سلطة الصورة والإبداع والنقد

أثرت الصورة الرقمية على تفاصيل الحياة اليومية والمهنية كافة، وباتت تمثل سمة الحياة الرقمية، مؤثرةً على الحياة والأفعال والسلوكيات الفعلية. أدت سلطة الصور الومضاتية الرقمية والفيديوهات الوجيزة جداً إلى تحول في نمط التلقي والتمثل للواقع الفعلي في السياسة والفنون والأدب ولوقائع الحياة اليومية. كما أثرت في عديد من الأجيال، بما في ذلك كبار السن والشباب والصبية والأطفال، من حيث علاقاتهم ببعضهم بعضاً، ومفاهيم الزمن والصداقة والحب، التي تحولت من الفعلي إلى الرقمي في الاتصال والتفاعل والمشاركة. هذا التحول شمل تفضيلاتهم للصور والمشاعر والطعام والملبس والمشرب والأمكنة والآراء في الأحداث السياسية الداخلية والخارجية في المنطقة والعالم، وحتى في النميمة وحكاياتها الوجيزة، وفي المخادنات والعلاقات خارج الزواج.. إلخ!
لقد كشف هذا التغيير المتسارع في أنماط الحياة وثقافاتها المتعددة عن حلول ثقافات رقمية ورغبات جديدة محمولة عليها، تحل محل ما كان يطلق عليه الثقافة العليا والرفيعة في الفنون والآداب والفن التشكيلي والسينما والمسرح. وامتد هذا التأثير إلى ثقافة الترفيه والاستهلاك السريع، كما يبدو في تقطيع الأغاني والقطع الموسيقية إلى أجزاء صغيرة، وكذلك في تقطيع الأفلام السينمائية إلى مشاهد تعرض على أجهزة المحمول أو اللوح الرقمي، لتستهلكها الأجيال الشابة.
امتدت سلطة الصور الرقمية والفيديوهات القصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي لتشمل نصوصاً وجيزة من رواية أو قصة قصيرة أو أبيات من قصيدة. إلا أن أخطر الظواهر الاستعراضية قاطبة تتمثل في معارض الكتب العربية أو في إعلانات دور النشر عن الكتب الجديدة، حيث باتت صورة الكاتب أو الكاتبة وأصدقائها، ومعهم الكتاب، هي الأهم ومركز اهتماماتهم. ومن ثم، بات الحضور الرقمي للكتاب يمثل نمط الاستعراض الرئيس في حياة الأجيال الجديدة من بعض الروائيين والروائيات والشعراء وبعض الكتاب والصحفيين، في ظل تراجع طقس القراءة المتأنية كما كان يحدث قبل الثورة الرقمية. وأصبحت القراءة الومضة والنظرات الخاطفة للصورة والفيديوهات ومقاطع الأفلام السينمائية والأغنيات والقطع الموسيقية هي السائدة.
لم تعد صورة الكتاب والكاتب محض إعلان أو ترويج له ولمحتواه، وإنما باتت صورته وكاتبه هي الحاضرة في وسائل التواصل الاجتماعي. ويبدو أن محتوى العمل الأدبي والفكري يتراجع لصالح صورته وغلافه، وربما بعض السطور على ظهر الغلاف التي تشير إلى بعض محتواه بشكل عام أو فهرست الكتاب، أياً كان، لحث بعض القراء على اقتنائه!
بات الكتاب، أياً كان مجاله، هو صورته على وسائل التواصل الاجتماعي، ومعه صور كاتبه في دار النشر أو في منزله أو وسط أصدقائه، مع التفضيلات والمنشورات والتعليقات على المجاملات عليه في الفيسبوك أو بعض التغريدات على موقع Z.
ثمة أيضاً الفيديوهات السريعة عن الكتاب الورقي من الكاتب أو بعض أصدقائه ومريديه، يروجون له. بعض من نمط الاستعراضات حول الكتب بات سمة سلوكية للناشرين والكتاب في الندوات التي تبدو الأقرب إلى المزج بين الأسئلة الترويجية للكاتب حول كتابه في حفلات التوقيع في دور النشر أو في بعض القاعات التي تتم فيها هذه الحفلات، والتي تهدف إلى الترويج أكثر من مناقشات جادة حول موضوعه، أياً كان مجاله.
في حفلات التوقيع، باتت الصور والفيديوهات القصيرة هي الهدف الأساسي، الذي يظهر خلاله الكاتب أو الكاتبة بأناقة في الملبس، وسط أصدقائه ومحبيه وغيرهم.
بعض النقاد الجدد بات هدفهم هو الترويج للكتاب أكثر من التحليل النقدي الرصين للعمل، إلا قليلاً من الجادين من النقاد الشباب على قلّتهم. بعض النقاد الشباب أصبحوا جزءاً من ظواهر الاستعراض، كي يكونوا جزءاً من مشاهدها وصورها، ولينضموا إلى ظواهر الحضور في الصور والفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي. ذلك لأن الأجيال الشابة الرقمية لم تعد تطالع الصحف والإعلام التقليدي، الذي لا يهتم غالبه كثيراً بالإنتاج الفكري والإبداعي إلا قليلاً، وعلى نحو خبري أو كتابات وجيزة لا تكفي لتحليلات نقدية رصينة، على نحو ما كان ينشر في القرن الماضي، وخاصة من النصف الثاني منه وحتى العقد الأول والثاني من القرن الحالي، قبل تسونامي المنشورات والتغريدات والصور الومضية والتغيرات في طقس القراءة ومتابعة التحليلات النقدية للأدب والمؤلفات الفكرية العميقة.
تراجع الخطاب النقدي في ظل التطبيقات النظرية المستعارة من المتون النظرية الغربية وترجماتها الآلية أو غير الدقيقة، وممارستها التطبيقية دون تمثل خلاق في تطبيقها على الأعمال الأدبية المصرية والعربية. وبدت هذه التطبيقات محمولة على التكلف والتصنع، ومن ثم ظهرت فجوات بينها وبين النصوص موضع النقد التطبيقي، وغابت معها روح التمثل الخلاق لهذه النظريات في تطبيقاتها التحليلية للنصوص الإبداعية الملهمة.
هذه الفجوات تزايدت مع عديد من الأطروحات الجامعية في بعض كليات الآداب في الجامعات الإقليمية وبعض الكبرى!
غابت الخطابات النقدية التي تعتمد على استيعاب وتمثل النظريات والمفاهيم والاصطلاحات الأدبية المستعارة من المتون الغربية، وأيضاً من الشكلانيين الروس وغيرهم من المدارس، ثم التطبيقات الخلاقة لها على الإنتاج الأدبي المصري والعربي – الشعري والروائي والقصصي والمسرحي – مع حساسية وذائقة إبداعية ولغوية متميزة. بعض الخطابات النقدية اللامعة كانت تحلل نقدياً بعض النصوص الأدبية مع التنظير المباشر لها، على خلفية استيعاب الموروث النقدي والبلاغي العربي والغربي في تواشج وائتلاف خلاق، مرجعه تكوين الناقد الرصين المبدع.
ارتبطت حركة الإبداع المصري والعربي بحركة ثقافية ونقدية في المجتمع شبه الليبرالي، ثم في مرحلة التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وفي ظل الثقافة الورقية – إذا جاز التعبير – والندوات والجمعيات الأدبية والصحف والمجلات الثقافية البارزة، وحركية التفاعلات الجيلية في مصر ولبنان وسوريا والعراق، وتفجر حساسيات أدبية مختلفة وتفاعلات مع الإنتاج الأدبي في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق وأمريكا اللاتينية وأفريقيا والمدارس الأدبية والنقدية والسينمائية الأوروبية والأمريكية.
من هنا، واكب النقاد المبدعون الأعمال الروائية والقصصية والمسرحية من عقود الخمسينيات حتى السبعينيات، واستطاعوا تقديم الوجوه والإبداعات المختلفة لجيلي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، من الروائيين والقصاصين والشعراء والمسرحيين، وكرسوا حضورهم الخلاق في المشهد الأدبي.
استمر هذا الاتجاه النقدي مع جيلي السبعينيات والثمانينيات من النقاد، الذين واكبوا أعمال أجيالهم، وتم تقديم بعض المبدعين من جيلي الثمانينيات والتسعينيات، الذين شكلوا حالة خاصة في الأدب المصري والعربي، من حيث القطيعة مع عالم السرديات الكبرى التي شغلت عوالم الأجيال السابقة. وبات الفضاء الأدبي يدور حول هموم الذات والاغتراب في عالم مختلف ومدن مريبة ضاجة بالصخب والعنف والانفجارات السكانية. من هنا، غلبت المشهدية وانكشاف الذات الجريحة، ومعها أنساق لغوية ذاتية خارجة من منابع الألم الفردي، في أجواء سائلة يبحث فيها الإنسان عن الأمان الفردي والحب والصداقة، في فضاءات مكانية تأوي القادمين من الأرياف إلى هوامش المدينة – القاهرة والإسكندرية – بحثاً عن أمل ما ويقين غائب ومراوغ. ثمة سعي في بعض هذه الأعمال الأدبية عن المعنى في الحياة والوجود الإنساني والتحقق الفردي، في عالم وواقع سائل ومضطرب.
بعض النقاد الشباب أسهموا في اكتشاف هذه الأرواح المبدعة الشابة من جيل التسعينيات، سواء على مستوى الدراسات والأطروحات الجامعية أو التحليلات النقدية في بعض الصحف والمجلات. مع ثقافة النفط وتظاهراتها والألفية الجديدة والثورة الرقمية، حدثت تغيرات كبرى من حيث الاهتمام ببعض الأصوات الأدبية في إقليم النفط، بقطع النظر عن مستوياتهم الإبداعية، سعياً وراء الهجرة إلى هذه البلدان أو المشاركة في منتدياتهم الثقافية، على نحو أثر على الحركة النقدية، التي تفككت وهمشت كنتاج لشيوع بعض من الشللية النقدية وغياب الأصوات النقدية ذات الثقل، أو تركيز بعضهم على أعمال ذوي الشهرة من كبار الأدباء، واللامبالاة بأعمال الأجيال الجديدة، ونزوع النقاد الأكاديميين إلى التطبيق الآلي – إذا جاز التعبير – للنظريات النقدية الغربية المترجمة، دون دقة وحساسية ترجمية لدى بعض المترجمين.
هذا النمط من النقد التطبيقي الآلي – إذا جاز التعبير – أدى إلى تهميش هذا النمط من الخطابات النقدية، وبروز فجوات واسعة بين الخطابات النقدية والقراء.
تسللت روح الشللية، ثم بعض الصالونات الأدبية للسراة في الأندية والمنازل والفيلات المرفهة، إلى أعمال بعضهم دون الآخرين، ومعهم بعض النقاد الذين يروجون لهؤلاء الكاتبات والكتاب!
بات النقد أسيراً لبعض الكتاب والكاتبات، ويدور حولهم على نحو أدى إلى حالة من تراجع النقد الخلاق الرصين، إلا قليلاً من بعض النقاد الجامعيين أو من بعض النابهين من النقاد غير المدرسيين.
ساهمت الجوائز الأدبية العربية السخية دولارياً، ومعها بعض الجوائز المصرية، في انفجارات روائية، غالبها الأعم يفتقر إلى التجارب العميقة والتخييلات الخلاقة والأسئلة الوجودية والذاتية المقلقة والملهمة، وأيضاً إلى النضج الفني والإبداعي، ومعها هامشية الحركة النقدية الخلاقة التي تتابع بدأب وجدية هذه الأعمال والظواهر الحاملة لها!
قلة قليلة من هذه الأعمال تتسم بالجدية والتخييل الخلاق والبنى المتماسكة واللغة المختلفة!
أدت هذه الجوائز السخية مالياً إلى سعي الكتاب والكاتبات إلى إنتاج أعمال كل سنة من أجل التقدم إلى هذه الجوائز، ومعها الشهرة والانتشار.
أصبحت الجوائز مسرحاً للصور الرقمية والفيديوهات والاستعراضات، وباتت هي مركز الظهور، وتراجعت الأعمال الأدبية، أياً كانت، لصالح الصورة في مشاهد إعلان الجوائز أو في الندوات أو معارض الكتب، حيث تسيطر لغة الصور والفيديوهات الوجيزة جداً. وبات الجميع – الكتاب والنقاد وبعض القراء على قلّتهم وأصدقاء الكتاب – يلهثون وراء سلطة الصورة على الحياة الرقمية، بينما تحول الكتاب – أياً كان – إلى محض صورة هامشية في طوفان الصور الرقمية والمنشورات والتغريدات على الحياة الرقمية فائقة السرعة والنظرات والومضات.
المصدر: الأهرام