السوريون قتلى النظام واللجوء والزلزال.. موتهم في كل مكان

img

درج – 16 شباط 2023

أغلق الموت الفظيع المنافذ أمام السوريين، مستخدماً كل أرصدته الفظيعة، والمؤلمة، والقاسية، وغير المسبوقة، إلى درجة يموت الكلام معها، أو يصبح غير قادر على مطابقة المعنى، في هذا الهول السوري الممتد منذ أكثر من 12 عاماً.

ربما لا يوجد شعب اختبر الموت، أو اختبره الموت، بكل أشكاله، كما السوريين، ومن في حكمهم ككرد سوريين وكفلسطينيين سوريين، فقد قتل السوريون بالكيماوي، وبالبراميل المتفجرة، وبهراوات الشبيحة وسكاكينهم، ونتيجة أفانين التعذيب المهولة في المعتقلات الرهيبة، وبرصاص حرس الحدود.

ومات سوريون كثر غرقاً في البحر، فيما كانوا يطلبون عيشاً آمناً، وماتوا من الجوع في المناطق التي خضعت لحصار مشدد (وضمنها مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين)، وماتوا من الصقيع في مخيمات البؤس على الحدود التركية في الشمال السوري، والآن ماتوا من الزلزال الذي دفن آلافاً منهم في الجنوب التركي وفي الشمال السوري.

أغلق الموت الفظيع المنافذ أمام السوريين، مستخدماً كل أرصدته الفظيعة، والمؤلمة، والقاسية، وغير المسبوقة، إلى درجة يموت الكلام معها، أو يصبح غير قادر على مطابقة المعنى، في هذا الهول السوري الممتد منذ أكثر من 12 عاماً.

بيد أن الأشد هولاً، ربما، من كل تلك الفظائع هو الخذلان، أو التنكر، اللذان واجههما الشعب السوري، من قبل النظامين العربي والدولي. وجرائم النظام السوري الحاكم منذ أكثر من ربع قرن، لا تغطي عليها، ولا تخفف منها، العقوبات الدولية، ولا محاولات العزل الضعيفة تجدي مع نظام لا يهمه سوى بقائه سيداً على “التركة”.

التنكر والخذلان في الحالة السورية، تكثفا معاً في لحظة الزلزال، فتركيا، مثلاً، التي عانى شعبها من نكبة الزلزال، باتت حكومتها تطلب موافقة النظام السوري على فتح معابر، لإدخال مساعدات إنسانية الى الشمال السوري، كأنها نسيت، فجأة، أنها اجتاحت تلك المنطقة مراراً، أقله في ثلاث عمليات عسكرية (درع الفرات 2016، وغصن الزيتون 2018، ونبع السلام 2019)، وأن قواتها موجودة في أكثر من منطقة من دون إذن من أحد، وأن الفصائل المعارضة في تلك المنطقة طوع أمرها، كما تمثل ذلك في العمليات العسكرية المذكورة. وطبعاً، ففي كل ذلك تبدو تركيا كأنها نسيت توعدها، منذ عامين، باجتياح الشمال السوري بعمق 30 كلم، وهي ذاتها المنطقة التي استهدفها الزلزال، الذي زلزل كل شيء.

هذا يشمل الولايات المتحدة الأميركية، التي باتت تطلب من مجلس الأمن الدولي التدخل لفتح معابر رسمية معترف بها، علما إنها مع ميلشيات “قسد” (الكردية) تسيطر على شرقي الفرات، وهي تقوم بين فترة وأخرى بعمليات عسكرية ولا ينقصها لا الآليات ولا الطائرات، لغوث المحتاجين ودعم فرق الإنقاذ في مناطق الشمال السوري الخارجة عن هيمنة النظام.

الغريب، أيضاً، أن الأمم المتحدة، التي كانت أوقفت عد ضحايا النظام، منذ سنوات بعدما تجاوزوا مئات الآلاف، تناست كل ذلك وباتت تطلب منه الإذن لفتح معابر، كأنها تطالبه بأن يرأف بالسوريين الذين هجّرهم، وقتل أهلهم، وطمرهم بالبراميل المتفجرة، في مشهد سريالي عجيب، فيما الرئيس ذاته يزور حلب، ويوزع ابتسامات لا معنى لها.

الحقيقة أن كل المشهد ينم عن “خيانة” السوريين، لآمالهم، ووجودهم، وحتى لإنسانيتهم، إذ تم التمييز في محاولات إنقاذ السوريين في تركيا، وتأخير وصول المساعدات الغذائية والإنسانية للمنكوبين في الشمال السوري، والحؤول دون وصول آليات للتمكن من رفع الأنقاض وإنقاذ ما يمكن إنقاذه إلى الشمال السوري؛ وهو دور حاولت منظمتا “الخوذ البيضاء” و”فريق ملهم” تغطية ما يمكن بإمكانياتهم المحدودة.

“الخيانة” تتمثل، أيضاً، في أن كل تلك الدول التي اعتبرت نفسها “صديقة” للشعب السوري، والتي كانت أخذته، أو استدرجته للعمل المسلح، قبل عشرة أعوام، بما استنزفه، وضيع طاقته الكفاحية، وقوض صورة ثورته، هي ذاتها الدول التي تخلت عنه فيما بعد، فتركيا ذهبت إلى التحالف مع روسيا وإيران (شريكي النظام!) في ما عرف بثلاثي استانة. أما الولايات المتحدة الأميركية، فعسكرت في شرق الفرات (كراعية لقوات قسد)، في حفاظ على معادلة قوامها عدم الحسم، أي إبقاء الوضع السوري من دون أي حل.

بيد إن “الخيانة” تبدو واضحة وجلية في حقيقة أن تلك الدول “الصديقة” التي أدخلت كل تلك الأسلحة والذخائر والجماعات المقاتلة، من هذا البلد أو ذاك، بدت لا تريد أن تفعل شيئاً لإدخال مواد غذائية، أو طبية، أو آليات للحفر ورفع الأنقاض.

الزلزال هو نكبة القرن الحادي والعشرين (للسوريين والأتراك)، إن في عدد ضحاياه، أو في دمار مدن، عمرها مئات أو آلاف السنين (انطاكية عمرها أكثر من ألفي عام)، لكن الكل يريد أن يهرب من الزلزال، أو يريد أن يختطفه، فالنظام الذي قتل شعبه وشرده، ودمر مدناً وقرى، يريد صك براءة، ويريد تعويم نفسه على الصعيد الدولي، كأنه يريد تصفير العداد، أو تبييض صفحته.

تركيا – أردوغان تريد فتح صفحة جديدة، نقيض ماضيها، لتجدد شرعيتها، فالانتخابات على الأبواب، والآن باتت تداعيات الزلزال تضاف إلى الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالاقتصاد التركي منذ سنوات.

أما الولايات المتحدة فما زالت عند ترددها في حسم الصراع السوري، بأي اتجاه، مركزة على بقاء إسرائيل آمنة في بيئة عربية مضطربة، كمصلحة استراتيجية لها.

منذ مطلع عام 2011، بات السوري منذوراً للموت، لمجرد أنه يريد التحرر من الهامش والذهاب إلى المتن، لمجرد أنه يريد أن يخرج من الصورة، كي يدخل في التاريخ، كفاعل بشري، ضد نظام أصم، جمد الزمان والمكان والمعنى في ما يعرف بـ ”سورية الأسد”.

لا أدرى ما الذي كان سيقوله محمود درويش في “فنون” الموت السوري، بكل فظائعه، وهو الذي قال:

هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها

هزمتك يا موتُ الأغاني في بلادِ

الرافدين. مِسَلَّةُ المصري، مقبرةُ الفراعنةِ،

النقوشُ على حجارةِ معبدٍ هَزَمَتْكَ

وانتصرتْ، وأفْلَتَ من كمائنك الخُلُود…

فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد.


الكاتب ماجد كيالي

ماجد كيالي

كاتب فلسطيني سوري

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة