العقد الاجتماعي المستقبلي لسوريا
رغم المتغيرات الدولية بقيت علاقة الأفراد بالسلطات المستبدة تشبه النظام الاقطاعي وعلاقته بالأقنان في المرحلة القروسطية، باطنها قمع وذل وقتل وتعذيب. وقد يأخذ الحاكم صفات إلهية كونه لا يتقيد بأي عقد اجتماعي أو مرجعية. وسوريا كوطن لم يكن فيها عقد اجتماعي سوى النموذج الهوبزي، الذي أسسه توماس هوبز الفيلسوف الألماني في رؤيته للدولة (الوثايان)، التي تلزم الأفراد بالطاعة المطلقة (وحش هائج في يده جميع السلطات).
والثورة السورية كانت مثال صريح وواضح في الانتفاضة على هذه السلطة المستبدة، (حين ينكسر العقد الاجتماعي وينتفض الشعب ولا يعود المواطنون ملزمون بطاعة السلطة يفسخ العقد من تلقاء نفسه ويمنح الشرعية الأخلاقية للثورة). ولأن السلطة لم تلتزم بالحد الأدنى من العقد الاجتماعي المكتوب بينهما مما أعطى الحق للسوريين بأن ينتفضوا ضد هذا النظام، ولأن جميع اللقاءات بين الجمهور والسلطة والتفاوض أثناء الاحتجاجات باءت بالفشل، كون لغة القمع والإقصاء والعنف ضد الطرف الآخر من العقد (الشعب) كان الغالب.
وما الفيديو المسرب من محافظة السويداء منذ أيام وتعامل أحد رموز النظام مع وجهاء السويداء إلا مثال فاضح على كل ما قيل عن المجتمع السوري بأنه غير موحد أو ممزق، وإنما حقيقة ناجمة عن سلوك إقصائي لهذه العصابة الكبتاغونية التي تجلت عن فعل سلطة استبدادية، وتجلى ذلك بتحولها من سلطة مستبد ة إلى مافيا غير خاضعة لأي مبدأ توافقي أو محاسباتي وخلق ت ثنائيات عرقية وطائفية واثنية ودينية.
مزقت هذه السلطة كل العقود العرفية والمكتوبة، وضربت أخلاقيات المجتمع، وأساءت إلى اللحمة الوطنية وللأعراف الاجتماعية التي كانت راسخة بالمجتمع من قيم وأخلاق ومواطنة، والذي يفترض في العقد الاجتماعي كمفهوم بأن هناك أفراد في بلد ما يتفقون فيما بينهم على شخص يسمى السلطة، ويعد الحاكم طرفاً في هذا العقد المبرم بين أطرافه، وفقاً للعقد شريعة المتعاقدين تستلزم التوافق، وقد يكون حافظ الأسد تبنى موقف توماس هوبز في الاستحواذ لكل السلطات المطلقة، وهو هوبزي السلوك والنهج والممارسة على أرض الواقع.
سوريا كدولة لم يكن لها عقد اجتماعي للحد من تصرفات السلطة الجائرة وعسفها، والتي تجاوزت كل المحذورات ولم يكن يوماً ما لسلطة الأسد أي التزام نحو المجتمع السوري.
وهذا ما بحثته منظمة وحدة الدعم والاستقرار في دراستها (تطلعات المجتمعات المحلية لعقد اجتماعي سوري جديد)، وهذه المنظمة التي تأسست في غازي عينتاب التركية عام 2018 تهدف في عملها لبناء السلام وتعزير الديمقراطية وتعزيز الاستقرار في سوريا عبر مشاريع الخدمات والحوكمة، وتقديم الدعم اللوجستي للأفراد السوريين، وبهدف الوصول إلى سوريا دولة ديمقراطية مدنية يسود فيها السلام والأمان وتحقق العدل والإنصاف لجميع مواطنيها، وأيضاً تهدف الدراسة إلى تقديم تصور عن عقد اجتماعي مستقبلي جديد عبر قيامها بدراسات ميدانية (مناطق محررة)، واستطلاعات ودراسات واستبيانات وإقامة ورش ميدانية داعمة في مناطق اعزاز والباب والراعي، لاستمزاج آراء بعض السوريين وما هي تطلعات المجتمع الأهلي لسوريا المستقبل، وكيف ينظرون إلى دولتهم في المستقبل، وقد أكد الجميع على العقد الاجتماعي ودوره في ترسيخ وبناء علاقة عقدية بين الأفراد والدولة والسلطة.
فالعقد الاجتماعي هو اتفاق الأفراد والسلطة في تنظيم العلاقة فيما بينهم على إدارة دولتهم، التي تعبر عن إرادتهم العامة ذات السيادة العليا.
وقد طرح سؤال في معرض هذه التطلعات وهو الأهم برأينا
ماهي مخرجات العقد الاجتماعي الجديد لمستقبل سوريا؟ ما هو الممكن وماهي الطموحات؟
من خلال أجوبة العينات والاستبيانات الميدانية أكد بعضهم على أن أساس العقد الاجتماعي هو التماسك المجتمعي الذي يسبق العقد الاجتماعي، ويعتبر أول خطوة في بناء الدولة بعد غياب دام أكثر من 50 عاماً ويزيد، ويرى آخرون بأن العقد الاجتماعي يجب أن يكون بين مكونات المجتمع (مصالحة – ومسامحة – محاسبة)، بمعنى ليس فقط بين سلطة ومجتمع وإنما بين أطراف العقد والتواصل فيما بينهم.
مشكورة وحدة الدعم بطرحها روئ للعقد الاجتماعي، وماهي تطلعات المجتمع المحلي السوري للبديل عن هذا العقد الضعيف في تقديم الخدمات والمنافع، وحالي أعتقد بأنه انخفض إلى أدنى مستوياته وانهار تماماً في ثورة سوريا آذار 2011 وما يحدث الآن في الداخل يشبه الكارثة، بعد أن رفعت تلك الانتفاضة الغطاء عن هشاشة الوضع الداخلي.
وأيضاً، ومن خلال استطلاع قامت به وحدة الدعم أكد المستطلعون على المشاركة السياسية في صنع القرار وفي الصحة والتعليم باعتبارها من سلم أولويات العقد لاجتماعي، وتم التأكيد من قبل المشاركين بأن التوصيات أغلبها متعلقة بموضوع المشاركة في الشأن العام وتطوير الحريات الفردية والليبرالية الاقتصادية والتوثيق، لكيلا نعود إلى دائرة الاستبداد مرة أخرى والقطيعة مع النظام الحالي، وعدم منحة أية ثقة، ولا يمكن إصلاحه كون بنية النظام الميليشاوية واقتصاده ذات تركيبة لا ينطبق عليها أي نظرية اقتصادية.
وواقع الحال هذا لا يمكن أن ينتج أي عقد اجتماعي بين شعب وسلطة، هي سلطة قمعية مستبدة، ما نستطيع قوله إن غياب وانعدام المشاركة السياسية وغياب الحريات، وكم الأفواه وتدمير المؤسسات الإنتاجية وتحول سوريا إلى مقبرة أموات لا حياة فيها، إلا للعصابة الأسدية وغاباتها بدون تغير المعادلة، لا يمكن أن ينتج عقداً اجتماعياً سليماً ومتوازناً، ونبقى ننفخ في قربة مشروخة.
ومن حيث النتيجة، فالثورة السورية عرت النظام وأسقطت عنه وريقات التوت، وأثبتت بأننا كنا في إقطاعية هوبنزية ولم يكن لدينا عقد اجتماعي ونحن في القرن الحادي والعشرين.
لذا لابد من بناء تماسك مجتمعي يستند إلى هوية وطنية سورية جامعة تكون ضامنة للهويات الفرعية في حقوقها المدونة في صلب العقد الاجتماعي المستقبلي، وإبراز دور الهويات السورية بعد أن طمسها الاستبداد عمداً، وغيب الحريات العامة التي تعد بحق روح الهوية الوطنية، وتعمل في بناء الدولة الحديثة كما جاء في دراسة للأستاذ محمود الوهب. وبالتالي فإن أي عقد اجتماعي لا يستند إلى أرضية هوياتية لا يكون عقداً.
وكذلك تكون إعادة السياسة إلى المجتمع، وغيابها كان السبب الرئيس في تمزيق المجتمع وتفتيته وتلازم بناء اقتصاد ليبرالي، وتنمية مستدامة وإعطاء دور للطبقة الوسطى في تماسك بنية المجتمع، بحيث يصبح ربط دينامو الانطلاق في تشغيل محرك الدولة.
نذهب إلى القول: هل نستطيع إنتاج عقد اجتماعي (سوري – سوري) تكون الحرية هدفاً وعنواناً للمرحلة القادمة، تؤدي إلى المشاركة السياسية مع صياغة منظومة متكاملة في مواجهة أي سلطة مستبدة لاحقاً، وبها سيكون قد صنعنا هوية وطنية جامعة لكل المواطنين السوريين؟.