حول الاستبداد وصناعة المستبدين (2)

رغم كل المظاهر والممارسات الدينية المتشددة والمتواترة التي يراها الناس ويسمعون عنها كل يوم، وفي غير مكان، فأنا لم أخشَ لحظة واحدة من وقوع سورية في قبضة حكم ديني سلفي متشدد، لأن كل المعطيات والشروط والظروف تؤكد استحالة ذلك، سواء تلك المعطيات المتعلقة بطبيعة الفريق الحاكم، أو بالمجتمع السوري المتنوع، أو بالإسلام السوري (الشامي) المرن والتصالحي، أو بالرعاة الخليجيين والأتراك، أو بالمجتمع الدولي الضاغط والمؤثر.
أما ما أخشاه حقيقةً، وأراه واقعاً يتشكل يوماً بعد يوم، فهو وقوع البلاد في قبضة حكم متسلط مستبد من لون جديد. فتتبخر أحلامنا في الخلاص، وتذهب تضحياتنا هباء.
الإجراءات على الأرض، كالتعيينات في المواقع الحكومية والقضائية والعسكرية والأمنية، والتي تقتصر على الموالين من أهل البيت، وحل الجيش وأجهزة الأمن والشرطة، وإعادة تشكيلها بطريقة لا تسمح لغير المنسجمين بدخولها، إضافة إلى ظواهر أخرى، توحي بأننا ذاهبون نحو حكم سني سلفي متشدد، قد ينحني قليلاً بحكم الحاجة والضغوط، لكنه لا يتغير. لكنني أرى أن الهدف من الإجراءات هو تمكين السلطة وإحكام سيطرتها على البلاد والعباد، وما التمظهر الديني الفاقع لما يحدث سوى وسيلة وأداة لهذا التمكين، أولاً لاستيعاب وتدجين وربما تفريق الفصائل والجماعات المتشددة، رفاق الأمس، ونزع قدرتهم على التأثير، وثانياً لدغدغة العاطفة الدينية لدى شرائح واسعة من طائفة الأكثرية وضمان دعمها.
إذن، أكاد أجزم بأن عين الشرع على الحكم والسلطة والقيادة، وليس على تمكين شرع الله، وأرى أن معاركه الحقيقية الآن وفي المستقبل القريب هي مع من يريدون تمكين شرع الله من رفاق الأمس. إذ أصبحوا حجر عثرة أمام اندفاعته نحو السلطة، وما تتطلبه من تنازلات في نمط التدين وطمأنات للقريب والبعيد، حتى لمن يصنفون بأعداء الله.
لا يمكن لسلفي جهادي أن يتطور ويتغير ويـ(كَوِّع) بهذه السرعة المذهلة التي فاجأت الأصدقاء والأعداء والقريب والبعيد. فالسلفي الجهادي النمطي هو من النوع الصلب الذي يصعب التأثير فيه وتغييره، والتقرب إلى الله هو غايته من هذه الدنيا الفانية. بينما نرى في الشرع كل هذه البراغماتية والقدرة على التطور في اللغة والخطاب واللباس، وكل هذه المرونة والسرعة والرشاقة في الاستجابة للمتطلبات الإقليمية والدولية والمحلية.
لا يعني كلامي أنني أجد مشكلة في مرونة الشرع وقدرته على التغير، بل بالعكس، هذا هو المطلوب، وأنا من أشد المعجبين بهذه المرونة والقدرة على التطور. لكن ما أريد قوله والتنبيه له هو أننا يجب ألا ننجرف وراء سردية الحكم الديني المتشدد، ونتجاهل قصة الاستبداد وشروط تسلله وتشكله، ونحن بالكاد خرجنا من أتون أسوأ استبداد عرفه التاريخ.
كل الشروط اليوم متوفرة لتخلُّق استبداد جديد، فالشرع، بالنسبة لجمهور كبير واسع، حاز صفة البطل المحرِّر بغض النظر عن حجم الدور الذي لعبه في التحرير، ولديه الشخصية الكاريزماتية المناسبة، ولديه البراغماتية والمرونة والرشاقة التي تحدثنا عنها أعلاه، وهو (في نظر ذلك الجمهور) السني الذي انتزع الحكم من براثن العلويين وأعاده إلى أهله. ولديه قبل هذا وذاك، وأهم من كل هذا وذاك، جمهور وازن، عاطفي قصير الذاكرة، يؤخذ بالمظاهر والكلام الطيب، ويجد المبررات ويغض النظر. إذن، بيئة خصبة لنمو بذرة الاستبداد.
نرى الآن صورة الشرع على البروفيلات، ونلاحظ مظاهر التمجيد في الشوارع وحفاوة الاستقبالات، ونلاحظ الدفاع المستميت وسَوق المبررات، ونلاحظ كم التشبيح والتنمر الذي يصيب كل من تسول له نفسه ممارسة حقه وحريته في النقد. وهذه المظاهر هي بالضبط ما يروي ويغذي ويشجع بذرة الاستبداد على النمو والاستحكام، فبذرة الاستبداد موجودة داخل كل منا، والظروف والبيئة هي من تساعد في نموها أو في وأدها، والبيئة هي نحن، جمهور السوريين.
لا يوجد سوري عاقل لا يتمنى النجاح للشرع، ولا يدرك مخاطر وأثمان فشله على سورية وكل السوريين، ومن واجب الجميع أن يكونوا داعمين لنجاح السلطة واستقرارها. إنما لا يعني هذا أن يقتصر الدعم على التأييد الأعمى ودلق المشاعر والتفتيش عن المبررات والتماس الأعذار لكل شيء.
باختصار، علينا دعم السلطة الجديدة بإيجابية وصدق، لكن مع بقاء العين مفتوحة على كل الاحتمالات، ومنها، وعلى رأسها، احتمال تسلل استبداد جديد قد يخرجنا من التاريخ نصف قرن آخر.
النقد الإيجابي البناء لا يضير السلطة الجديدة، ولا يفت من عضدها، بل بالعكس يكون عوناً لها على تصحيح مسارها وتجاوز أخطائها. أما العواطف الجياشة غير العاقلة، والتبرير وغض النظر والتشبيح وقمع الرأي الناقد، فهي من يشجع التوجهات الخاطئة والميول التسلطية، وهي من يصنع القادة الملهمين الذين لا يأتيهم الباطل.
إذا كان للاستبداد حظ في التسلل إلى كل دول العالم، فيجب أن يكون حظه معدوماً في سورية الجديدة بعد أن اختبر أهلها ذلك الاستبداد العدمي الفظيع، ودفعوا فاتورته الباهظة من كراماتهم وحرياتهم ودماء أبنائهم.