إشكالية الدولة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر (1-3)

img

تضم الحركات الإسلامية، في مفهومها الواسع، جميع الأفراد والجماعات التي تسعى لتغيير مجتمعاتها عن طريق اشتقاق أفكارها وبرامجها من الإسلام. وفي حين تختلف هذه الجماعات والأفراد في طرقها ومناهجها وأساليبها، فإنها تتفق على القيمة الإيجابية للإسلام، وتريد تحويل إطار المرجعية في الحياة العامة إلى مرجعية يكون فيها الإسلام، بتفسيراته المختلفة، قوة رئيسية في تشكيل هذه الحياة.

فقر الفكر السياسي الإسلامي

تعود أصول أغلب الجماعات الإسلامية المعاصرة إلى جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر عام 1928 على يد حسن البنا. وما ميز الجماعة عن سابقاتها من الجماعات الإسلامية ما يلي: أولاً، المفهوم الشامل للإسلام، فالإسلام كما يراه البنا “عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف”. ثانياً، أن الجماعة انتقلت من مرحلة الوعظ إلى العمل المنظم، فقد نجحت في التحول إلى واحدة من أكثر الحركات الشعبية المنظمة في المنطقة العربية. ثالثاً، تأكيدها على العمل السياسي، وخوض المعترك السياسي لإحداث التغيير المرتقب. رابعاً، سحبت الحركة قيادة العمل الإسلامي من العلماء التقليديين ووضعته في يد النشطاء الحركيين الذين ينحدر أغلبهم من القطاعات “الحديثة” التي تشكل وعيها وتجاربها في المدارس الرسمية.

وتاريخيّاً، لم يتناول التراث الفقهي السياسي والأحكام السلطانية مفهوم الدولة بمعنى الكيان السياسي الجغرافي المتضمن عناصر: الأرض والشعب والسلطة، بل الدولة كانت تستخدم دائماً بمعنى قريب مما يطلق عليه الآن “الأنظمة السياسية”. وفي هذه الحدود تصف عبارات مثل: دولة بني مروان، دولة بني الأحمر، ودولة بني العباس، من دون أن تتجاوز هذا المعنى. أما “الخلافة”، كما تبدو من خلال أبواب الفقه المختلفة ومؤلفات الأحكام السلطانية، فهي صورة لكيان سياسي، السلطة فيه مركزية تتجمع في شخص الإمام/الخليفة، ومن شخصه تتناسل السلطات.

هكذا يبدو واضحاً أن مفهوم الدولة مفهوم مفارق، إلى حد بعيد، لمفهوم الخلافة. فالدولة ذات وظيفة سياسية بحتة، ورهاناتها متعلقة بالتالي بمصالح الجماعة/الأمة في إطار جغرافي محدد (التراب وطني)، وعلاقتها مع أطياف المجتمع علاقة تعاقدية لتحقيق مصالح الأمة.

إن التنظير لفكرة الدولة الإسلامية، خلال التاريخ المعاصر، حمل كثيراً من الطوباوية لمفهوم الدولة، دون الغوص الحقيقي في آليات العمل، ودون التنظير لفكر سياسي واقعي يملك القدرة على التحرك والمرونة في محيط دولي مضطرب. لذلك بقيت أغلب الكتابات حول “الدولة الإسلامية” مثقلة بعبء التجربة التاريخية الإسلامية ولم تستطع الانفكاك عنها وتجاوزها. وربما تستطيع التيارات والحركات الإسلامية، التي انخرطت في معمعة النضال السياسي الواقعي، تجاوز التجربة التاريخية والتنظير لرؤية إسلامية تعبّر عن فكرة ومشروع الدولة، عمادها الإصلاح السياسي وإقامة الحريات العامة والمجتمع المدني الديمقراطي، وإصلاح الفساد الداخلي والتنمية المستدامة.

إن تبنّي بعض التيارات الإسلامية لفكرة الدولة الحديثة أنتج مشكلات إضافية، إذا ما نظر إليها على خلفية استنساخ فكرة تلك الدولة إسلاميّاً والقول بفكرة “الدولة الإسلامية”، لأن الدولة الحديثة، شكلاً ومضموناً، أعادت ترتيب أولويات الولاءات، فاشترطت الولاء الأول للدولة بكونها مصدر تعريف الفرد، الذي أصبحت صفته كـ “مواطن” هي التعريف الأساسي الذي يسبق بقية التعريفات، وبه تحددت حقوقه القانونية وكذلك واجباته. إذ إن دستور الدولة يفسر طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة، وهو المرجعية الوحيدة التي يعود إليها الطرفان عند الاختلاف، فليس هناك فرق، على مستوى القانون والواجبات والحقوق، بين الأفراد بسبب لونهم أو إثنيتهم أو دينهم، فجميعهم مواطنون.

أما في الدولة الإسلامية المفترضة، فهناك غموض يحيط بهذه المفاهيم، فالولاء مسألة خلافية: هل هو للدولة أم للدين؟ ومسألة غير المسلمين في الدولة الإسلامية ما تزال شائكة، كما أن مسألة ولاء المسلمين المواطنين في دول غير مسلمة هي مسألة أكثر تعقيداً.

إن الفكر السياسي الإسلامي المعاصر مطبوع، إجمالاً، بنزعة تلفيقية، تستخدم الإرث السياسي الماضي في صورة الدولة الحديثة، من دون إحداث تحويرات عميقة عليه، أو صياغته وفق رؤية متماسكة.

وأخيراً، وفي سياق دراستنا لفقر الفكر السياسي الإسلامي، نلاحظ غياب ثقافة المؤسسة لصالح ما نسميه “القدوة والهيبة”، وهي صفات للفرد، إذ إن المؤسسة لا كاريزما لها، لكنها أقدر على رعاية مصالح الناس من الأفراد لأنها تضمن الاستقرار والثبات والاحتكام للقانون.

عناصر الإشكالية

شغلت إشكالية الدولة المؤرخين وعلماء السياسة، وعكفت النخب الفكرية والأكاديمية منذ سنوات على دراسة الأطروحات الفكرية ذات المرجعية الإسلامية التي تتناول علاقة الدين بالدولة، والدولة بالمجتمع، وعلاقة الدولة مع المجتمعات الأخرى. وقد توصلت أغلب الدراسات إلى أن هناك أزمة بنيوية للفكر والخبرة الإسلامية في تحديد خطوط الاتصال والانفصال بين الدين والدولة. إذ ثمة ميول جارفة لإدخال القيم والمبادئ والأحكام والممارسات الإسلامية في قوانين الدولة وممارساتها. ومن أجل ذلك تبلورت صيغتان: أولاهما، في الإسلام السني. وثانيتهما، في الإسلام الشيعي. ففي الإسلام السني المعاصر هناك حديث كثير عن نظرية الحاكمية (المودودي، وسيد قطب)، وفي الإسلام الشيعي هناك تطبيق دستوري وفعلي لرؤية ولاية الفقيه في إيران.

مما يطرح مجموعة عناصر، من أهمها:

1- الدولة الإسلامية

بعد سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية سنة 1924، ثم قيام مصطفى كمال أتاتورك بتدشين نظام جمهوري علماني في تركيا، تجدد الاهتمام بفكرة الخلافة وتجديد فقه السياسة الشرعية. فدافع محمد رشيد رضا عن “الخلافة أو الإمامة العظمى”، ووُجدت مسوّغات القول والجدل حول علاقة الديني بالسياسي، فصاغ علي عبد الرازق خطاباً نقديّاً لنظام الخلافة في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” الصادر عام 1925، وانتشر الجدل واتسع. بعد ذلك، رفع الشيخ حسن البنا شعار “الإسلام دين ودولة”، مما عجّل في بلورة فكرة “الدولة الإسلامية” التي انتشرت في ظل الدولة الحديثة.

ويبدو أن “الدولة الإسلامية”، كما تطورت رؤيتها لدى الإسلاميين العرب منذ حسن البنا وعبد القادر عودة وحتى سيد قطب والغزالي والقرضاوي، هي دولة دينية، لها مهمة رئيسة هي “تطبيق الشريعة”.

ومن نافل القول التذكير بأن الحركات الإسلامية ظلت ترفع شعار “الإسلام دين ودولة”، وقد استندت في التشديد على مركزية هذا الشعار إلى الفهم القاضي بأن انصهار الدين والدولة في وعاء الإسلام لم يكن مرده الظروف التاريخية، بل يحيل إلى علاقة جوهرية ومفهومية، لأن إقامة الدولة واجب من صلب التعاليم الدينية. بيد أن الممعن في متن هذا الخطاب سيلاحظ أن رموزه، بمجرد ما كانوا ينتهون من التأكيد على تلازمية الدين والدولة في الإسلام، ينتقلون رأساً لتحديد دعائم الحكم الإسلامي في ضبابية وغموض، يعكسان غياب النظرة المؤسساتية في خطابهم.

وفي المقابل، هناك أصوات داخل الحالة الإسلامية تنادي بإعادة النظر في فكرة “الدولة الإسلامية” والتركيز على المجتمع، مع القبول بقواعد اللعبة الديمقراطية. ولنجاح هذا المشروع، فلا بد من الاستعانة بقراءة متجددة للنقاط المضيئة في الفكر والتراث العربي – الإسلامي، بغرض التعاطي المجدي مع أكبر التحديات التي تواجه العالم العربي، ألا وهو وضع نهاية للاستبداد ومبرراته.

2- الحاكمية في مواجهة الأمة

وصل الفكر السياسي الإسلامي، مع سيد قطب وأبي الأعلى المودودي، إلى فكرة الحاكمية وأيديولوجيتها، التي برزت في المنتصف الثاني للقرن العشرين. وغدت حينها الشريعة أساساً للمشروعية، وتحولت إلى أيديولوجيا نخبة بالتمام والكمال. وكان من الطبيعي، بعد أن تحوّل مفهوم الدين والشريعة إلى أيديولوجيا سياسية نخبوية، أن يبدأ التنظير لفكرة النظام الإسلامي الشامل، فتزايد انفصال الشريعة عن الجماعة والأمة، عندما غدت الشريعة أيديولوجيا.

لقد أبرزت “الرؤية الحاكمية” الافتراق بين الشريعة والجماعة، أو بين الإسلام والأمة بوصفها جماعة مؤمنة. وقضت على الحلول الوسط: فإما أن تكون الأمة خاضعة لتلك الأيديولوجيا فتثبت إيمانها، أو لا تكون كذلك. ثم تفاقمت أزمة المشروعية لتصل عند الإسلاميين التكفيريين إلى حدود التشكيك في الهوية الدينية والثقافية للمجتمعات الإسلامية.

ومثلما اختلف الباحثون الإسلاميون في مفهوم نظام الحكم في الإسلام، فإنهم اختلفوا كذلك في مفهوم الحاكمية، وقد وصف أبو الأعلى المودودي الدولة الإسلامية بأنها “دولة شاملة محيطة بالحياة الإنسانية بأسرها، تطبع كل فرع من فروع الحياة الإنسانية بطابع نظريتها الخلقية الخاصة، وبرنامجها الإصلاحي الخاص، فليس لأحد أن يقوم بوجهها ويستثني أمراً من أمورها قائلاً: إن هذا أمر شخصي خاص لكيلا تتعرض له الدولة”.

3- الأمة

يحتل مفهوم الأمة مكانة مفصلية في خطاب الحركات الإسلامية، بسبب أن الإسلام مقوم أساسي للأمة، ومعيار رئيسي للتماثل والهوية والولاء. فباعتبار الأمة الوعاء الذي ينتظم في إطاره الأفراد، ويتآلفون في كنفه على “تقوى الله والإيمان به”، فقد غدت مفهوماً متعالياً موسوماً بالعصمة واستحالة الضلالة، خلافاً لنظيره في الدول الحديثة، حيث تأسست الأمة على رابطة المصالح الدنيوية المشتركة.

ويحيل مفهوم الأمة بدوره على أسئلة مركزية، في سياق النظر في علاقة الحركات الإسلامية بالمجال السياسي الحديث، لعل أبرزها معيار الانتماء لديها: هل هو عقدي ديني محض؟ أم سياسي؟ أم ثقافي قيمي؟ أم كل هذه العناصر مجتمعة وإن اختلف ترتيبها في سلم الأهمية؟

إن صياغة أجوبة عن مقوّمات الانتماء إلى الأمة يفتح الباب أمام بناء منظورات جديدة لإشكاليات تعتبر الحركات الإسلامية مطالبة، أكثر من غيرها، بالاجتهاد للتفكير فيها، وفي صدارتها قضية “المكوّنات الأقلوية” غير المسلمة في بلاد الإسلام.

4- المواطنة

ويدور الأمر حول ما إذا كان بالإمكان طرح مفهوم للمواطنة يقوم على أساس التوفيق بين مجتمع مؤمن ودولة لا دينية، أي دولة تحترم الدين وتصون الحريات الكاملة لرعاياها المؤمنين لممارسة شعائرهم الدينية، المتعددة والمختلفة والمتباينة، من دون أن تتخلى عن مدنيتها.

ويبدو أن مفهوم المواطنة التي تعتمد على الرابطة الجغرا-سياسية، وهو من أهم مفاهيم الدولة الحديثة، قد ظهر مع دعوة الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، فقد أدرك منه الجانب المتعلق بالمساواة في الحقوق والواجبات أمام السلطة، لكنه لم يدرك الحقوق السياسية، وعلى ما يبدو كان مفهوم المواطنة مقتصراً على الجانب المدني. وهذا يعزز الرؤية القائلة بأن رواد النهضة العربية الحديثة لم يحيطوا إحاطة متكاملة بمقتضيات الدولة الحديثة، أو حتى بمفاهيمها، فالمسألة بقيت وعياً يمتد على أجزاء من هذه المفاهيم، وهو وعي غير مكتمل، لكن كان واضحاً أنه يمضي باتجاه التكامل.

5- الدولة المدنية

بدءاً من القرن التاسع عشر، ومع الاصطدام بالتفوق الأوروبي، والتعرف على مؤسساته الديمقراطية، تبلورت رؤية إصلاحية خارج “المؤسسة الدينية السلطانية” حاولت توطين المفاهيم الغربية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، مؤكدة مع الشيخين محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي: إن السلطة السياسية في الإسلام سلطة مدنية، وإن الإسلام لا يعرف سلطة ثيوقراطية.

ولأننا ما زلنا في إطار فكر التلفيق، وليس التوفيق والتوافق، فقد وجد بعض دعاة الدولة الدينية الأمر سهلاً للغاية فلجؤوا إلى تعبير الدولة المدنية، على أن تكون لها مرجعية إسلامية. ومثلهم مثل من استخدموا هذا التعبير بدون ربطه بمرجعية معينة، ولكن لم يبذل الذين لجؤوا إليه كبديل عن تعبير الدولة الدينية جهداً لبلورته أو تقديم أي تأصيل له.

ولذلك تظل الأسئلة الأساسية التي يثيرها الحديث عن دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية بلا إجابة، ومنها: كيف يتم تجسيد المرجعية عمليّاً ونظاميّاً، ومن يعبّر عنها وكيف؟


الكاتب الدكتور عبد الله تركماني

الدكتور عبد الله تركماني

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة