العدالة الانتقالية: الطريق إلى سوريا المستقبل
بعد أن تمكن السوريون من إسقاط منظومة الأسد، باتت أمامهم مهمة وطنية كبرى تتمثل في إعادة بناء الدولة السورية. هذه المهمة ليست بالسهلة، بل إنها تمثل التحدي الأكبر والأكثر خطورة، خاصة وأن نظام الأسد ووالده خلّفا إرثًا ثقيلًا من الدمار الذي أصاب المجتمع والبنية التحتية في كافة المجالات، سواء الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية.
العدالة الانتقالية: بوابة البناء
إن معركة بناء سوريا المستقبل تعتمد بشكل أساسي على مدى نجاحنا في تحقيق العدالة الانتقالية. فالعدالة الانتقالية ليست مجرد مفهوم نظري، بل هي البوصلة التي يمكن أن تقودنا إلى بر الأمان. نجاح السوريين في تطبيقها يعني أننا نضع سوريا على المسار الصحيح نحو الاستقرار والتنمية. العدالة، هنا، ليست خيارًا ترفيهيًا، بل هي قيمة أساسية وحق إنساني. وهي الأساس الذي يمكن من خلاله ضمان حقوق الضحايا وتعزيز ثقة السوريين في دولتهم الناشئة.
تجارب العديد من الدول التي عانت من الدكتاتورية أو النزاعات الأهلية مثل جنوب إفريقيا، رواندا، غواتيمالا، سيراليون، المغرب، وتشيلي، أظهرت أن العدالة الانتقالية هي خطوة إلزامية في طريق المصالحة الوطنية. هذه الدول تبنّت العدالة كمنهجية لمعالجة الماضي المؤلم، ومنعت تكرار الانتهاكات، وبدأت من خلالها عملية البناء الداخلي على أسس سليمة.
سوريا وطن للجميع
سوريا اليوم هي وطن لجميع السوريين بمختلف انتماءاتهم، وتزخر بطاقات بشرية هائلة قادرة على المساهمة في بناء مستقبل أفضل. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا المستقبل مرهون بقدرتنا على معالجة المظالم والانقسامات التي تفاقمت خلال العقود الماضية. فبدون عدالة، لن يكون هناك سلام مستدام في سوريا.
رغم الدمار الهائل والصعوبات الجمة، فإن الظروف الحالية توفر فرصة حقيقية لبناء منظومة عدالة انتقالية تعكس تطلعات الشعب السوري وتتناسب مع واقعه. ما يُعرف بـ”سورنة العدالة” يعني تكييف العدالة الانتقالية مع الخصوصية السورية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه العدالة ستكون مقدمة للإصلاح السياسي وبناء الثقة بين السوريين.
أهداف العدالة الانتقالية
إن العدالة الانتقالية في سوريا تهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:
1. الاعتراف بالضحايا: يمثل الاعتراف بمعاناتهم خطوة أولى نحو معالجة الماضي.
2. تعزيز الثقة في مؤسسات الدولة: بناء مؤسسات قوية تستند إلى سيادة القانون.
3. احترام حقوق الإنسان: تعزيز ثقافة حقوق الإنسان كقيمة مطلقة وأساس لأي مجتمع متقدم.
غياب العدالة يعني هدرًا لمنظومة حقوق الإنسان بأكملها. عدم محاسبة المجرمين ومرتكبي الانتهاكات يخلق خللًا بنيويًا في ميزان العدالة. ومن هنا، فإن العدالة لا تتجزأ، ويجب أن تطال كل من ارتكب جرائم، بغض النظر عن موقعه أو مكانته.
تطبيق العدالة في سوريا
تحتاج سوريا إلى تضافر جهود الخبراء القانونيين والقضاة والحقوقيين لتطبيق العدالة، سواء من خلال القوانين الوطنية أو بمعايير دولية. يمكن الاستفادة من تجارب دولية مثل قانون روما الأساسي الذي تطبقه المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، لضمان شمولية العدالة.
يجب أن تشمل العدالة جميع الجرائم التي ارتُكبت، بما في ذلك:
• جرائم الحرب.
• الجرائم ضد الإنسانية.
• جرائم الإبادة.
العدالة التي ننشدها
العدالة التي يتطلع إليها السوريون ليست عدالة انتقامية أو ثأرية، وليست عدالة المنتصر، بل هي عدالة شاملة تطال كل من ارتكب انتهاكات بحق الشعب السوري. إنها عدالة تهدف إلى تحقيق المصالحة الوطنية، بعيدًا عن الانتقام الذي قد يُفسد مفهوم العدالة برمته.
بعد 13 عامًا من الحرب الدامية ضد نظام استبدادي حكم سوريا بقبضة من حديد لمدة 54 عامًا، يتطلب بناء سوريا المستقبل رؤية واضحة ترتكز على العدالة والمحاسبة. العدالة الانتقالية هي الأداة التي يمكن أن تجمع السوريين، وتعيد بناء الوطن على أسس قوية، خالية من الظلم والانقسام.
خاتمة
إن معركة العدالة الانتقالية ليست مجرد هدف، بل هي ضرورة وجودية لضمان سلام مستدام ومستقبل مشرق لسوريا. بناء سوريا الجديدة يتطلب منا جميعًا الالتزام بالمبادئ الإنسانية، والعمل الجاد من أجل تحقيق العدالة، ليس فقط للضحايا، ولكن أيضًا من أجل الأجيال القادمة. العدالة ليست مجرد كلمة، بل هي أساس كل تغيير حقيقي ومستدام.