الحل لمشكلة مزمنة هي مشكلة المكوّنات القومية والدينية ضمن الدولة السورية الواحدة. وثانيتهما، أنه يقدم الحل لإشكالية الحكم في دولة يصعب قيادتها مركزياً. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: إذا كان نظام اللامركزية الإدارية الجغرافية الموسّعة يقدم الحل لهاتين المشكلتين المزمنتين سورياً فألا يستحق من الجميع التوقف عنده وإعطاء الفرصة له بعيداً عن الشعارات الجاهزة والتي تساويه بالتقسيم والخيانة؟

مع العلم أنّ هناك اتفاقاً عاماً، بين علماء السياسة، على أنه لا يمكن الاعتراف بأنّ نظاماً سياسياً ما هو نظام ديمقراطي إذا لم يتوافر فيه شكل أو آخر من أشكال الحكم المحلي، باعتباره مرحلة التعليم الأساسي للديمقراطية، بما يؤهل الفرد لممارسة السياسة على المستوى الوطني. ذلك أنّ العمل المحلي يحتاج إلى قدر كبير من المشاركة، سواء في انتخاب أعضاء المجالس المحلية أو المساهمة في المشاريع التنموية، التي يتم إنشاؤها داخل الوحدة المحلية، أو الرقابة على الأعضاء ومحاسبتهم على أدائهم ومطالبتهم بتقديم كشف حساب إلى هيئة يكوّنها الناخبون، تناقشهم في الأعمال المزمع القيام بها وتراجعهم في أوجه القصور، وتساعدهم على تلافيها، وقيمة المشاركة تتطلب وجود قدر مرتفع من قيمة الحرية. والحرية والمشاركة يضمنان قدراً من العدالة في توزيع الموارد والأعباء المحلية، ويحفظان للمواطنين حقهم في المساواة أمام المجالس والنظم المحلية.

وإذا كان النظام المحلي له هذا الدور الهام في تحقيق الوحدة الوطنية الطوعية، فإنّ القيم السياسية الحديثة هي بيت القصيد في هذه العملية، فالمشاركة السياسية مثلاً تقوّي الوحدة الوطنية السورية، والمشاركة عن طريق اللامركزية تسمح للولاءات الفرعية بأن تعبّر عن نفسها دون كبت، ما يؤدي إلى التخفيف من وطأتها فلا تصبح معضلة في سبيل تحقيق الوحدة الوطنية.

وهنا لا بدّ من التنويه إلى أن اللامركزية، من حيث المبدأ، هي أحد الأشكال المضافة إلى مفهوم الدولة، وقد جاءت تلبية للحاجات التي يقتضيها تطور المجتمعات البشرية، في تاريخها الحديث والمعاصر، وبهذا المعنى، هي معطى حداثي بامتياز.

وبما أنّ اللامركزية وليدة الدولة الوطنية القوية، دولة الديمقراطية والمواطنة، فهي مصدر لقوة هذه الدولة أيضاً، ثم إنّ علاقة جدلية وطيدة تربط بين اللامركزية من جهة، والديمقراطية والمواطنة والهوية من جهة أخرى.

وهكذا، بإعادة رسم الخريطة الإدارية السورية نستطيع أن نتحاشى اشتراط البعض لنصوص دستورية أو قانونية تشكل ألغاماً يمكنها أن تنفجر بأي لحظة، وأن نتجنب تحكّم ظلال الماضي المعتم بمستقبل سورية. فعندما تضمن كل الأطياف تمثيلها في مناطقها، فإنها ستقوم من خلال الممارسة الديمقراطية بانتخاب ممثلين لها وفقاً لأسس المصلحة العامة والكفاءة والفاعلية والمردودية، وهذا هو مفهوم النظام الديمقراطي الذي تقوم عليه الدول.

في هذا البحث عن الذات، وإحياء القيم الإنسانية المرتبطة بها، قيم الألفة والتعاون، ينبغي وضع النزوع الكبير اليوم إلى كسر مركزية الدولة التسلطية، والتعلق بإقامة نظام أكثر حميمية وقرباً من مشاعر الناس وعواطفهم، وأكثر بعداً عن الوطنيات الأيديولوجية الفارغة، التي لم يكن هدفها سوى التغطية على الاستبداد. وسيكون ذلك في مصلحة تعميق المشاركة في الحياة الوطنية، وتعزيز فرص التنمية الاجتماعية والإنسانية معاً.

وهكذا، يتحدد فهمنا للامركزية الإدارية الجغرافية الموسّعة على الأسس التالية:

1- قيامها على وحدة سورية وطناً لكل السوريين، من خلال تنظيم الإدارة المحلية، وتنظيم تقاسم الموارد، لمنع تسلط المركز، واستحواذه على معظم موارد البلد، وضمان توسيع المشاركة في الحكم وصياغة القرارات المصيرية.

2 – لا تعني قيام كل محافظة بإقامة علاقات خارجية أو تشكيل جيش أو عملة أو علم خاصين بها، وإنما تعني إدارة شؤونها في قضايا التعليم والصحة والخدمات والأمن الداخلي، أما الشؤون السيادية، وضمنها الخارجية والدفاع وإدارة الاقتصاد، فتبقى في يد السلطة المركزية.

3 – تقوم على أساس جغرافي، وليس على أساس قومي أو طائفي، لأنّ ذلك يتناقض مع دولة المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات.

4 – لا يتم تعريف المواطن بقوميته أو دينه أو مذهبه أو جنسه، فالمكانة الحقوقية متساوية لكل المواطنين.

وبذلك يتوفر التنوّع في الممارسة الإدارية بين الوحدات المحلية، وهو ما قد يقدم نماذج أكثر فاعلية لخدمة المواطنين، ويترك لهذه الوحدات الفرصة لتحديد الأنسب لبيئتها المحلية في مجال الخدمات والضرائب والإطار العام للحياة، مع مراعاة خصوصيات السكان في كل منطقة.

إنّ الثورة السورية فرضت علينا واقع جديد، يتمثل بفشل الدولة المركزية الحالية بإدارة سورية، مما يشكل خطراً على بقائها كدولة، ويعرّضها لمخاطر التقسيم العرقي والديني وهنا نهايتها. بينما اللامركزية ستعطي شعوراً أكبر بالحرية لدى السوريين، وبالتالي سيزيد ترابطهم الوطني، وسيزيد كذلك شعورهم بالمسؤولية تجاه الفساد وضعف الإنتاج والتنمية الشاملة.

فإذا كان للامركزية الإدارية أن تكون صيغة مناسبة لاتحاد سوري، يطوي صفحة التصورات القومية والمركزية لسورية، يقتضي الأمر أن تكون النخب السياسية جادة في شأنها، وأن تقوم على تفاهم سياسي عريض، وتُراعى مقتضيات قيامها من استشارة السكان وتوفير تمثيل فعّال لهم، ومن توفير بيئة أكثر ملاءمة للاتحاد في البلد ككل، وفي المحافظات والمناطق والنواحي والبلدات.

خاتمة

في ظلّ صراع الهُويات القائم اليوم، وكذلك المقتلة التي عصفت بسورية، أصبح السوريون في حاجة ملحّة إلى عقد اجتماعي جديد، ينقلهم إلى الحالة الوطنية الجامعة. ولعلَّ مشروع اللامركزية الإدارية الجغرافية الموسّعة سيكون مساهمًا في وقف النزيف السوري، وبناء مستقبل سورية الغد في إطار التعددية والديمقراطية، كما سيساهم في ازدهار البلاد اقتصادياً، وتماسكها كوحدة جغرافية تقطع السبيل أمام التقسيم والتشتت.

ليست اللامركزية مجرد ضرورة ديموقراطية وتنموية في سورية فقط، وإنما هي ضرورة لحسن تحاور وتجاور السوريين بمختلف مكوّناتهم، وللتدرب على الحكم الذاتي.


Author : الدكتور عبد الله تركماني

الدكتور عبد الله تركماني

RELATED POSTS

Comments are closed.