التراكم الثقافي والسياسي في عهد الأسد ودور المثقفين النضالي

img

منطق التاريخ والتحليل العلمي يؤكدان أن الشعوب التي تراكم في ذاكرتها وعقلها وعياً سياسياً مطابقاً لواقعها لا يمكن إلا أن تنهض من سباتها يوماً ما وتقول: لا للمستبد وتصرخ في وجهه وفي وجه من سلبها حقوقها في العيش الكريم والحرية والكرامة.

يخطئ من يعتقد بأن الثورة السورية هي وليدة لحظتها، ويخطئ من يغفل دور المثقفين والنخب الفكرية في قيامها، لقد كان الحراك المجتمعي ينحت في الصخر منذ اغتصاب السلطة 1970 وفي تحمل مسؤوليتها الوطنية، وأول من دق ناقوس الخطر بانهيار سوريا كدولة هم ناشطو المجتمع المدني في سوريا ومعهم بقايا القوى السياسية رداً على الواقع المزري وعلى آل الأسد الذين حولوا البلاد إلى مقبرة للفكر والسياسة والاقتصاد، ومزّقوا نسيج المجتمع عمودياً وأفقياً وأغرقوه في أزمات لها أول وليس لها آخر وتسببوا في تصحر سوريا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، ومارسوا التنكيل على خيرة مفكريها ومثقفيها وعلمائها وزجوهم في المعتقلات بمن فيهم “رفاق” درب الأسد، كصلاح جديد ونور الدين الأتاسي لسنوات طويلة.

وفي نهاية حكم الأسد الأب وقبل إعلان موت الديكتاتور مؤسس مملكة الدمار في سوريا عام 2000، بدأ بعض المثقفين ذوي الميول اليسارية والليبرالية وبولادة عسيرة، تنشيط مفهوم المجتمع المدني والبحث عن كيفية التأسيس لفكرتهم نحو التحول الديمقراطي الذي كان يشهده العالم أيضاً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، تم ذلك عبر لقاءات دورية للتأكيد والتصميم على استرداد المجتمع لعافيته ووعيه الجمعي رداً على السلطة التي أعادت المجتمع السوري إلى الوراء في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ومزقت نسيجه الوطني وأغرقته في أزمات داخليه مستعصية وصدام وخلاف دائم مع المحيط العربي والإقليمي والدولي.

يقول د. رضوان زيادة في كتابه “السلطة والاستخبارات في سوريا طبعة 2013” إن المعارضة السورية شهدت نقاشاً داخلياً حاداً حول ضرورة الانتقال من المعارضة المطلبية إلى شكل من أشكال العمل السياسي المنظم، وطرحت أسئلة منها:

كيف نعيد السياسة للمجتمع بعد احتكارها من قبل النظام الذي هتك ومزّق البلاد عمودياً وأفقياً وألغى السياسة، ومن هنا توجه المثقفون إلى تأسيس منتديات للحوار الوطني، منتدى جمال الأتاسي في العاصمة دمشق مثالاً، وجل هذه المنتديات التي انتشرت في معظم المحافظات كانت تبحث عن حلول لما آلت إليه حالة البلاد بعد أن حاول بشار الأسد ببعض الخطوات لتجميل وجه نظامه في الخارج بتحديث قانوني وإجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية دون إصلاح سياسي، ودون ملامسة جوهر المشكلة بالإبقاء على عمق الدولة الأمنية وعلى بنية الجسم الذي أسسه حافظ الاسد.

من هنا بدأ ربيع دمشق نحو الانعطاف الكامل بالخطاب والممارسة والأهداف نحو فضاء الحرية كخيار لا رجعة عنه، يقول د. زيادة: إن مشروعاً سياسياً بوزن إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي الذي صدر في تشرين الأول 2005 لم يكن وليد لحظة عابرة أو توافق لحظي، وإنما أسس لربيع دمشقي من قبل مؤسسيه وحراكهم لضرورة تحديث سياسي واقتصادي وقانوني، وقد خضعت ورقيات إعلان دمشق قبل ولادته إلى حوارات جدية وصعبة بين مختلف الأطياف الموقعة، ما جعلها اكثر توازنا واسفرت عن تشكيل تحالف سياسي جمع قوى واحزاب وشخصيات وطنية مستقلة منها، رياض سيف الصناعي المعروف وسمير نشار ود. عبد الرزاق عيد وميشيل كيلو وحسين العودات إلى جانب التجمع الوطني الديمقراطي، وبالرغم مما تعرض إليه أعضاء هذه الأحزاب من قمع واعتقال وتشريد فقد انتجت حالة ثورية سجلت لها في التاريخ السوري وسوف تستمر في الثورة السورية.

ولكي لا نبخس حقوق ناشطي ربيع دمشق فإن هذه الحقبة انطلقت من مبادرات فردية أولاً وثم جماعية عبر بيان الـ 99 وتبعها بيان الـ 1000 والموقعون كانوا من خلفيات فكرية واجتماعية وثقافية مختلفة، ومنهم تكنوقراط وحقوقيين، أجمل ما فيها أنها بدأت من تحت، وليس من فوق، فالفكرة الديمقراطية لم تنتصر في التاريخ السوري كما انتصرت في الوعي المعارض، من خلال التمسك بمبادئ الديمقراطية والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وجاء هذا مطابقاً مع برنامج حزب الشعب الديمقراطي السوري “الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي”، الذي أعلن في المؤتمر السادس نيسان 2005 انحيازه إلى الديمقراطية والاحتكام إليها كخيار نهائي وعبر النضال السلمي ومن أجل نظام وطني ديمقراطي بعد عقود من فشل تجربة الدولة التسلطية والأمنية القائمة على حكم الفرد وعلى فكرة القائد الأوحد والحزب الواحد، التي أدت إلى إغراق البلاد في أزمات داخلية خانقة وإلى تمزيق اللحمة الوطنية عبر التمييز بين أبناء الوطن الواحد.

هذا المأزق يتطلب العودة إلى بناء الدولة الدستورية – دولة القانون، عبر مأسستها وفقاً لبناء دستوري عصري ديمقراطي مبني على مبدأ فصل السلطات وعلى نظام برلماني، الأمر الذي يتطلب القطع مع الاستبداد والتمسك بمفهوم الديمقراطية وآليات تطبيقها والتعلم من تجارب الدول التي مرت بحالة مشابهة وبذلك نكبر مع ثورتنا التي تجدد نفسها بفكرها ووعيها وخطابها، وما الحراك الحالي في الشمال السوري إلاّ تأكيداً على السير إلى الأمام برفض المصالحة والتطبيع، والمطالبة بتغيير شامل لنظام آل الأسد.

الربيع الثاني للثورة كقيم ومبادئ وأخلاق، عاد وسيستمر في حمل مشروع بناء الدولة السورية وفقاً لمبدأ محاسبة منتهكي حقوق الإنسان السوري وتقديم القتلة ومرتكبي الجرائم إلى محاكم عادلة بعيداً عن الثأر والانتقام، وعندها تكون المسامحة والمصالحة على أرضية وطنية برد الظلامات وبلسمة الجراح والآلام وجبر الخواطر.

ما يجب علينا السعي من أجله في خطابنا الوطني، هو إعادة السياسة والعقلانية إلى الدولة والمجتمع المسلوبتان منه.


الكاتب إبراهيم ملكي

إبراهيم ملكي

محامٍ وناشط في مجال حقوق الإنسان، عضو المكتب التنفيذي في الهيئة الوطنية السورية

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة