انهيار النظام السوري والعقل السياسي الضحل

img

تبدو التعليقات، والمنشورات، والتغريدات الومضات، والفيديوهات السريعة في غالبها حول انهيار مؤسسات الدولة السورية التراجيدي، تعبيراً عن العقل الرقمي، وتعبيراته المرسلة، وانطباعاته الجامحة، والأخطر دورانها بين حدي أحكام القيمة الومضة، وبين الجهل وانعدام المعرفة بالدولة والمجتمع وسوريا، وأيضاً النظام والمجتمع الطائفي اللبناني، والحرب الأهلية والمجتمع في السودان، وليبيا! ثمة اختلاق للأكاذيب، والمؤامرات، والأخطر أيضاً، المقالات والتحليلات السريعة، والمقابلات التلفازية المحمولة على الإثارة السياسية، واليقين المحمول على حقائق مطلقة ثاوية في غالب العقل الرقمي، والفعلي في غالبُ العالم العربي – والاستثناءات قليلة جداً، ولا يسمع إليها – وهذا مرجعه الرغبة في الحضور الأثاري على التلفازات القضائية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي – الأمر لا يقتصر على الحالات السورية، واللبنانية، والفلسطينية، ولا على سياسة الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، ولا في تدمير أكثر من 350 موقعاً عسكرياً للجيش السوري الذي تحلل، وتفكك في سرعة فائقة، تتجاوز تسليحه، أو علاقته بالنظام، وتركيبة القوة داخله. محضُ أمر بالتسليم، والانسحاب، فوراً ثم تحلل الجيش دونما مقاومة، قادة كبار، وضباط، وصف ضباط وجنود.

أكثر من 54 عاما من حكم الأسرة الأسدية بقوة النيران والاغتيالات، والتعذيب، والاعتقالات، -والقتل في سجون النظام الرهيبة، ومع ذلك كان الانهيار، فائق السرعة على نحو بالغ الإثارة، ومحمولاته من الأسئلة. هنا يثار السؤال لماذا انهارت الدولة السورية، ومعها السودانية والليبية، وغيرهم في عالمنا العربي؟

يشير هذا السؤال إلى تاريخية بناء الدولة ما بعد الكولونيالية وطابعها الاستبدادي والتسلطي، وفشل نخب ما بعد الاستقلال في بناء سلطاتها الثلاث التشريعية، والقضائية والتنفيذية، ومؤسساتها المدنية، والأمنية، والعسكرية، وغياب العقل السياسي والتاريخي، والمؤسسي الخلاق، الذي يستوعب حقائق الواقع الاجتماعي، والديني، والمذهبي، والعرقي، والمناطقي، ومن ثم يؤسس لسياسات للتكامل الوطني، والجوامع السياسية والثقافية، والقيمية المشتركة، عبر ثقافة سياسية ديمقراطية تمثيلية، أو تشاركية، تؤسس لجسور، ومؤسسات سياسية تكرس التفاعل الخلاق بين المكونات الأساسية داخل مجتمعات انقسامية وطائفية ودينية ومذهبية، مثل سوريا، ولبنان، وقبلية وعرقية مثل السودان، وليبيا!

ضحالة العقل السياسي الاستبدادي، والتسلطي وعدم استيعابه للتجارب التاريخية في بناء الدول الحديثة، وتطوراتها، وأيضاً كيفية تشكل القوميات، والدول الأمة في أوروبا، وأمريكا الشمالية، وأيضاً مدى تنوع وفاعلية سياسات الاندماج الداخلي، في علاقتها بالنظام السياسي وطبيعته، ومؤسساته، ودور النظام الاقتصادي وسياساته، والتنمية الاجتماعية والسياسية والثقافية.. إلخ! في دعم وتطوير أنسجة التكامل الوطني.

الطابع “المحلي” – الطائفي والديني والمذهبي والعرقي الضيق – هو الذي سيطر على العقل السياسي الضحل في هذه البلدان – والاستثناءات محدودة – وهو ما أدى إلى تحيزات قادة ما بعد الاستقلال، وإلى هذه اللحظة إلى انتماءاتهم وخلفياتهم الدينية والمذهبية والطائفية.. الخ. سيطرت هذه الولاءات علي عقل الحكام ومحاسيبهم، وزبائنهم السياسيين، في بناء القوة حيث ساد الولاء للحاكم الفرد، ومراكز القوة حوله، وغلبة الطائفية، والقبلية، والديانة والمذهب، والعرق، والقومية، ومعهم الموالين لهم من بعض الجماعات التكوينية الحليفة معهم.

من سمات العقل السياسي – أو اللاسياسي – الضحل عدم التكامل بين سياسات التنمية الاجتماعية، وبين المكونات كافة، والمناطق داخل كل بلد، والتركيز على العواصم، وبعض المدن الكبرى – المريفة – وخاصة مناطق تركز قواعدهم الدينية والمذهبية والطائفية دون بقية مكونات المجتمع، والدولة، على نحو فاقم من تهميش جماعات أساسية، ومناطقها، وأيضاً غياب سياسات اجتماعية تكرس العدالة التوزيعية، وثمار التنمية، بين الطبقات الاجتماعية كافة، وخاصة الطبقات المعسورة من العمال والفلاحين والبدو، “والبورجوازية والبرولتياريا الرثة” خاصة في هامش الحياة في المدن المريفة.

الأخطر تهميش الثقافة، وغياب سياسات ثقافية تكرس وتحفز التنوع، والتعدد الخلاق بين المكونات الثقافية المختلفة، والتفاعل الخلاق بين هذه المكونات الثقافية، في بناء ثقافة التعايش المشترك، والجوامع الكلية بين هذه المكونات المتعددة، التي تبنى وتؤسس لمفهوم الوطنيات الجامع لهذه التعدديات، وتمايزاتها المختلفة.

مرجع ذلك أن الانقلابات العسكرية في نظم طائفية وقبائلية وعرقية، ومذهبية – كسوريا والعراق والسودان وليبيا – محمولة على طبيعة تكوين هذه الجيوش، وقادتها، ومحاسيبها، أدى لعدم الاهتمام، بتحويل الجيوش إلى مؤسسات عسكرية حديثة، تكون مركزاً رئيساً لبوتقة صهر لهذه المكونات على مثال الجيش المصري منذ بناء الدولة الحديثة، ومؤسساتها في عهد محمد علي باشا، وإبراهيم باشا، إلى جيش جمال عبدالناصر، وما بعد. مؤسسة عسكرية وطنية، تمثل وحدة الأمة المصرية، والدولة الحديثة. هذا الاستثناء التاريخي المصري، ارتبط بعمليات التحديث السلطوي، والنزعة شبه الحداثية في المرحلة الليبرالية، والنظام شبه الليبرالي قبل ثورة 23 يوليو 1952، ومن ثم بالقومية المصرية، وأحد تعبيراتها المؤسسية الجيش المصري.

القوة الثقافية المصرية، كانت جزءاً من العقل الثقافي والسياسي للنخبة المصرية، ومن ثم كانت أحد أبرز محفزات تكوين القومية المصرية، ووحدة الأمة، بقطع النظر عن التغيرات السياسية، والاحتلال البريطاني، ومن ثم أثرت على الحركة القومية الدستورية في كفاحها نحو الاستقلال الوطني، وسيادة الدستور الديمقراطي – دستور 1923 – من هنا كان العقل السياسي النخبوي، ومعه النخبة الثقافية المصرية، والطبقة الوسطى بعد الانتفاضة الجماهيرية العظمي 1919، يركزون على التكامل، والاندماج القومي المصري.

الاستثناء التاريخي المصري، مختلف عن غالبية المجتمعات العربية – مع دولة المخزن المغربية، وتونس نسبياً – الجيش في مصر مؤسسة جامعة، وبوتقة للتفاعل الوطني، وخاصة في ظل ما أسماه أنور عبدالملك، العروة الوثقى بين الجيش، والأمة.

في المجتمعات الانقسامية العربية، كان المكون الأغلبي أو الأقلي المسيطر، هو الذي يهيمن على الجيش، وبقية مؤسسات الدولة. العقل الطائفي والديني والمذهبي والعرقي – السودان مثالاً – كانت الانقلابات العسكرية أحد سمات هذه النظم الانقلابية. ومن ثم تمركز العقل السياسي الضحل – أو اللاسياسي – على أبنية القوة – الجيش والأمن الاستخبارات – في فرض الهيمنة على جميع المكونات الرئيسية في هذه الدول ووطنياتها الهشة على نحو جعل من الآلة القمعية هي كل شيء، ومعها سياسات القمع والاغتيالات والاعتقالات، والاختفاء القسري، والتعذيب، والمعتقلات، والسجون سيئة السمعة عالمياً، مثل سجن صيديانا في سوريا، وسجون عمر البشير في السودان، والقذافي في ليبيا، وصدام في العراق.. إلخ.

سياسات القمع كرست القهر، ورهابُ الخوف لدى “المواطنين” على نحو أدى إلى معتقلات العقل والضمير والإيمان الفردي – أياً كان – والجمعي، وموت السياسة، والمبادرات الفردية والجماعية. والأخطر تمركز المكونات الأساسية – أياً كانت – حول تاريخها الخاص، وسردياتها القولية أو الكتابية، ومن ثم لهوياتها العرقية أو اللغوية – الأكراد، والأمازيغ والقبائل الأفريقية في السودان قبل وبعد استقلال الجنوب – على نحو ساهم بفعالية في تنشيط انتفاضة الهويات، التي أدت إلى تعطيل الهويات الوطنية الهشة بقوة القمع السلطوي.

من هنا يمكن تفسير رهُاب الخوف في بعض اللحظات التاريخية – في الحالة السورية – داخل قادة الجيش، وهياكله القيادية، ومعهم قواعدهم من ضباط الصف والجنود، الذي ظهر مع بوادر دخول قوات تحرير الشام – المدعومة من تركيا وفيما يبدو الولايات المتحدة وإسرائيل، وأطراف أخرى – بسرعة إلى عديد المناطق، وهو ما يعني أن القوة المسلحة والأمنية المتغطرسة تحمل في أعطافها رهُاب الخوف، على نحو يؤدي إلى تفككها وانهيارها فائق السرعة، خوفاً من الموت في المعارك، أو الاعتقال أو المحاكمات، على نحو ما جرى في سوريا!

لا مواجهات فعالة حدثت في سوريا لمواجهة قوات المعارضة الإسلاموية المسلحة ومكوناتها المختلفة، وإنما انهيارات وهروب! إنها رهُاب الخوف أو التفكك السريع للقوة المحمولة على الخوف. العقل السياسي الضحل الذي يعتمد على القوة الباطشة يحملُ معه “باثولوجيا” الانهيار، أيا كانت مدة وجوده في السلطة، والتحكم في تفاصيل الدولة والمجتمع كافة، وحياة المواطنين.

إنها الباثولوجيا الطائفية والمذهبية والعرقية، التي لم تستطع القوة العسكرية، والأمنية، أن تؤسس للتكامل الوطني العابر للمكونات الأساسية لمجتمعاتها، ومن ثم تحملُ معها بعض من شروخها، وتبدو حاملة للخوف، في ظل تغير الموازين في لحظة تاريخية ما.

الحالة السورية، وانهيار أبنية القوة – الجيش والأمن والأجهزة الاستخباراتية المتعددة – في اللحظة الماضية تبدو استثنائية في تاريخ النظم الشمولية العربية، ودلالة على تغيرات تبدو في الأفق لتغيرات جيوسياسية، وجيومذهبية في المنطقة، وأيضاً علامة على فشل الاعتماد على قوات وقواعد عسكرية لروسيا، وإيران، التي لم تستطع أن تدعم جيشاً لم يستطع مواجهة قوات المعارضة الإسلامية الراديكالية المسلحة – من القاعدة وداعش وغيرهم – والمدعومين من تركيا وآخرين! الأخطر أن أحزاب السلطة قبل وبعد الوصول إليها كحزب البعث، انهار تماماً، كما حدث في سوريا، وقبلها العراق بعد الغزو الأمريكي.

حالة الانهيارات السورية للدولة، و”مؤسساتها”! السلطوية تمثل حالة استثنائية، وتمثل درساً لجيوش الدولة الانقلابية ما دون الدولة/الأمة في غالب البلدان العربية، وأيضاً ما سوف تكشف عنه بعض المعلومات التي سترشح وتتالي فيما بعد، وأيضاً مواقف السلطة الانتقالية، وقاعدتها السنية المذهبية السياسية، تجاه بقية المكونات الطائفية، والدينية خلال المرحلة الانتقالية الاولي وما بعدها!

الدرس السوري في الانهيار تاريخي بامتياز، ويحفز العقل السياسي والبحثي على دراسته في عمق مؤسس على المعلومات لا الانطباعات المرسلة، والآراء المؤدلجة السطحية، وأكاذيب وسائل التواصل الاجتماعي.

المصدر: الأهرام


الكاتب نبيل عبد الفتاح

نبيل عبد الفتاح

باحث وكاتب صحفي مصري. مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وشغل منصب رئيس مركز تاريخ الأهرام، كما عمل رئيساً لفريق تحرير "تقرير الحالة الدينية" في مصر. مختصّ في شؤون الجماعات الإسلامية الأصولية.

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة