القانون ذو البُعد الواحد، وانهيار الشمولية السياسية

img

عديد الأسئلة التي تطرحها هشاشة الدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية ومساراتها الاستبدادية، في علاقة النظم السياسية العربية بمسألة دولة القانون والحق، والحرية. انهيار النظم الشمولية في سوريا، والسودان، وليبيا.. الخ، والحروب الأهلية هل لها علاقة بثنائية القانون، والحرية في المنطقة العربية؟

تبدو العلاقة، وثيقة العرى، لأن النظم الاستبدادية، وبعض التسلطية، حولت التوازنات الدقيقة بين القانون والحرية إلى سياسة أحادية، حيث مسار القانون بلا حرية، ومن ثم باتت الدساتير، والقوانين محضُ وثائق بلاغية أكثر من كونها تعبيراً عن مصالح الطبقات الاجتماعية الشعبية، والوسطى – الصغيرة، والوسطى – الوسطى، وإنما كانت تعبُر عن مصالح مواقع القوة في تركيبة النظام، ومؤيديه وأتباعه والموالين له، وأيضا مراعاة مصالح الطبقة الجديدة التي نشأت مع التحول إلى الليبرالية الجديدة، من داخل هيكل القوة داخل النظام وأعطافه الفاسدين، وقواعده الدينية والمذهبية والعرقية والقبائلية والعشائرية… إلخ، ومن قلب ظواهر الفساد الهيكلي في أجهزة الدولة البيروقراطية، على نحو أدى إلى فجوات سوسيو – نفسية، وسوسيو – دينية بين قوانين الدولة، وبين الغالبية العظمى من الشعوب العربية، التي تتساقط فوق حياتها القوانين التي لا يعرفون عنها شيئاً، والتي تفرض عليهم التزامات، وقيوداً باهظة من الضرائب والرسوم، وأيضاً تجريماً متنامياً لعديد من السلوكيات الاجتماعية، دونما ضمانات إجرائية، وموضوعية تلتزم بها جهات الأمن، والتحقيق، وأجهزة إنقاذ القانون. تحولت الدساتير، والحقوق والحريات الدستورية إلى نصوص في البلاغة السلطوية الفارغة، وإلى تناقضات بين بعضها، وبعضها الآخر، وبعضها يلغى في القوانين المكملة للدساتير في الأغلب الأعم، وخاصة في النصوص المتعلقة بالدين الرسمي، واعتباره المصدر الرئيس للتشريع على نحو يؤدي إلى توظيفات سياسية وضعية للدين بامتياز، لوضع قيود على بعض الحريات العامة، والشخصية. الأخطر أن القوانين المنظمة للحريات العامة، والشخصية، تفرض قيوداً ثقيلة عليها على نحو تؤدي معه فعلياً إلى تصفية هذه الحقوق، وخاصة في حريات الرأي، والتعبير، والبحث الأكاديمي، وتنظيم الأحزاب السياسية، والجمعيات الأهلية، وحرية التدين والاعتقاد لاسيما للأقليات الدينية، والمذهبية.

المصادرة الفعلية للحقوق والحريات العامة، حول القانون إلى محضُ أداة سلطوية ترمى إلى الهيمنة على سلوك الأشخاص، والمجتمع من أعلى إلى أسفله، دونما مراعاة لمصالح أغلبية الشعوب العربية إلا قليلاً لاعتبارات تتصل بدعم الاستبداد السياسي، واستقرار النظام. في تركيبة النظام السوري، الذي ارتكز على تجمع أقليات في صلبه – قام بتهميش الأغلبية السنية – وخاصة مع تغلغل جماعة الإخوان المسلمين، واستخدام بعض الموالين له حزبياً من البعث، وذلك في بعض المواقع السلطوية والقيادية في الحزب الحاكم، والأحزاب الموالية المتوافقة مع النظام، وذلك دونما حياة سياسية أو حزبية أصلا، وفي ظل موت دائم للسياسة من أسفل إلى أعلى، ومن القمة السلطوية للقاع الاجتماعي!

في ليبيا كانت التركيبة القبلية، والمناطقية للنظام الاستبدادي في خدمة الكولونيل القذافي، وتصوراته الهذيانية كما صوره بعضهم!، وتغيراتها المفاجئة، وغالبها مفارق للواقع الموضوعي الداخلي، والإقليمي، والدولي. كانت كلمات وانطباعات العقيد بمثابة قانون يتم تنفيذه واقعياً على المكونات القبلية والمناطقية سواء صدر بها قانون، أو لم يصدر!، وأدى ذلك إلى التدخل الدولي على ليبيا أثناء ما سمي بالربيع العربي، ومن ثم إلى تفكك الدولة والنظام، ونشوب حرب أهلية مدعومة خارجياً، ومحمولة على القبائلية والمناطقية، التي تحولت إلى قبائلية سياسية، لم تؤسس لدولة وطنية قبل القذافي، وما بعده.

في اليمن، كانت القبلية السياسية، هي أساس النظم الجمهورية، وانقلاباتها، وسياسة الرشاوى السياسية من بعض الدول النفطية للزعامات القبائلية الداعمة لها، وأيضاً ممن يجلس على العرش الجمهوري، ويتم استبعاد بعض المجموعات المذهبية، على نحو جعل من اليمن دائرة واسعة للتدخل الإقليمي من دول الجوار، أو من إيران، ومن ثم تحول إلى ساحة للتدخلات عبر بعض الفواعل ما دون الدولة، التي استطاعت أن تسيطر علي الدولة، وأيضا كانت هيمنة بعض أبناء القبائل الكبرى جزءاً من هيكل القوة القبلية للدولة، والنظام. كانت الأعراف القبلية في اليمن، وليبيا هي من لها الهيمنة على قوانين الدولة داخل هذه المجتمعات القبلية! في مواجهة القوانين التي تحولت إلى أداة للسيطرة والتطبيق حال إذا رغب الحاكم في تطبيقها على بعض من معارضيه، على نحو ما يشير إليه تاريخ النظام الجمهوري في ليبيا واليمن.

في السودان، ما بعد الاستقلال، كانت قبائل الوسط النيلي وهويتها العربية المتخيلة تسيطر على “مؤسسة البيتين الميرغنية والمهدية”، ثم في إطار ثنائية الحكم المدني ثم العسكري وانقلابات طيلة سودان ما بعد الاستقلال، وكانت بعض القوانين لا تعدو سوى أدوات للسيطرة، وخاصة في ظل الانقلابات العسكرية المتلاحقة في أعقاب فشل الحكم المدني، ومن ثم كانت القوة داخل قبائل الوسط النيلي العربية في هياكل الدولة الهشة، واستبعادات وتهميش للمكونات السودانية القبلية والعرقية الأخرى في إقليم دارفور وقبائل البجا في الشرق، وشمال كردفان، وجنوب السودان، وكلها تم تهميشها في حياة الدولة والمجتمع والنظام أياً كان مدنياً أو عسكرياً. استخدمت مسألة الهوية وصراعاتها بين قبائل الوسط النيلي العربية، إزاء الثقافة والعرق الأفريقي المسلم، وغيره في بقية مكونات المجتمع السوداني المتعدد.

في ظل التهميش، والإقصاء العرقي والديني تغيب غالبا الحرية عن القانون الفعلي للقوة والسيطرة، أيا كانت النصوص الدستورية حول الحريات العامة، والمساواة أمام القانون، وتكافؤ الفرص، والحريات الدينية، وهو ما تكرس خاصة في ظل حكم النميري وما بعد، والتحول إلى نظام ديني، إزاء جنوب السودان، وأيضا في ظل حكم حزب المؤتمر الوطني الظهير الإسلامي والقناع الديني الإيديولوجي لثلاثين عاماً من حكم عمر أحمد حسن البشير، وبعض من أتباع حسن الترابي اللذين انقلبوا عليه، وأسندت إليهم مواقع قيادية في نظام عمر البشير.

في هذه النظم الاستبدادية التقليدية، لم تكن الدساتير والقوانين تشكل تعبيراً عن التوازنات بين المصالح الاجتماعية المتصارعة لصالح معني الدولة والنظام السياسي، ومن ثم لم تراعي وتتجسد الحريات العامة والشخصية في التطبيق، وإنما تحول القانون إلى أدوات لقمع الحريات باسم تأويلات النظام للدين، ومحاصرة ووأد أية إمكانيات للمبادرات الفردية أو الجماعية، ومن ثم أثرت على العقل الجمعي، من خلال معتقلات الروح، والضمير، والعقل، ومحاولات يائسة لهندسة السلوك الفردي، والجماعي المؤدلج دينياً من السلطة الحاكمة.

