حول الاستبداد وصناعة المستبدين (1-2)

ثمة بذرة مستبد داخل كل منا، قد تتوفر لها شروط مواتية فتنمو وتكبر، ويتحول صاحبها إلى مستبد حقيقي، وقد لا تتوفر لها تلك الشروط فتبقى كامنة، وقد تتوفر شروط معاكسة تقضي عليها، فينجو صاحبها ويعيش إنساناً طبيعيّاً متواضعاً.
يأتي على رأس تلك الشروط التي تساهم في صنع المستبدين نشاط مجموعتين من البشر:
- مجموعة المنافقين والمطبلين والانتهازيين والأزلام.
- ومجموعة المحبين العميان قليلي الثقافة قصيري الذاكرة.
يضاف إليهما صمت الآخرين ونأيهم بأنفسهم.
تبدأ صناعة المستبد عندما يمتلك سبباً أو أكثر من أسباب القوة، أي السلطة أو الثروة أو الشهرة، فيبدأ الناس من المجموعتين المذكورتين بإبراز ما لديهم من ضروب النفاق والتملق والتزلف بالنسبة للمجموعة الأولى، ومن ضروب التعاطف والمحبة بالنسبة للمجموعة الثانية، بينما تتفرج المجموعة الثالثة بصمت. إلى أن يبدأ المستبد بتصديق نفسه والاقتناع بمواهبه وقدراته الفذة وبتفوقه النوعي على الجميع، فيتورم ويبعد الأصوات المخالفة والناصحة، ويبدأ باتخاذ الإجراءات التي تعزز نفوذه وتمنع انتقاده وتمنع محاسبته وتمنع منافسته أو إزاحته. فإذا كنا أمام دولة هشة، لا تتوفر على قوى ومؤسسات رادعة، ولا يسود فيها القانون، تذهب الأمور إلى نهاياتها الكارثية.
إذن، تبدأ صناعة المستبد من اللحظة الأولى لوصوله إلى السلطة، وعبر الآلية المذكورة، أي عبر الرافعة الأكبر والأهم، وهي نشاط المجموعتين: تطبيلاً وتزميراً ونفاقاً وتشبيحاً. ولولا هذه الرافعة لما تسنى لمشروع المستبد الصغير أن يتطور إلى مستبد جبَّار.
لا يعلن الدكتاتور عن نفسه من يومه الأول، بل يحتاج إلى الوقت لبناء السردية وامتلاك الأدوات وتأمين الحاشية والبطانة وانتظار الفرص واختراع الأسباب. ومنع هذه الصيرورة منذ البداية ممكن وسهل، ويزداد صعوبة مع الوقت، ليصبح بالغ الصعوبة باهظ الأثمان فيما بعد.
أقول هذا ونحن على أعتاب عهد جديد يملك أسباباً وازنة للتحول إلى حكم دكتاتوري، وعلينا جميعاً الانتباه والقيام بكل ما يلزم لقطع الطريق على هذا المسار.
يملك أحمد الشرع وفريقه قوة دفع ابتدائية كبيرة تساعده على تكريس الاستبداد بسرعة قياسية إذا أراد، منها صورة البطل المحرر، ومنها العاطفة الدينية الجياشة للجمهور، ومنها حالة البلاد الكارثية التي تستوجب إجراءات استثنائية، ومنها غياب المؤسسات وغياب الأحزاب وغياب المعارضة، ومنها جوع الناس إلى الخدمات ولقمة العيش، ومنها، وهذا هو الأخطر، جيش من المطبلين والشبيحة الجدد الذي يقمعون النقد ويهاجمون الأصوات المعارضة.
لا أقصد بكلامي مهاجمة السلطة الجديدة، وأؤكد في كل مناسبة أنني مدين لها بسبب دورها الرئيس في التحرير، وبسبب طريقتها الراقية المسؤولة في التحرير، قياساً بما كنا نتوقع. إنما أريد القول إن علينا أن نبذل ما بوسعنا لنمنع السلطة الجديدة من التحول إلى سلطة مستبدة، عبر النقد والنصح والتوعية. لكن من باب الحرص والرغبة في الدعم والمساعدة.
كيف لا نفعل، ونحن بالكاد خرجنا من حقبة استبداد هو الأقسى والأقذر عبر التاريخ؟
كيف لمن اكتوى بنيران حكم عائلة الأسد أن يغمض عينيه وينسى؟
أختم بالقول لأصدقائي الناقدين: أرجوكم لا تتوقفوا عن النقد، إنما بلطف وصداقة ومسؤولية وتفهم لظروف السلطة الجديدة والتحديات الهائلة التي تواجهها.
ولأصدقائي المدافعين والمبرِّرين أقول: لا تساهموا في صنع استبداد جديد، فبلادكم لا تتحمل، وشعبكم يستحق الحياة، والنقد البناء الصادق لا يضر ولا يضير، بل يفيد ويساعد، ومن مصلحة الشرع ومصلحة جميع السوريين أن تنتقل البلاد إلى دولة حديثة يحكمها نظام ديمقراطي. وعندها سيكون الشرع أكثر من رئيس، بل قائداً تخلده كتب التاريخ.