الحرب الأوكرانية : روسيا دولة عادية لكن مع مخالب نووية
26 آذار 2022 – النهار العربي
بعد شهر على الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا يمكن ملاحظة انحسار زخم تلك الحرب، مع تراجع في الخطاب السياسي الروسي، الذي تدرج من مجرد حماية جمهوريتي الدونباس، شرق ذلك البلد، والدفاع عن مكانة اللغة الروسية، إلى استئصال النازيين والقوميين المتطرفين، والنأي بأوكرانيا عن “الناتو”، وصولاً إلى تصحيح ما اعتبر بالخطأ التاريخي المتمثل بتشكيل دولة أوكرانيا، إن باستعادتها إلى الوطن الأم روسيا على غرار ما حصل في الشيشان (1999)، أو بإعادتها إلى بيت الطاعة، في حضن تلك الأم ورعايتها، على غرار بيلاروسيا وكازاخستان.
هكذا بتنا، اليوم، إزاء خطاب يركّز على أن ما يجري مجرد عملية عسكرية لتأديب “الابن” العاق، لتبرير طول العملية، أو بالأحرى للتغطية على إخفاقاتها أو تخبّطها. أما على الصعيد السياسي فثمة حديث روسي عن دعوة إلى مفاوضات يتهرب منها الطرف الأوكراني بدعوى خضوعه أو انصياعه لإرادة الأطراف الأوروبيين والولايات المتحدة.
ثمة معطيات دفعت إلى ذلك التعديل، أو النكوص، أولها، صمود الشعب الأوكراني، ووحدته، وتصميمه في مقاومته الغزو العسكري الروسي، الذي فاجأ روسيا وغيرها. وثانيها، الضغط الخارجي غير المسبوق، المتمثل بالعقوبات الاقتصادية والتكنولوجية المفروضة على روسيا، المتصاحبة مع إجراءات العزل السياسي. وثالثها، الدعم العسكري واللوجستي والاستخباري، للجيش الأوكراني من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ومن ضمن ذلك بشكل خاص تقديم مضادات طائرات ودبابات ومسيّرات. ورابعها، انكشاف حال الترهل في الجيش الروسي، وفي منظومات الإدارة والتواصل والإمداد والقيادة، الأمر الذي قدم روسيا كدولة لديها سلاح لم يثبت في حرب حقيقية مع جيش، أو مع دولة أخرى، بقدر ما ثبت في قصف شعب أعزل، بالصواريخ والقنابل من البر، أو من الجو، كما حدث في الشيشان (غروزني 1999)، وكما حدث مع جورجيا (2008) وأوكرانيا (2014) وسوريا (منذ أواخر 2015) .
في الغضون تتركز محاججة روسيا في تلك الحرب على مسائل عدة يتمثل أهمها في:
الأولى، مخاطبة العالم، لا سيما الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بضرورة مراعاة مكانتها باعتبارها دولة عظمى، علماً أن تلك المكانة ليست هبة، ولا تمنح من أحد لأحد، ذلك أن أي دولة لا تكتسب مكانتها بادعاءاتها عن ذاتها، وإنما بفضل ما تقدمه لشعبها وللعالم، في مجال العلوم والتكنولوجيا والسلع الصناعية والخدمات، وبفضل قوتها الاقتصادية وأيضاً العسكرية، وبقوة نموذجها كنظام سياسي. ومشكلة روسيا أنه ليس لديها ما تقدمه على كل تلك الصعد، فما لديها، مع مساحتها الشاسعة، ثروات طبيعية هائلة (نفط وغاز وأراضٍ زراعية)، وصادرات سلاح لم تثبت ذاتها على نحو أفضل بالقياس لغيرها في حروب حقيقية، أي جيش لجيش، علماً أن هذا ما تفعله كوريا الشمالية بتلويحها بين فينة وأخرى بترسانتها الصاروخية والنووية، لكن شتان بين هذه الكوريا، التي يجوع شعبها وتستورد حاجاتها الأساسية، وكوريا الجنوبية كقوة اقتصادية.
الثانية، أن الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، يقضمان من نفوذها الإقليمي، ومن أمنها القومي، وهو ادعاء يعني سلب سيادة دول أوروبا الشرقية، أو الدول التي كانت ضمن الهيمنة الروسية، على نحو ما هو حاصل في الشيشان وبيلاروسيا وكازاخستان، على سبيل المثال. وفي الحقيقة فإن روسيا يفترض أن تقف أمام المرآة، لترى نفسها، أو كي تسأل نفسها، لماذا تختار دول أوروبا الشرقية الغرب، ولا تختارها، رغم كل العلاقات التاريخية التي تربطها بها؟ والفكرة هنا أن روسيا لم تعد الاتحاد السوفياتي، ولم تعد ثمة رسالة تعد بالتقدم والاشتراكية.
أيضاً، ربما بسبب اختبار تلك الدول لثقل نمط الهيمنة الروسية تاريخياً، فهي تفضل التحرر من ذلك الارتباط نهائياً. ثم طالما أن المفاضلة هي أصلاً بين نظامين رأسماليين فمن الطبيعي اختيار النظام الأفضل. طبعاً ليس القصد هنا أن المفاضلة تجري مع جمهورية فاضلة، فلا الولايات المتحدة كذلك، ولا الدول الأوروبية، إذ المفاضلة هي بين دولة تسود فيها الرأسمالية المتوحشة، مع حاكم فرد، وحكم غير تمثيلي ولا ديموقراطي ولا يضمن حريات المواطنين وحقوقهم، ودول متأسسة على الديموقراطية وتداول السلطة والحريات الفردية والتقديمات الاجتماعية، رغم كل ما يعتورها من ثغرات.الثالثة، تتمثل بأخذ روسيا على الأوكرانيين مقاومتهم غزوها، ومقاتلتهم جيشها، كما تأخذ على الدول الغربية والولايات المتحدة شدها أزرهم، ودعمها لهم بشتى الوسائل، بما فيها مضادات الطائرات والدبابات والمسيّرات، كأنها في ذلك تقدم نفسها كضحية، في حين أن الشعب الأوكراني هو الضحية هنا، أو كأنها فوجئت بما لم تعتَد عليه، وهو تجنب الأطراف الدولية أي احتكاك بتدخلاتها، على غرار ما جرى في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا (2014)، لا سيما سوريا (أواخر 2015)، إذ تُرك السوريون وحدهم تحت القصف والتدمير والتشريد، بينما كان بوتين يروج لأسلحته باعتبار أنه تم تجريب 300 طراز من الأسلحة في سوريا، أي باللحم السوري الحي، في حين اتخذ العالم وضعية “النعامة”.
يبقى الأمل بأن تثمر كل تلك الجهود الدولية وقفاً لتلك الحرب، في أقرب وقت، وتالياً إعادة بوتين إلى رشده، ومعرفة حجم روسيا، وسبل تعزيز مكانتها، وتطوير أحوالها، لما فيه مصلحة الشعب الروسي، ولمصلحة الشعب الأوكراني ولمصلحة الاستقرار والسلام في العالم.