كانت القوانين ولا تزال في غالب الدول والمجتمعات العربية موجهة لضبط السلوك الفردي والجمعي للمخاطبين بقواعدها، وأحكامها، ومن ثم بدت في التطبيق وكأنها لا تضبط قواعد السلوك السلطوي، ولا أجهزة الدولة البيروقراطية، وخاصة المنوط بها إنفاذ القانون، على نحو جعلها توظف القانون لصالحها، من خلال الفساد الإداري الهيكلي، والرشوة والاختلاس والفسادات في غالب تفاصيل الحياة اليومية، ومن ثم غادرت وظائف الردع العام والخاص القانون الجنائي ونظامه الإجرائي، وتحول إنفاذ القانون، أو تعطيله جزءاً من فساد الموظفين العموميين، أو مراعاتهم لقانون الواقع، وهيمنة ذوي الثروة والمكانة في السلطة، أو من كبار الأثرياء عند قمة النظام الاجتماعي ومصالحهم. من ثم فقد القانون وظائفه في الضبط الاجتماعي، والردع العام وتنظيم الحياة الاجتماعية.

الأخطر أن المجتمع بات أكبر وأضخم من السلطة وأجهزتها البيروقراطية، والأمنية كافة، وتحولت أجهزة إنفاذ القانون – الأمنية والاستخباراتية في سوريا، وليبيا والسودان.. إلخ – إلى حماية النظام الاستبدادي، إزاء المعارضين، والعقل الحر، وحصار مراكز البحث العلمي – إن وجد بعضها على ضعفها – في الجامعات وخارجها على نحو أدى إلى تفاقم تدهور هذه المراكز، وبأدوارها الفعلية المعطلة في درس المشكلات الاجتماعية والاقتصادية.. إلخ.

تحولت القوانين الجنائية والإجرائية إلى أدوات تقييد الحريات العامة والشخصية، توظفها السلطات الاستبدادية السورية والليبية، والسودانية… إلخ في قهر مجتمعاتها، والأخطر أن السلطة في ممارساتها التي عصفت بالحريات، والمجال العام السياسي، كانت تتجاوز القوانين الاستبدادية التي وضعتها سواء أكانت قوانين عادية – ومحمولاتها من القيود على الحريات – أو قوانين استثنائية – نظام الطوارئ – على نحو جعل مفهومي الدستور، والقانون فاقدين لمعناها، وتحولت الحياة في سوريا، واليمن وليبيا والسودان.. إلخ، إلى فضاءات لاستباحة المجتمع عبر الحديد والنار، والاعتقالات والسجون، والتعذيب، والموت بلا حساب.

لا شك أن خروج أجهزة الدولة والسلطة على القانون مرجعه موالاة السلطات القضائية في هذه الدول الوطنية الهشة، للسلطان الجمهوري المتغلب والمستبد، وهو ما أدى إلى دعم سياسة استباحة السلطة للمجتمع، ومن ثم تزايد وتفاقم الفجوات بين معنى الدولة، والنظام الاستبدادي، واختزلت الدولة في النظام الاستبدادي، الذي اختزال وتجسد في حافظ الأسد، وابنه بشار الأسد، والعقيد القذافي، ومحاولته وضع ابنه مكانه كوريث له! وهو ما جعل المجتمع ضد الدولة والنظام!

أدت هذه الممارسات الاستبدادية خارج الدساتير والقوانين إلى نفي مفهوم الدولة في الوعي الجمعي لغالبية الشعوب لصالح النظام الاستبدادي، الذي يخلط في تشوش في عديد الأحيان بين الدولة، والنظام، والحاكم ومواليه وزبائنه السياسيين.

كرس تشوش مفهوم الدولة الوطنية، التركيبات الانقسامية في سوريا، وليبيا، والسودان – التي انفصل جنوبها المهمش عن الشمال – وفشل النظام الاستبدادية، في سياسات التكامل الداخلي، التي اعتمدت على القمع والعنف، الذي كرس الانقسامات الداخلية، وهويات مكوناتها المختلفة في مواجهة الهوية الوطنية الهشة. من هنا كانت ولا تزال النظم الدستورية، والقانونية، والممارسات السلطوية خارجها جزءاً من إضعاف وهشاشة الوطنيات ما بعد سايكس/بيكو والدول ما بعد الكولونيالية، وتكرست في ظل انهيارات الدول والنظم في ليبيا، وسوريا، والسودان.. إلخ، وعلامة على الاضطرابات الإقليمية، والسيولة الجامحة في المنطقة العربية، وعربدة إسرائيل وتركيا، وإيران في داخل بعض الدول العربية “الهشة” في الإقليم.

المصدر: الأهرام


الكاتب نبيل عبد الفتاح

نبيل عبد الفتاح

باحث وكاتب صحفي مصري. مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وشغل منصب رئيس مركز تاريخ الأهرام، كما عمل رئيساً لفريق تحرير "تقرير الحالة الدينية" في مصر. مختصّ في شؤون الجماعات الإسلامية الأصولية.

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة